تهذيب ذهن الفقيه الساري لما وافق مسائل المنهاج من تبويب البخاري

خاتمات

          خاتمات:
          أحدها: أمر الله سبحانه عباده بالتوبة في آيتين فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31]، وقال: / {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}[التحريم: 8]، ووعد قبول التوبة في آيتين قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}[التوبة: 104]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}[الشورى: 25]، ووعد بالمغفرة للتائبين في آيتين فقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طـه: 82]، وقال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}[غافر: 3].
          وقدم للتائبين في آيتين فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة: 222] وقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}[التوبة: 112] الآية.
          والآيات في التوبة كثيرة جدًا مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}[النساء: 17]، وقوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام: 54]، وقوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأعراف: 153].
          وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[النحل: 119]، وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنَّة وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}[مريم: 60]، وقوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان: 70]، ومن جملة الآيات: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية السابقة.
          قال عبد الرزاق(1): أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت البناني، عن أنس قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} بكى.
          وروي عن ابن مسعود أنه قال: هذه الآية خير لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها.
          وقال ابن سيرين: إعطاء الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في كفارات ذنوبهم.
          وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: يا رسول الله لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل؟ فقال النبي صلعم: «اللهم لا نبغيها _ثلاثًا_ ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه / وكفارتها، فإن كَفَّرها كانت له خزيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة، فما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل» قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء: 110].
          وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: 78] هو سعة الإسلام، وما جعل لهذه الأمة من التوبة والكفارة.
          وقال سفيان بن عيينة: كما نقله عنه القرطبي في قوله تعالى حكاية عن موسى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[البقرة: 54] الآية: التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم، وكانت توبة بني إسرائيل القتل، انتهى.
          وقد قال المعبرون في قوله تعالى في هذه الآية: ومن رأى أنه قتل نفسه فإنه يتوب للآية.
          ولما كانت التوبة من خصائص هذه الأمة لا جرم، فإن نبينا صلعم نبي التوبة كما في «صحيح مسلم»[2355] من حديث أبي موسى، كان رسول الله صلعم يسمي لنا نفسه فيقول: «أنا محمد، وأحمد، والمُقفِّي، ونَبي التَّوبة، ونبي الرَّحمة».
          وقد قال التجيبي في «شرح أسمائه صلعم»: اسمه صلعم نبي التوبة لما كانت النبوة قوامًا في ذات النبي، وفيما بينه وبين ربه اختصاصًا جرت في الأمور الباطنة، والأمور المتشعبة أكثر من الرسالة، وجرت الرسالة فيما هو من نسبة ما بين النبي والأمة التي أرسل إليها، فكانت أخص في أمر النبي، وأعم في أمر الأمة، وأظهر في معانيه، فكانت الرسالة أولى بما هو تبليغ إليهم، وكانت النبوة إليهم بما هو مردٌّ لهم إلى ما هو فيه صلعم من مرجعه إلى ربه واختصاصه بما خص به، وكانت التوبة أعلق بأن تكون من أمر النبوة، فلم يكن الاسم رسول التوبة، وكان الاسم نبي التوبة، والتوبة مرجع العبد إلى الله من حد بعده في أسفل سافلين إلى أعلى عليين مما يبدو عليه ظاهرًا من فعله وقوله وحاله، فبنبوته صلعم عاد الخلق إلى ربهم في ما اختلفت فيه أعمالهم ومختلفات أحوالهم؛ لأن كل مزدوجين من أحوال الخلق وأعمالهم وأقوالهم صنف منهم للحوبة / وصنف منهم للتوبة، فما منه يبعد فهو للحوبة، وما منه يقرب فهو للتوبة، فهو صلعم نبي إرجاع الخلق عامهم وخاصِّهم إلى ربهم من حد البعد إلى حد القرب إلى غاية الوصول.
          ولما كان من إحاطة الرحمة التي أرسل بها أن يسر الأمر على أمته بما رفع عنهم من نقمات الأمم الماضين، إلى أن صار أمرهم إلى عقوبة الملاحم، فكان نبي الرحمة، وعوفيت أمته أن يكون لها نبي نقمة، كذلك أيضًا لطف بهم كما رفق بهم، وكان كما هو نبي الملحمة نبي التوبة، فكانت التوبة لهم لطفًا أن تنالهم الملحمة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة: 34]، فكانت التوبة لهم عوضًا من الملحمة التي في مضمون قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}[المائدة: 33]، هذه ملحمة كانت تحل بهم عقوبة لمحاربتهم، فرفق بهم في قبول توبتهم، ولم تكن محاربتهم حاقة عليهم بالملحمة لتخلصهم منها بالتوبة، فكان نبي التوبة التي أغنى موقعها عن الملحمة التي موقعها عن النقمة، فرفق بهم ثم لطف بهم، وعم ذلك جميع كافرهم ومؤمنهم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَنْ تَابَ}[الفرقان: 68 - 70].
          وعامة من تقدم من الأمم كانت الحواق تلزمهم بالنقمات على أفعالهم، وإنما تكون توبتهم فيها كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}[البقرة: 54]، ولما ذكر له صلعم بعض القوم حال بني إسرائيل فيما كان يصبح مكتوبًا على أبوابهم حين يقارفون الذنوب من كفارات آصار، كانوا يلزمون بها من قطع الأعضاء وغيرها، عوضهم الله بذلك آية التوبة عوضًا لهم من تلك الكفارات الأصرية، ومن جميع النقمات، فبذلك اختص به أن يكون نبي التوبة.
