الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة

حديث الفأرة تقع في السمن

          الحديث الثَّالث: حديثُ الفأرة تقع في السَّمن، ذكره في باب «النَّجاسات تقع في الماء والسَّمن»، [خ¦236]
          وقولك: عرِّفني عن هذا الباب وغيره؛ / كيف أصَّلَ أهلُ المدينة في الماء؟ ولخِّص لي فيه وجه الصَّواب، فقد أشكل هذا الأصل.
          فالجواب: أنَّ حديث الفأرة التي وقعت في السَّمن الجامد، فقال رسول الله صلعم: «خُذُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَأَلْقوه(1)»، إلى ههنا انتهى حديث أكثر أصحاب ابن شهابٍ الذي رووه عنه عن عبيد الله(2) عن ابن عبَّاس عن ميمونة، وقد رواه مَعْمر بهذا الإسناد، ورواه أيضًا بإسنادٍ آخر: عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة، فعند مَعْمر فيه عن الزُّهري حديثان: أحدهما: حديث عبيد الله(3) عن ابن عبَّاس، والآخر: حديث سعيد عن أبي هريرة، وفي حديث أبي هريرة: «إِنْ كَانَ جَامِدًا؛ فَخُذوها وَمَا حَوْلَهَا وَأَلْقُوه، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا؛ فَلاَ تَقْرَبُوهُ»(4).
          هذه رواية عبد الرزَّاق [عن معمرٍ](5) عن الزُّهريِّ، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلعم.
          ورواه عبد الواحد بن زيادٍ عن معمرٍ بهذا الإسناد، وقال فيه: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا؛ فَاسْتَصْبِحُوا بِهِ»(6)، واختلف العلماء في الاستصباح بالزَّيت والمائعِ تقعُ فيه الميتة، وفي بيعه، ولم يختلفوا في أكل ما وقعت فيه الميتة من المائعات / غير الماء وشرب ذلك أنَّه لا يُجوِّزه إلَّا من شذَّ عنهم، وقد ذكرنا حكم الزَّيت يقع فيه الميتة، وما في ذلك للعلماء من الأقوال والآثار في كتاب «التَّمهيد»(7)
          وأمَّا الذي سألتَ عنه: كيف أصَّل أهل المدينة؟ وأحببتَ تلخيص ذلك وإظهار وجه الصَّواب فيه؛ فالجواب عن ذلك أنَّ أصل أهل المدينة في الماء كتابُ الله ╡ وسُنن رسوله صلعم: أمَّا الكتاب؛ فقول الله تبارك وتعالى اسمه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، فسمَّى الله الماء طهورًا، والطَّهور هو المطهِّر لغيره؛ مثل الضَّروب والقَتول، وهو الذي يُكثر الضَّرب والقتل والفعل في غيره، وقد يكون أيضًا بمعنى: طاهرٍ؛ مثل: صابرٍ وشاكرٍ وصبورٍ وشكورٍ وضاربٍ وقاتلٍ، والمعنيان جميعًا في الماء صحيحان، والماء القَرَاح الصَّافي؛ كماء السَّماء وماء البحار والأنهار والعيون والآبار إذا لم يُخالطه شيءٌ؛ فهو طاهرٌ مُطهِّر، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين.
          والماء الذي وصفنا طاهرٌ مُطَهِّرٌ بإجماعٍ، فلا وجه للإكثار فيه، قال الله ╡: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون:18]، وقد تقدَّم أنَّ الماء النَّازل / من السَّماء طهورٌ، وقال رسول الله صلعم: «الْمَاءُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»(8)، وأجمعوا أنَّ الماء الطَّاهر _كثيرًا كان أو قليلًا_ إذا خالطته النَّجاسة فغلبت عليه، أو ظهرت فيه بريحٍ أو لونٍ أو طعمٍ؛ أنَّها قد أفسدته، وأنَّه قد حَرُم كما حَرُمت النَّجاسةُ، وخرجَ من حكم الطَّهارة.
          وكذلك أجمعوا أنَّ الماء المُسْتَبحِر(9) الكثير إذا دخلت فيه النَّجاسة فلم تظهر فيه بلونٍ ولا طعمٍ ولا ريحٍ ولا أثرٍ أنَّ ذلك الماء الطَّاهر؛ مُطهِّرٌ كما كان، سواءٌ في الحكم طهارتُه.
