الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة

حديث: أن النبي أسلم من يهودي طعامًا

          الحديث الثامن عشر: حديث الأعمش قال: تذاكرنا / عند إبراهيم الرَّهنَ في السَّلم، فقال: حدَّثني الأسود عن عائشة: «أنَّ النَّبيَّ صلعم أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَارْتَهَنَ مِنْهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ».
          وقلتَ: هل يجوز الرهن في السَّلم؟ قلتَ: وكأنَّه إذا أحدث في السَّلم الرهن لا يُعرف بما رهن أبرأس المال أو بالمُسَلَّم فيه؟ وإن أخذه برأس المال؛ فرأس المال غير الدَّين، إنَّما دَيْنُه ما أسلم فيه [و] رأس المال لا يجبُ الطلبُ به، وإن أخذه بالمُسَلَّم فيه فكأنَّه اقتضاه قبل أجله؟ هذا نصُّ ما ورد في كتابكَ.
          فالجواب: أنَّ الذي نزع به إبراهيم من حديثه عن الأسود عن عائشة حين سُئل عن الرهن في السَّلم، وجهٌ صحيحٌ وقَبِلَهُ مَنْ نَظَرَهُ؛ لأنَّ الرَّهن إذا جاز بالسُّنَّة في الدَّين الثابت من ثمنٍ في طعام أو غيره، فكذلك يجوز في السَّلم لأنَّه دَينٌ ثابت في الذمَّة مضمونٌ، كثمن سلعةٍ مبيعةٍ سواء، والقرآن قد أطلق المداينات وعمَّها، ولم يخصَّ سَلَمًا من غير سَلَمٍ، فأباح فيها الرهن والوثيقة بما أمكن من الإشهاد وغيره، قال الله ╡: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} الآية [البقرة:282]، وقد رُوي عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس قال: / (أشهدُ أنَّ السَّلف المضمون إلى أجلٍ معلومٍ بكيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ، أحلَّه الله ╡ وأذن فيه، أما تقرؤون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] ؟!)
          قال أبو عمر: الرهن والكفيل في السَّلَمِ جائز عندنا بظاهر القرآن، والسُّنَّة، والقياس على إجماع العلماء على إجازته في الدَّين المضمون من غير السَّلَمِ، وهذا كلُّه قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأبي(1) حنيفة وأصحابهم، والرهن عند مالكٍ والشافعيِّ بالمُسَلَّم فيه، لا برأس المال وبالمسلَّم فيه فأيُّهما شاء، قالوا: لأنَّ رأس المال كبعض السَّلم وقد يدخل السَّلم دواخل فلا يجب إلَّا رأس المال، وقال مالك ☼: (يجوز الرَّهن والكفيل في السَّلَم)، قال: (ولم يبلغني عن أحدٍ أنَّه كَرِهَهُ إلَّا الحسن، وليس به بأس).
          قال أبو عمر: ممَّن أجاز الرهن والكفيل في السَّلَم مجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، والشَّعبيُّ، وقد رُوي عن الحسن إجازته، ورُوي عنه كراهته، وكذلك النَّخعيُّ اختلف عنه فيه أيضًا على حسب ذلك، فروي عنه الوجهان جميعًا، وكذلك اختلف عن ابن عبَّاس وابن عمر ☻ في ذلك أيضًا، فروى خالد الحذَّاء / عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ أنَّه كره الرهن والكفيل في السَّلَم، وروى الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن مِقْسم عن ابن عبَّاس أنَّه كان لا يرى بأسًا بالرهن والكفيل في السَّلَم، وروى ابن جُرَيج عن عمرو بن دينار عن ابن عمر: أنَّه كان يجيزُهُ، وروى هُشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جُبير عن ابن عمر قال: (ذلك الربا المضمون)، وكَرِهَهُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ ☺، لم يختلف عنه فيما علمتُ، وروى ابن جُريج وسفيان بن عيينة، عن زياد بن سعيد، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي عياض أنَّ عليًّا كره الرهن في السَّلَمِ، وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة مثل ذلك أيضًا من كراهته، وهو قول الأوزاعيِّ، وأحمد ابن حنبل، وأبي ثور، وقد أخبرنا بالصَّحيح عندنا مما اختلفوا فيه، وهو جائزٌ على ما ذكرنا بدليل الكتاب والسُّنَّة والقياس على الإجماع.
          وقد أمر الله ╡ عند التنازع بالردِّ إلى كتاب الله وسنَّة رسوله صلعم، ولم يجعل في الاختلاف والتفرُّق حجَّة، بل ذمَّ ذلك ومدح الإجماع وتواعد من اتَّبع غير سبيل المؤمنين أن: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} الآية [النساء:115]، فما أجمعوا عليه فحقٌّ، وما اختلفوا فيه فواجبٌ النظرُ / فيه، وردُّهُ إلى أشبه الأشياء به من الكتاب والسُّنَّة والأصول الصَّحيحة، وبالله التوفيق.
          وأمَّا قولكَ: (إن أخذ الرهن بالمُسَلَّم فيه؛ فكأنَّه اقتضاه قبل أجله)؛ فقول ضعيف؛ لأنَّ الرهن وثيقة، وليس في الاستيثاق شيء من معنى الاقتضاء؛ لأنَّه(2) لو شاء أن يبيع(3) الرَّهن في سَلَمِهِ قبل حلول أجله؛ لم يكن ذلك له، ولو كان الرهنُ كالقضاء لم يصحَّ بالدَّين المؤجَّل أبدًا، والرَّهن أشبه بالإشهاد منه بالاقتضاء، ولذلك جعله الله بدلًا من الكتاب والإشهاد بقوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، والله أسأل السداد والرشاد.


[1] في الأصل: (أبو).
[2] في الأصل: (إلا كأنه).
[3] في الأصل: (يتبع).