          وكلمة التوبة هي كلمة: لا إله إلا الله، يقولها القائل مجتهدًا فيها مشربًا ظاهره وباطنه بمقالها، حتى يأخذ كل عضو منه قسطه منها، فبذلك تَتحاتُّ عنه ذنوبه كما يتحات الورق عن الشجر، / وفي كل مقام توبة حتى ينتهي مقام التوبة إلى التوبة من التوبة، فيتم به أمر لم يكن لأحد قبل محمد صلعم لما فتح له من الفتح المبين الذي به غفر له ما تقدم له، ولا له متقدم الذنب في الإبداء ومتأخره في الإعادة، وكانوا في قيام إصرهم كما كانوا قبل الإبداء في وجودهم لربهم، حيث كانوا غيّبًا عن أنفسهم قائمين بربهم، وذلك هو تمام التوبة فالتوبة من التوبة.
          فمستغفر يكون استغفاره توبة من الرين، ومستغفر يكون استغفاره جلاءً وتوبة من الغين، كما قال صلعم: «إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»[م:2702].
          وبين ذلك من رتب التوبة ما يحيط به دنوُّ الرين وعلو الغين.
          فلكل ذي مقام توبة بحسب مقامه يرفع بها من أدنى مقامه إلى أعلاه لتردده ما دام في دنياه بين أدنى مقامه وأعلاه الذي فيه إقامته، وبه قوام من دونه منه حتى يكون تمام التوبة بلقاء الله، فهناك يستقر التائب ويقر اليقين، انتهى.
          ثانيها: باب التوبة مفتوح ما لم تطلع الشمس من المغرب، كما لفظ الصحيح عن ذلك يعرب، قال البخاري[4635]: آخر تفسير سورة الأنعام حدَّثنا موسى بن إسماعيل، حدَّثنا عبد الواحد، حدَّثنا عمارة، حدَّثنا أبو زرعة، حدَّثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «لا تقوم الساعة حتى تَطلعَ الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا فذاك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}[الأنعام: 158]».
          حدَّثنا إسحاق بن منصور، حدَّثنا عبد الرزاق، حدَّثنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «لا تقوم الساعة حتى تَطلعَ الشمسُ من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا}» ثم قرأ الآية،[4636] انتهى.
          وهذا بالنسبة إلى عموم الناس، أما بالنسبة إلى خويصة نفس الإنسان، فبابها مفتوح ما لم يُغَرغر، كما جاء مبينًا في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}[النساء: 17] الآية، قال الحسن: / يعني: التوبة التي يقبلها الله، فيكون {عَلَى} بمعنى: عند، أقام صفة مقام صفة.
          قال الثعلبي[3/273]: وسمعت أبا القاسم بن حبيب، سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: على هاهنا بمعنى: عند، يقول: إنما التوبة عند الله، قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ} عمل السوء إذا أفرد دخل فيه جميع السيئات صغيرها وكبيرها.
          قوله: {بِجَهَالَةٍ} قال مجاهد والضحاك: أي: العمد، وقال الكلبي: لم يجهل أنه ذنب، ولكنه جهل عقوبته، وقريب من ذلك ما قالا في حد الخمر لو شرب قريب العهد بالإسلام، وادعى جهل التحريم لم يُحَد، فلو قال: علمت التحريم وجهلت الحد وجب الحد.
          وقال سائر المفسرين: يعني: المعاصي كلها، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، وقال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلعم فرأوا أن كل شيء عصى ربه فهو جهالة، عمدًا كان أو غيره.
          وقال الزجاج: معنى قوله: {بِجَهَالَةٍ} اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، ونظيرها أنه {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ}[الأنعام: 54].
          وبالجملة، فالمراد: الإقدام على عمل السوء وإن علم صاحبه أنه سوء، كان كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم لوجهين:
          أحدهما: أن من كان عالمًا بالله وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيان، وقد قال عمر ☺: نعمَ العبدُ صُهيب لو لم يَخفِ الله لم يَعصه، وقد يدل على تقرير عدم العصيان على كل حال، وعلى أن انتفاء المعصية مع ثبوت الخوف أولى، وإنما لم يدل على انتفاء الجواب لأمرين:
          أحدهما: أن دلالتها على ذلك إنما هو من باب مفهوم المخالفة، وفي هذا الأثر دله مفهوم المراقبة على عدم المعصية؛ لأنه إذا انتفت المعصية عند عدم الخوف فعند الخوف أولى، وإذا تعارض هذان المفهومان قدم مفهوم الموافقة.
          الثاني: أنه لما تقدمت المناسبة انتفت العلِّية، فلم يجعل عدم الخوف عليه عدم المعصية، فعلمنا أن عدم المعصية معلل بأمر آخر، وهو الحياء والمهابة والإجلال، وذلك مستمر مع الخوف، / فيكون عدم المعصية عند عدم الخوف مستندًا إلى ذلك السبب وحده، وعند الخوف مستندًا إليه فقط، أو إليه وإلى الخوف معًا، وبالجملة فالمعنى أنه يترك المعاصي تعظيمًا لجلال الله ولو لم يتواعد عليها بعقوبة، ولهذا يقال: من رجع عن المخالفات خوفًا من عذاب الله فهو تائب، ومن رجع حياء من نظر الله فهو مُنيب، ومن رجع تعظيمًا لجلال الله فهو أواب.
          وقال آخر: لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوه، وقال آخر: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا.