          فإن كان الماء قليلًا أو كان غير مُسْتَبْحِرٍ(10)، وحلَّت فيه النَّجاسة، فلم يظهر فيها لونٌ ولا طعمٌ ولا ريحٌ؛ فهذا موضعٌ كثر فيه النِّزاع والاختلاف قديمًا وحديثًا، واختلفت فيه الآثار أيضًا، وأصَّل أهل المدينة فيه، وهو أيضًا مذهب أهل البصرة، وإليه ذهب أكثر أهل النَّظر، وهو الذي اختاره أكثر أصحابنا المالكيُّون من البغداديِّين؛ أنَّ ذلك الماء طاهرٌ مُطهِّرٌ قليلًا كان أو كثيرًا؛ لأنَّ الماء لا ينجِّسه شيءٌ إلَّا ما غلب عليه، ولو نجَّسه غيرُ ما يغلبُ عليه الماء؛ صحَّت به(11) طهارته لأحدٍ أبدًا، ولو كان القليل منه(12) يفسده قليل النَّجاسة؛ ما صحَّ الاستنجاء بالماء لأحدٍ، والحجَّة / في هذا المذهب لسُّنَّة رسول الله صلعم في صبِّه على بول الأعرابيِّ ذَنُوبًا من ماءٍ حين بال في المسجد عنده [خ¦219]، وهو أصحُّ الأحاديث كلِّها المنقولة عن النَّبيِّ صلعم في الماء من جهة الإسناد والمعنى، وفيه دليلٌ واضحٌ على أنَّ كلَّ(13) الماء من النَّجاسات والحكم للماء، لا للنَّجاسة، ولا مراعاة لما خالطه ومازجه إذا كان الماء غالبًا؛ لأنَّ هذا حكم ما جعله الله طهورًا مطهِّرًا لغيره، ومعلومٌ أنَّ البول إذ أمر رسول الله صلعم بالصَّبِّ عليه قد مازج، ولكن لمَّا كان الماء غالبًا كان مطهِّرًا للبول، وكان الحكم له، ولم يكن للبول المستهلك فيه حكم لسنَّة رسول الله صلعم، ولا فرقَ عندنا بين حلول الماء على النَّجاسة وبين حلولها عليه، ولم أرَ للذين فرَّقوا بينهما من الشَّافعيِّين حجَّةً يعجز الخصم عن معارضتها، وليس شيءٌ من المائعات يحلُّ هذا المحلَّ غير الماء، فاعلمه، والماء عندنا لا يفسده إلَّا ما غلب عليه من النَّجاسات المُحرَّمات، أو ظهر فيه منها، وهذا مذهب مالك بن أنسٍ وأهل المدينة وأكثرهم، وهي رواية / المدنيِّين من أصحاب مالكٍ عن مالكٍ، وكذلك حكاه أبو المصعب عن مالكٍ وأهل المدينة،
          وأمَّا المصريُّون من أصحاب مالكٍ؛ يفسده عندهم قليل النَّجاسة، وإن كثر؛ لا يفسده إلَّا ما غلب عليه من النَّجاسة أو ظهرت فيه بطعمٍ أو ريحٍ أو لونٍ، ولم يحدُّوا بين القليل والكثير حدًّا، وهذا مذهب الشَّافعيِّ سواءٌ، إلَّا أنَّه حدَّ(14) في ذلك حدًّا لحديث القلَّتين(15)، وروى ابن القاسم عن مالكٍ في الجنب يغتسل في الحوض الذي يُسقى فيه الدَّوابُّ، ولم يكن غسل ما به من الأذى؛ فقال: (قد أفسد الماء ونجَّسه).
          وسئل عن الحياض التي تكون بين مكَّة والمدينة؛ وهي حياض كبارٍ يغتسل فيها الجنب ولم يغسل ما به من الأذى؟ فقال: (أكرهُ للجنب أن يغتسل في الماء الدَّائم، ولا يضرُّ الماء ذلك إذا كان كثيرًا)، فقد تبيَّن بما ذكره ابن القاسم عنه ما أضفنا فيه عنهم، وقد سئل ابن القاسم عن إناء الوضوء يسقط فيه مثل رؤوس الإبر من البول؟ فأجاب: (فإنَّه قد نجس)، وإلى هذا ذهب جماعة أصحاب مالكٍ من أهل المغرب ومصر إلَّا عبد الله / ابن وهبٍ؛ فإنَّه قال: (فيما روى المدنيُّون عن مالكٍ: أنَّ الماء قليله وكثيره لا ينجس إلا بما غلب عليه أو ظهر فيه) على حسب ما وصفنا.
