تهذيب ذهن الفقيه الساري لما وافق مسائل المنهاج من تبويب البخاري

باب قوله: {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون}

          قال البخاري: باب قوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ}[النساء: 166] وقال مجاهد: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}[الطلاق: 12] بين السماء / السابعة والأرض السابعة، ثم ساق حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلعم: «يا فُلان إذا أويتَ إلى فراشك فقل: اللهمَّ أسلمتُ نفسي إليك، ووجَّهتُ وجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجأتُ ظَهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا مَنْجا منكَ إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيك الذي أرسلتَ فإنك إن متَّ في ليلتك متَّ على الفِطرة، وإن أصبحتَ أصبتَ خيرًا». [خ¦ 7488]
          وحديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلعم يوم الأحزاب: «اللهمَّ مُنزل الكِتاب، سريع الحساب، اهزم الأَحزاب وزَلْزلهم»[خ¦2933].
          وحديث ابن عباس: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}[الإسراء: 110] قال: أنزلت ورسول الله صلعم متواري بمكة، فكان إذا رفع صوته سمع المشركون فسبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} حتى يسمع المشركون {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تُسمعهم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } أسمعهم ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن [خ¦7490].
          أقول: عقد البخاري هذا الباب إشارة إلى أن مذهب أهل السنّة والجَماعة أن القرآن كلام الله مُنزل غير مخلوق، قال البيهقي في «مناقب إمامنا الشافعي»: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرنا عبد الله بن محمد الفقيه: أخبرنا أبو جعفر الأصفهاني: أخبرنا أبو يحيى الساجي إجازة سمعت أبا سعيد المصري يقول: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق.
          أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت عبد الله بن محمد بن علي بن زياد: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة: سمعت الربيع يقول: لما كلّم الشافعي ☼ حَفصَ الفَرد فقال حفص: القرآنُ مخلوق، فقال له الشافعي: كفرتَ بالله العظيم.
          أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرني أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤذن، عن عبد الواحد بن محمد الأرغياني، عن أبي محمد الزبيري قال: قال رجل للشافعي: أخبرني عن القرآن خالق هو؟ قال الشافعي: اللهم لا، قال: فمخلوق؟ قال الشافعي: اللهم لا، قال: فغير مخلوق، قال الشافعي: اللهم نعم، / قال: فما الدليل على أنه غير مخلوق، فرفع الشافعي رأسه وقال: تُقرُّ بأن القرآن كلام الله؟ قال: نعم، قال الشافعي: سبقت في هذه الكلمة قال الله تعالى ذكره: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}[التوبة: 6] وقال الله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء: 164] قال الشافعي: فتقرُّ بأن الله كان وكان كلامه أو كان ولم يكن كلامه؟ فقال الرجل: بل كان الله وكان كلامه، قال: فتبسم الشافعي وقال: يا كوفيين إنكم لتأتوني بعظيمٍ من القول إذا كنتم تقولون بأن الله كان قبل القول وكان كلامه، فمن أين لكم: إن الكلام الله، أو سوى الله، أو غير الله، أو دون الله، قال: فسكتَ الرجل وخرج. انتهى.
          وقال القاضي أبو المعالي بن عبد الملك في بنائه على طريقة الأشعري: وكذلك قالت المعتزلة: كلام الله مخلوق مخترع مبتدع، وقالت الحَشَوية والمُجسِّمة: الحروف المقطَّعة والأجسام التي تكتب عليها والألوان التي تكتب بها وما بين الدَّفتين كلها قديمة أزلية، فسلك ☺ طريقة بينهما فقال: القرآنُ كلام الله قديمٌ غير مغيَّر ولا مَخلوق ولا حادثٍ ولا مبتدع، وأما الحروف المقطعة والأجسام والألوان والأصوات المحدودات وكل ما في العالم من المكتبات فمخلوق مبتدع مخترع. انتهى.
          ولفظ الأشعري: ودانوا بخلق القرآن نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين حيث قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر: 25] فزعموا أن القرآن كقول البشر .. . إلى أن قال: ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن من قال بخلق القرآن كان كافرًا.
          وقال الغزالي[الإحياء 1/91] في ما سيأتي عنه: وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رُسُله صلوات الله وسلامه عليهم، وإن القرآن مَقروء بالألسنة مكتوبٌ في المصاحف مَحفوظٌ في القلوب، وإنه مع ذلك قديمٌ قائم بذات الله تعالى لا يقبل الانفصال والفراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق.
          إذا تقرر ذلك، فالكلام على ما ترجم به البخاري[قبل:7379] من قوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}[النساء: 166] الآية، وقد سبق الكلام عليها في الكلام على قول البخاري باب قول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} الترجمة.
          وموضع الدلالة منها في قوله: {أَنْزَلَهُ} / وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}[الطلاق: 12] أي: في العدد، قال ابن عباس: سبع ليس بعضها فوق بعض مثل القبة كالسماوات، ولكنها أرضون منبسطة، وقيل: إن نافعًا الأزرق سأل ابن عباس: هل تحت الأرضين خلق؟ قال: نعم، قال: فما الخلق الذي تحت الأرض؟ قال: إما ملائكة وإما جن، وقيل: إنه سئل عن هذه الآية فقال: لو أخبرتكم بشرحها لكفرتم لأجل تكذيبكم بها.
          قوله تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أي: بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى، وهذا معنى ما نقله البخاري عن مجاهد[قبل7488].
          وقال أهل المعاني: هو ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنهار والشتاء والصيف والخلق والحيوان على اختلاف هيئاته وأنواعه وينقلهم من حال إلى حال.
          قال ابن كيسان: وهذا على مجاز اللغة واتساعها كما يقال للموت: أمر وللرياح والسحاب ونحوها.
          وقال قتادة: في كلِّ أرضٍ من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه.
          قوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: لا تخفى عليه خافية.
          قال ابن عطاء: أحاط علمه بالأشياء لأنه أوجدها ولم يحط أحد به علمًا لامتناع الأزلي أن يلحقه شيء من الحوادث، وموضع الدلالة منها في قوله: {يَتَنَزَّلُ}.