          والثاني: أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله وظنه أنها تنفعه عاجلًا باستعمال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض، فإنه يتعجل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى وثوابها وكره الطاعة، وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص من ضرره بشرب الترياق بعده، وهذا لا يفعله إلا غبي جاهل، وقد قال تعالى في حق الذين يؤثرون السحر ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة: 102- 103] والمراد: أنهم آثروا السحر على التقوى والإيمان لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة، مع علمهم أنهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة، وهذا جهل منهم، فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عداهما، فكانوا يحرزون أجر الآخرة ويأمنون عقابها، ويتعجلون عز التقوى في الدنيا، وربما وصلوا إلى ما يأملونه في الدنيا أو إلى خير منه وأنفع، فإن أكثر ما يُطلب بالسِّحر قضاءُ حوائج محرَّمة أو مكروهة عند الله، والمؤمن التقي يعوضه الله في الدنيا خيرًا مما يطلبه الساحر ويؤثره مع تعجله عزّ التقوى وشرفها وثواب الآخرة وعلو درجاتها، وأنشدوا: /
إذا طالبتكَ النفسُ يومًا بشهوةٍ                     وكان عليها للخلاف طريقُ
فدعها ودع ما تَشتهيه فإنَّما                     هواك عدوٌّ والخلافُ صديقُ
          قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}[النساء: 17] قال عكرمة وابن زيد: ما قبل الموت فهو قريب وقال أبو مجلز والضحاك: قبل معاينة ملك الموت.
          وقال أبو موسى الأشعري: هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة، وهذا كله يرجع إلى قول عكرمة وابن زيد، وهو مذهب الجمهور، فالعمر كله قريب، والدنيا كلها قريب، فمن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن مات ولم يتب فقد بعد كل البعد.
          وفي «مسند الإمام أحمد»[15499] عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن البَيلماني قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلعم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلعم يقول: «إن الله ╡ يقبل توبة العبد قبل أن يموتَ بيوم» قال الآخر: آنت سمعتَ هذا من رسول الله صلعم؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعتُ من رسول الله صلعم يقول: «إن الله يقبلُ توبة العبد قبل أن يموتَ بنصفِ يوم» فقال الثالث: آنت سمعتَ هذا من رسول الله صلعم؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعتُ من رسول الله صلعم يقول: «إنَّ الله يقبلُ توبة العبد قبل أن يموتَ بضَحْوة» قال الرابع: آنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلعم؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت من رسول الله صلعم يقول: «إنّ الله يقبلُ توبة العبدِ ما لم يُغَرْغِر بنفسه».
          وفيه[6920] عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من تاب قبل موته عامًا تيب عليه، ومن تاب قبل موته شهرًا تيب عليه حتى قال: يومًا حتى قال: ساعة، حتى قال: فواقا، قال: قال له إنسان: أرأيت إن كان مشركًا فأسلم؟ قال: إنما أحدثكم ما سمعتُ من رسول الله صلعم.
          وعن خالد بن مَعدان عن عُبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلعم: «من تابَ قبل موته بسنة تابَ الله عليه» / ثم قال: «إن السنَّة لكثيرة، من تابَ قبل موته بساعةٍ تاب الله عليه» ثم قال: «إن الساعةَ لكثيرة من تاب قبل أن يُغَرغِر بها تابَ الله عليه»(2).
          وعن عبد الله بن لهيعة عن دَرّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلعم قال: «إن الشَّيطان قال: وعزَّتك لا أبرحُ أُغوي عبادكَ ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الرب تعالى: وعزَّتي وجَلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني»(3).
          قال الثعلبي[3/274]: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي، سمعت أبا بكر الرازي، سمعت محمد الخباز يقول: يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد: ما أسرع ما جئت، انتهى.
          وقال السدي والكلبي: القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت.
          وهكذا روي عن ابن عباس وهو إشارة إلى أفضل أوقات التوبة، وهو أن يبادر الإنسان بها في صحته قبل نزول المرض به، حتى يتمكن حينئذ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة، مثل قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}[مريم: 60] {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}[طـه: 82] إلى غير ذلك من الآي.
          وأيضًا، فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء، وأما التوبة في المرض فتشبه الصدقة بالمال عند الموت، فكان من لا يتوب إلا في مرضه قد استفرغ صحته وقوته في شهوات نفسه وهواه ولذات دنياه، فإذا أيس من الدنيا والحياة تاب حينئذ وترك ما كان عليه، فأين توبة هذا من توبة من يتوب، وهو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي، فيتركها خوفًا من الله ╡ ورجاء لثوابه وإيثارًا لطاعته على معصيته.
          قوله: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا}[النساء: 17] أي: بالمخلص في توبته {حَكِيمًا} في قبولها منه.