          وقد رُوي عن أصحابنا في البئر تقع فيه النَّجاسة الميتة رواياتٌ مضطربةٌ؛ أكثرها: على أنَّ البئرُ يفسد ماءَها الميتةُ تقع فيها، وكان إسماعيل بن إسحاق يقول: (إنَّ كلَّ ما رُوي عن ابن القاسم وغيره من(16) مثل تلك الرِّوايات؛ فإنَّما هي على طريق التَّنزُّه والاستحباب)، وأمَّا الأصل في الماء عندنا كما ذكرنا، ولقد سأل أحمد بن المعدِّل عبدَ الملك عن البئر تقع فيه الميتة؟ فقال: (يُنزَح منها عشرون، ثلاثون، أربعون دلوًا) قال أحمد: ثمَّ قال: أفلا سألتني عن قولي هذا؟ فقلتُ: لقد هممتُ أن أسألك حتَّى بدا شيءٌ، فقال: (إنَّما قلت هذا لك؛ لئلَّا تظنَّ أنَّ في هذا حدًّا أو شيئًا واجبًا؛ وإنَّما هو لتطييب النَّفس عليه، والماء على طهارته حتَّى يتيقَّن فيه النَّجاسة)، وهذا قولٌ صحيحٌ في النَّظر والأثر.
          وقد أتينا على [مزيد إيضاحٍ](17) لهذا المعنى، وتقصِّي القول فيه بالآثار المرفوعة وغيرها عن علماء المدينة وسلفهم، وبالحجج الواضحة / في كتاب «التَّمهيد»(18)، وبالله التَّوفيق.
          حدَّثني محمَّد بن إبراهيم قال: حدَّثنا محمَّد بن معاوية، [ح] (19) أخبرنا عبد الله بن محمَّدٍ قال: حدَّثنا حمزة بن محمَّدٍ قالا جميعًا: أخبرنا أحمد بن شعيبٍ قال: حدَّثنا قتيبة بن سعيدٍ قال: حدَّثنا حمَّاد، عن ثابتٍ، عن أنسٍ: أنَّ أعرابيًّا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلعم: «دَعُوهُ»، فلمَّا فرغ؛ دعا بدلوٍ فصبَّه عليه، وهذا حديثٌ ثابتٌ صحيحٌ، وقال يحيى بن معينٍ: (أثبت النَّاس في أنسٍ ثابتٌ البُنانيُّ، وأثبت النَّاس في ثابتٍ حمَّاد بن سلمة)، وقد رُوي أيضًا من وجوهٍ كثيرةٍ من حديث أنسٍ وحديث أبي هريرة عن النَّبيِّ صلعم، فمن ادَّعى أنَّ طهارة الأرض لها حكمٌ منفردٌ؛ فعليه إقامة الدَّليل، ولن يجد إلى ذلك سبيلًا.


[1] لفظ البخاري: (فَاطْرَحُوهُ).
[2] في المخطوط تحريفًا: (عبد الله).
[3] أخرجه أبو داود [ح: 3844].
[4] زيادة لا بدَّ منها.
[5] مشكل الآثار [ح: 5354].
[6] في الحديث الرابع لابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله، التمهيد: 9/33.
[7] أخرجه أبو داود [ح: 68] والترمذي [ح: 66] والنسائي [ح: 325].
[8] في المطبوع خطأ: (المستجد).
[9] في المطبوع: (مستجر).
[10] الكلام في المخطوط محتمل، وهذا أرجح ما رأيناه.
[11] في الأصل: (منهما).
[12] في الأصل: (فيه).
[13] في الأصل: (أن وجد).
[14] مراده حديث ابن عمر ♦ الذي أخرجه أبو داود [ح: 63] في سننه: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلعم عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ؟ فَقَالَ صلعم: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ».
[15] في الأصل: (عن).
[16] بياض في الأصل.
[17] في الكلام على الحديث الخامس عشر لإسحاق عن حُميدة، 1/318.
[18] زيادة لا بدَّ منها.
[19] في الأصل: (عن).