          قال ذو النون المصري: بينما أنا أطوف بالبيت، إذ رأيت شابًّا عليه جُبَّة صوف وهو متبختر ويقول: إلهي هذه خطوة من افتخر بغيرك وتعزز بسواك، فكيف تكون خطوة من ليس له محبوب سواك؟ فقلت له: حبيبي ما الخبر؟ / قال: يا عم، انظر إلى ذاك الشاب يتبختر عجبًا؛ لأنه عبد لأمير مكة، قال ذو النون: فتقدمت، فإذا شاب يسحب إزاره على الأرض عجبًا، فقلت له: يا فتى، أنت تتبختر لأنك عبد لأمير مكة، وهذا الفقير خلفك وهو عبد ملك السماوات والأرض تأخر حتى يتقدم، فهو أحق بالفخر منك، فرأيت الشاب وقد تأخر وتغير لونه، وقال للفقير: تقدم فأنت والله أحق مني، طوبى لمن كان مثلك، ثم قضى طوافه ومضى مُنتكس الرأس، وقد عملت فيه الكلمات، فرجع إلى سيده واشترى نفسه منه وتصدق بكل ما يملكه، ولبس جبة صوف، وأقبل إلى البيت في اليوم الثالث فلقيني، فقال: يا شيخ أترى الله يقبلني بعد تلك الذنوب العظام، فقلت له: أبشر يا حبيبي، فإنك حبيب الله، أما علمت أنه يدعو المدبرين عنه فكيف المقبلين عليه، فأخلص النية، فإنه يقبلك على ما كان منك، فقال: يا عم طيبت قلبي بعد أن كاد يتصدع، فجزاك الله من واعظ خيرًا، ثم مضى، فلما كان اليوم السابع أتاني إنسان فقال: يا شيخ أعظم الله أجرك في الشاب التائب، فإنه قد مات، فقلت: ألا تُرينيه، فأتى بي فوجدته مسجى ووجهه كدارة القمر، فسألت عن حاله فقيل لي: إنه دخل هذا المكان وغلَّ يده إلى عنقه ولزم المحراب يبكي على نفسه، فلما كان اليوم وجدناه ميتًا، قال ذو النون: فشهدت جنازته، فلم يبق بمكة إلا قليل حتى حضروا جنازته، فرأيته تلك الليلة في المنام وهو يتبختر ويقول: شتان ما بين الخطرتين، فقلت: حبيبي ما فعل الله بك فقرأ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}[القمر: 54- 55].
          قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي: المعاصي {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} أي: وقع في النزع وعاين أمور الآخرة وشاهد الملائكة وانكشف له الغطاء، {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته؛ لأن الإيمان والتوبة وسائر الأعمال إنما تنفع بالغيب، فإذا كشف الغطاء صار الغيب شهادة، فلم ينفعا إذ ذاك، ولهذا قال تعالى: / {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}، وموضع {الَّذِينَ} خفض؛ أي: ولا من الذين {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[النساء: 18] أي: هيأنا وأعددنا، والاسم منه العتاد.
          قال عَدي بنُ الرِّقاع:
تأتيه أَسْلابُ(4) الأَعِزَّة عنوةً                     قَسرًا ويجمع للحروبِ عَتادَها
          ويقال للفرس المعد للحرب: عتَد وعتِد، قال الأشقر الجعفي:
راحوا بصائرُهم على أكتافهم                     وبَصيرتي يغدو بها عَتَدٌ وآيْ
          وقد خرج الإمام أحمد[6160] والترمذي[3537] وقال: حديث حسن، وابن حبان في «صحيحه»[628] من حديث ابن عمر عن النبي صلعم قال: «إن الله ╡ يقبل توبة العبد ما لم يُغَرغِر» أي: ما لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه، فشبه ترددها في حلق المحتضر بما يتَغَرغر به الإنسان من الماء وغيره، ويتردد في حلقه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}[الواقعة: 83] وقوله: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[القيامة: 26].
          وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: لا يزال العبد في مَهَلٍ من التوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه، فإذا نزل ملكُ الموت فلا توبة حينئذ.
          وبإسناده عن الثوري قال: قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت.
          وعن الحسن قال: التوبة معروضة لابن آدم ما لم يأخذه الموت.
          وعن بكر المزني قال: لا تزال التوبة للعبد مبسوطة ما لم تأته الرسل، فإذا عاينهم انقطعت المعرفة.
          وعن أبي مجلز قال: لا يزال العبد في توبة ما لم يعاين الملائكة.
          وروى في كتاب الموت بإسناده عن أبي موسى الأشعري قال: إذا عاين الميت الملك ذهبت المعرفة.
          وعن مجاهد نحوه.
          وعن حصين قال: بلغني أن ملك الموت إذا غمز وريد الإنسان حينئذ يشخص بصره ويذهل عن الناس.
          وخَرَّج ابن ماجه[1453] من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا قال: سألتُ النبي صلعم متى تنقطع معرفة العبد من الناس؟ قال: «إذا عاين»، وفي إسناده مقال والموقوف أشبه.
          وقد / قيل: إنه يمنع من التوبة حينئذ؛ لأنه إذا انقطعت معرفته وذهل عقله لم يتصور منه ندم ولا عزم، فإنهما إنما يَصحَّان مع حضور العقل، وهذا ملازم لمعاينة الملائكة كما دلت عليه هذه الأخبار.
          قلت: وقد قال الرافعي في الجراح: في الكلام على طريان المُباشَرةِ على المُباشَرةِ ما نصه: وإن طرأ فعل أحدهما على فعل الآخر فله حالان:
          أحدهما: أن يوجد الثاني بعد انتهاء المجني عليه إلى أن صارت حركته حركة المذبوحين إما عقيب الفعل الأول لكونه مذففًا، أو لسرايته وتأثيره مدة، فيكون القاتل الأول، ولا شيء على الثاني إلا التعزير؛ لأن المنتهي إلى الحالة الثانية مقتول، والثاني هَتَكَ حرمةَ ميتٍ، فيُعزَّر كما لو قطع عضوًا من ميت، أو حزَّ رقبته، والمراد من حركة المذبوح التي لا يبقى معها الإبصار والإدراك والنطق والحركة الاختياريان، وقد يقدُّ الشخص وتترك أحشاؤه في النصف الأعلى، فيطرف ويتكلم بكلمات لكنها لا تنتظم، وإن انتظمت فليست صادرة عن رَوِيَّةٍ واختيار، والحالة المذكورة وهي التي تسمى حالة اليأس لا يصح فيها الإسلام، ولا شيء من التصرفات، ويصير فيها المال للورثة، ولو مات قريب لمن انتهى إليها لم يورث منه، ولو أسلم له ابن كافر أو أُعتق رَقيقٌ لم يزاحم سائر ورثته، وكما لا يصح الإسلام في تلك الحالة لا تصح الردة هذا هو المشهور.
          وفي كتاب القاضي ابن كج ☼: أنها تصح؛ لأن الكافر يؤمن ويوقن حينئذ، فإعراض المؤمن جحود قبيح.
          [والحال الثاني: أن يوجد فعل الثاني قبل انتهائه إلى حركة المذبوح، فيُنظر، إن كان الثاني مُذَفِّفًا بأن جرحه الأول وحَزَّ الثاني رقبته أو قدَّه، فالقاتل هو الثاني، وأما الأول فليس عليه إلا القصاص في العضو المقطوع، أو المال على ما يقتضيه الحال](5)
           هذا لفظ الرافعي.
          وبالجملة فباب التوبة قد انسد بالمعاينة، وذلك حين لا تنفع المعذرة.
          قال الغزالي في «الإحياء»[4/12]: قال بعض العارفين: ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة، وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين، فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى يستعتب فيها ويتدارك تفريطه، فلا يجد إلى ذلك سبيلًا، وهو أول ما يظهر / من قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}[سبأ: 54]، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}[المنافقون: 10- 11] الآية.
          فقيل: الأجل القريب الذي يطلبه: معناه: أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد: يا ملك الموت، أخِّرني يومًا أعتذر فيه إلى ربي فأتوب إليه وأتزود صالحًا لنفسي، فيقول: فَنِيت الأيام فلا يوم، فيقول: أخِّرني ساعة فيقول: فنيت الساعات فلا ساعة، فيغلق عنه باب التوبة، فيتغرغر بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر، فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال، فإذا زهقت نفسه فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد وتلك حسن الخاتمة، وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة، ولمثل هذا يقال: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}[النساء: 18]، بل التوبة {عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}[النساء: 17]، ومعناه عن قريب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرَّين على القلب فلا يقبل المحو، ولذلك قال صلعم: «وأَتْبعِ السيئةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها»(6) وكذلك قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة.
          ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف، كان بين خطرين عظيمين:
          أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى تصير رينًا وطبعًا فلا تقبل المحو.
          الثاني: أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو، ولذلك ورد في الخبر: أن أكثر صياح أهل النار من التسويف، فما هلك من هلك إلا بالتسويف، فيكون تسويده للقلب نقدا وجلاؤه نسيئة، إلى أن يختطفه الأجل فيأتي اللهَ بقلب غير سليم، فلا / ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.
          فالقلب أمانة الله تعالى عند عبده، والعمر أمانة الله عنده، وكذا سائر أسباب الطاعة، فمن خان في الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره مخطر.
          قال بعض العارفين: إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الإلهام:
          أحدهما: إذا خرج من بطن أمه يقول له: عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهرًا نظيفًا، واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني.
          والثاني: عند خروج روحه يقول: عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء، أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟.
          وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}[البقرة: 40] وبقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون: 8] انتهى.
          دخل قوم على بشر الحافي وهو مريض فقالوا له: على ماذا عزمت؟ قال: عزمت أني إذا عوفيت تُبت، فقال له رجل منهم: فهلا تُبت الساعة؟ فقال: يا أخي أما علمت أن الملوك لا تقبل الأمان ممن في رجليه القيد وفي رقبته الغل، إنما تقبل الأمان ممن هو راكب الفرس والسيف مجرد بيده، فبكى القوم جميعًا.
          ومعنى هذا: أن التائب في صحته بمنزلة من هو راكب على متن جواده وبيده سيف مشهور فهو يقدر على الكَرِّ والفَرِّ والقتال وعلى الهرب من الملك وعصيانه، فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك ذليلًا له طالبًا لأمانه صار بذلك من خواص الملك وأحبابه؛ لأنه جاء طائعًا مختارًا له راغبًا في الأمان من الملك، أما من طلب الأمان وهو في أسر الملك فإنما طلبه خوفًا على نفسه من الهلاك، وقد لا يكون محبًّا للملك ولا مؤثرًا لرضاه، فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته، والأول بمنزلة من يتوب في صحته وقوته وشبيبته.
          قلت: وفي «صحيح مسلم»[1641] من حديث عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين أصحاب النبي صلعم، وأسر أصحاب رسول الله صلعم رجلًا من بني عقيل وأصابوا / معه العضباء، فأتاه رسول الله صلعم وهو في الوثاق فقال: يا محمد، فأتاه فقال: «ما شأنك؟» فقال: بما أخذتني وأخذت سائقة الحاج؟ _يعني: العضباء_ فقال: «أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف» ثم انصرف عنه، فناداه: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلعم رحيمًا رقيقًا فرجع إليه فقال: «ما شأنك؟» قال: إني مسلم، قال: «لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح» الحديث.
          والمراد: أنك لو أسلمت قبل الأسر أفلحت كل الفلاح باعتبار صيانة دمك ومالك وأولادك الصغار عن السبي، وأما إذ أسلمت بعد الأسر فإنه لا يحصل لك كل الفلاح بل بعضه، وهو عصمة دمك، ولهذا قال في «الروضة»[13/453] تبعًا للرافعي: المسألة الثانية: إذا أسلم الأسير وهو رجلٌ حرٌّ مكلف قبل أن يختار الإمام فيه شيئًا عصم دمه، وهل يصير رقيقًا بنفس الإسلام؟ فيه طريقان: أصحهما على قولين:
          أحدهما: نعم؛ لأنه أسير مُحرّم القتل فأشبه الصبي، وأظهرهما لا يرق، بل للإمام أن يسترقه أو يمن أو يفادي.
          والطريق الثاني: القطع بالتخيير؛ لأنه كان ثابتًا فلا يزول، فإن اختار الفداء فشرطه أن يكون له فيهم عز أو عشيرة يسلم بها ديته ونفسه، وسواء قلنا يرق أو يجوز إرقاقه فأرقه كان غنيمة، وكذا لو فاداه بمال كان غنيمة، ولو أسلم قبل أسره والظفر به عصم دمه وماله سواء أسلم وهو محصور وقد قرب الفتح أو أسلم في حال أمنه، وسواء أسلم في دار الحرب أو الإسلام، ويعصم أيضًا أولاده الصغار عن السبي، ويحكم بإسلامهم تبعًا له، والحمل كالمنفصل فلا يسترق تبعًا لأمه، وهل يعصم إسلامُ الجَدِّ ولدَ ابنه الصغير، فيه أوجه: أصحها: نعم، والثاني: لا، والثالث: إن كان الابن ميتًا عصم، وإلا فلا، والمجنون من أولاده كالصغير، فلو كان بلغ عاقلًا ثم جن عصمه أيضًا على الصحيح، انتهى.
          وإذا تقرر ذلك، فالتائب في الصحة يفلح كل الفلاح بمثابة من يسلم قبل الأسر، والتائب في المرض بمثابة من أسلم في الأسر، والتائب / في الغرغرة بمثابة الأسير يسلم إذا عاين القتل خوفًا منه، وأنشدوا:
فكَّر في أحواله ثم صاح                      لا خير في الحُبِّ بغير افتضاح
قد جئتكم آمنًا مستسلمًا                     لا تقتلوني قد رميتُ السِّلاح
قد كان قلبي عامرًا بالتُّقى                     واليوم قلبي مُثخَنٌ بالجِراح
          وما أحسن قول ابن الجوزي(7): يا عجبا لك كيف تسمَّى باسم تاجرٍ وتُخاصم على الدراهم وتُشاجر وتصابر لربح القيراط حرَّ الهواجر، وتغضب لأجل الحبَّة وتهاجر، وترضى في أفعالك باسم فاجر، يا من نومه كثير وانتباهه نادر، سارع يا غافل إلى التوبة وبادر، قبل أن تصل الحَشرجةُ إلى الحناجر، وتجدها أصعب من لدغ الخَناجر، إن دعيت إلى التوبة سوفتها، وإن قمت في الصلاة سفسفتها، وإن لاح لك وجه الدنيا ترشَّفتها، أما هي دار بلغة تضيفتها، أوليس قد شبت وما عرفتها، كم بادية في أرباح غير بادية تعسفتها، لقد استشعرت محبتها أي والله والتحفتها، بالله لو علمت جناياتها لعفتها، أنسيتَ تلك الذنوب التي أسلفتها، آه لبضائع عمر بذرت فيها وأتلفتها، كم تَعِدُ بالإنابة، وكلُّ الوعود أخلفتها، ما تلين قناتك لغامزٍ ولا ترى ما تشتهي فتجاوز، وَيحك بين يديك أهوال وهَزاهز، كم تقوم ولا تستوي من يغير الغرائز، ابك لما آل واندب في شيبك على شبابك وتأهب لسيف المَنون فقد علق الشبا بك.
          عجبًا للطرف كيف اغتمض، ولمكلف ما أدى المفترض، يا من كلما بنى على أن يلوذ بنا نقض، يا من إذا أدى حقا فعلى مضض، يا من إذا لاح له صيد الفاني جد وركض، يا من إذا قدر على جيفة الهوى جَثَمَ وربض، يا مشغولًا عن الجوهر الباقي بفاني العَرَض إيثارك ما يفنى على ما يبقى أشد المرض:
ألا يا غافلًا تُحصَى عليه                     من العمل الصَّغيرةُ والكَبيره
يُصاح به وينذرُ كل يومٍ                     وقد أنسته غفلته مصَيرَه /
تأهَّبْ للرحيل فقد تَدانى                     وأنذرك الرحيلَ أبًا وجيره
وكم ذنب أتيت على بَصيره                      وعينك بالذي تأتي قَريره
تُحاذِر أن تراكَ هُناك عينٌ                     وإنَّ عليك لَلْعَينُ البَصيرَه
وكم من مدخلٍ لو متَّ فيه                     لكنت به نكالًا للعَشيرَه
وُقيتَ السوءَ والمكروهَ فيه                     ورحتَ بنعمةٍ فيه سَتيرَه
          ثالثها: الناس في التوبة أقسام: منهم من لا يوفق لتوبة نصوح، بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرًّا عليها، وهذه حالة الأشقياء.
          وأقبح من ذلك من يسر له عمل الطاعات، ثم ختم له بعمل سيئ فمات عليه.
          ومنهم من يفني عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفق لعمل صالح فيموت عليه، وهذه بشارة حالية ستأتي في الجنائز إن شاء الله.
          وقسم هو أشرف الأقسام وأرفعها، وهو من يفني عمره في الطاعة، ثم ينبه على قرب الأجل ليجدَّ في التزود ويتهيأ للرحيل بعمل يصلح للقاء، ويكون خاتمة العمل المرتضى.
          قال ابن عباس: لما نزلت على النبي صلعم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر: 1] نُعيَت لرسول الله صلعم نَفسُه، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة(8).
          تقسيم آخر: المكلفون على أربعة أقسام:
          القسم الأول: قوم خلقهم الله تعالى لخدمته وجنته، وهم الأنبياء ‰ والأولياء والمؤمنون.
          الثاني: قوم خلقهم الله لجنته دون خدمته، وهم الذين عاشوا كفارًا، ثم ختم لهم بالإيمان، أو فرطوا مدة حياتهم وانهمكوا في العصيان، ثم تاب الله عليهم عند الخاتمة فأتوا على حالة التوبة والإحسان كسحرة فرعون وكانوا ثلاثين ألفًا على ما يقال: آمنوا بالله وقتلوا من يومهم ذلك، فدخلوا الجنَّة.
          كانوا أول النهار يحلفون: وعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، ثم بعد ساعة يحلفون: والذي فطرنا.
          كانوا يطلبون الجزاء من فرعون ويقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء: 41]، ثم بعد ساعة يقولون: / {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[طـه: 72ـ 73].
          والعجب أن الله سبحانه أنطق فرعون بما كان باطنه البشرى وهو قوله: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الأعراف: 114] كانوا مقربين عند رب العالمين.
          قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}[النساء: 17] كل من عمل سوءًا فما عمله إلا بجهالة وغفلة وقلَّة تعظيم لأمر الله وإن كان عالمًا، وكل من تاب قبل أن يحضره الموت ويعاين الملائكة ويغرغر فقد تاب من قريب، فإن التوبة البعيدة توبة من فرط حتى عاين ملك الموت فصار في حيز الآخرة، وهو الذي قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}[النساء: 18].
          وأبعد من ذلك الذين يتوبون في الآخرة يعترفون في دَرَكات لظى، قال الله تعالى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}[النساء: 18] أي: لا تقبل توبتهم في الآخرة قال تعالى: {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[سبأ: 52] أي: وكيف لهم سبيل إلى التوبة وتناولها وقد بَعُد عليهم مكانها، فإنها إنما تقبل في الدنيا، وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 11].
          الثالث: قوم خلقهم الله لا لخدمته ولا لجنته، وهم الكفار الذين يموتون على الكفر، حرموا في الدنيا نعيم الإيمان، وفي الآخرة يخلدون في العذاب والهوان.
          الرابع: قوم خلقهم الله لخدمته دون جنته، وهم الذين كانوا عاملين بطاعة الله، ثم مكر بهم فطُردوا عن باب الله وماتوا على الكفر بالله، نسأل الله السلامة.
          فإنه يخلق ما يشاء بغير كلفة ولا نصب، ويختار ما يشاء بغير زلفة ولا سبب، قوم أذلَّهم وأشقاهم وحَجَبهم وأقصاهم وأضلَّهم وأخزاهم ولو ألبسهم لباس السعداء زمانًا، فلا بد أن يسلبه عنهم ويلبسهم ذلًا وهوانا.
          وقوم اختارهم واصطفاهم وانتخبهم واجتباهم وأعزَّهم وقَوَّاهم وخَوَّلهم وأعطاهم وولاهم وأولاهم، ولو / ألبسهم لباس البعد والحجاب، فلا بد أن يردهم إلى الباب ويلبسهم لباس الأحباب، وهو الكريم الوهاب، اللهم اجعلنا من جزيل المفلحين، وعبادك الصالحين الذين أهَّلتهم بخدمتك ونَعَّمتهم بأُنسك وحضرتك، وسقيتهم لذيذ شرابك، وخلعت عليهم خِلَعَ أحبابك، ها نحن عبيدك قد ألقينا نفوسنا بين يديك، وطمعنا بحسن وعدك وجميل رفدك فيما لديك.
          رابعها: قال الأستاذ في «الرسالة»[1/45] بعد أن ذكر أركان التوبة ما نصه: هذا معنى التوبة على جهة التحديد والإجمال، فأما على جهة الشرح والإبانة، فإن للتوبة أسبابًا وترتيبًا وأقسامًا، فأول ذلك: انتباه القلب من رقدة الغفلة، ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة، ويصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى الخاطر بباله من زواجر الحق سبحانه فسمع قلبه، فإن في الخبر: «واعظ الله في قلب كل امرئ مسلم»(9).
          وفي الخبر: «إن في بدن المرء مضغة إذا صلحت صلح جميع الجسد، وإذا فسدت فسد جميع البدن، ألا وهي القلب»[خ¦52، م:1599].
          فإذا فكر بقلبه في سوء ما يصنعه وأبصر ما هو عليه من قبيح الأفعال سنح في قلبه إرادة التوبة والإقلاع عن قبيح المعاملة، فيمده الحق سبحانه بتصحيح العزيمة والأخذ في جميل الرُّجعى والتأهُّب لأسباب التوبة، فأول ذلك هجران إخوان السوء، فإنهم هم الذين يحملونه على رد هذا القصد ويشوشون عليه صحة هذا العزم، ولا يتم ذلك إلا بالمواظبة على المُشاهدةِ التي تزيد رغبته في التوبة، وتوفر دواعيه على إتمام ما عزم عليه مما يحرك خوفه ورجاءه، فعند ذلك تنحل من قلبه عقدة الإصرار على ما عزم عليه من قبيح الفعال وتعاطي المحظورات، ويكبح لجام نفسه عن متابعة الشهوات، فيفارق الزلَّة في الحال، ويبرم العزيمة على أن لا يعود إلى مثلها في الاستقبال، فإن مضى على موجب قصده ومقتضى عزمه فهو الموفق صدقًا، وإن نقض التوبة مرة أو مرات وتحمله إرادته على تجديدها فقد يكون مثل / هذا كثيرًا، فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء، فإن لكل أجل كتابًا.
          حكي عن أبي سليمان الداراني قال: اختلفت إلى مجلس قاصٍّ فأثر كلامه في قلبي، فلما قمتُ لم يبق في قلبي شيء، فعدت ثانيًا فسمعت كلامه فبقي في قلبي كلامه في الطريق، ثم زال، ثم عدت ثالثًا، فبقي أثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي وكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطريق، فحكى هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال: عصفور اصطاد كُركيا، أراد بالعصفور: ذلك القاص، وبالكركي أبا سليمان الداراني.
          ويحكى عن أبي حفص الحداد أنه قال: تركت العمل مرة فعدت إليه، ثم تركني العمل فلم أعد بعد إليه، وقيل: إن أبا عمرو بن نُجَيد في ابتداء أمره اختلف إلى مجلس أبي عثمان، فأثر في قلبه كلامه فتاب، ثم إنه وقعت له فترة، فكان يهرب من أبي عثمان إذا رآه، وتأخر عن مجلسه، فاستقبله أبو عثمان يومًا، فحاد أبو عمرو عن طريقه وسلك طريقًا آخر، فتبعه أبو عثمان، فما زال به يقفو أثره حتى لحقه فقال له: يا بني لا تصحب من لا يحبك إلا معصومًا، إنما ينفعك أبو عثمان في مثل هذه الحالة، فتاب عمرو بن نُجيد وعاد إلى الإرادة وتعبد.
          سمعت الشيخ الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: تاب بعض المريدين، ثم وقعت له فترة، فكان يفكر وقتًا لو عاد إلى التوبة كيف حكمه، فهتف به هاتف: يا أبا فلان أطعتنا فشكرناك، ثم تركتنا فأمهلناك، فإن عدت إلينا قبلناك، فعاد الفتى إلى الإرادة وتعبد.
          فإذا ترك المعاصي وحَلَّ عن قلبه عقدة الإصرار وعزم على أن لا يعود إلى مثله، فعند ذلك يخلص إلى قلبه صادق الندم، فيتأسف على ما عمله ويأخذ في التحسُّر على ما صنعه من أحواله وارتكبه من قبيح أفعاله، فتتم توبته وتصدق مجاهدته، واستبدل بمخالطته العزلة وبصحبته مع إخوان السوء التوحش(10) عنهم والخلوة، ويصل ليله بنهاره في التلهف، ويعتنق في عموم أحواله صدق التأسف، ويمحو بصَبوبِ عَبْرته آثارَ عَثْرته، ويأسو بحسن توبته كُلوم حوبته، فيعرف من بين أمثاله بذبوله، ويستدل على صحة حاله بنحوله، / ولن يتم له شيء من هذا إلا بعد فراغه من إرضاء خصومه، والخروج عما لزمه من مظالمه، فإن أول منزلة في التوبة إرضاء الخصوم بما أمكنه، فإن اتسع ذات يده بإيصال حقوقهم أو سمحت نفوسهم بإحلاله والبراءة عنه، وإلا فالعزم بقلبه على أن يخرج من حقوقهم عند الإمكان، والرجوع إلى الله بضروب الابتهال والدعاء لهم، انتهى كلامه.
          وفي معنى قوله: فأول ذلك بهجر إخوان السوء، قول ابن الجوزي: متى يتحدث الجيران بأنه قد تاب فلان، متى يقول الأقران لنا اجتماع في مكان، فنقول ذلك أمر قد كان، يقولون ما الخبر فيقال: صَخرٌ لان، ويحك كتابك بالذنوب ملآن فاستدرك أمرك من الآن:
وإنّ قعودي أرقبُ اليوم أو غدا                     لعجزٌ فما الإبطاء كالنَّهضانِ
فإن أمضِ أترك كل حيٍّ من العِدى                     يقول ألا لله نفسُ فلانِ
          يا هذا أترى تخرج من ذنوبك قبل خروجك، أتُرى يندرح قبيحك قبل دروجك، وأنشدوا:
قل للزمان صَلَحا                     قد عاد لَيلي صُبحا
وأَعذب الشّربِ الذي                     كان أُجاجًا مَلِحا
          وقال أيضًا: يا صبيان التوبة زوروا المقابر وجالسوا الفكر وجانبوا رفقاء اللهو، فإن قال لكم بعضهم: أقنعتم من الدنيا بخرقة؟ فقولوا له: هذا هو العيش لو صفا ذوقك:
الذي أنتَ له مستقبحٌ                     ما على استحسانه عندي مَزيدْ
فإذا نحنُ تباينَّا كذا                     فاستماعُ العَذلِ شيء لا يُفيدْ
          إن قال لك رفقاؤك: امش معنا ساعة فقل: أقعدني الخوف:
يا نَدامايَ صحا القلبُ صَحا                     فاطرُدا عني الصّبا والمَزَحا
شَمِّروا بُردَيَّ للنُّسكِ ولا                     تعجَبوا لي من فسادٍ صَلَحا
وارحموا صبًّا إذا غنَّى بكم                     شربَ الدمعَ وعاف القَدَحا
وارحموا مَنْ قَدْ بقي من حبكم                     لا تراه العينُ إلا شَبَحا
           / إخواني: إن تحركت نفوسكم إلى بعض أغراضها التي اعتادت فقولوا: انقضى زمان الرضاع، ولا بد من الصبر على الفطام.
          وقال أيضًا: يا معشر التائبين، اعرفوا قدر الفضل بالتوفيق للإنابة، اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، فإن عرض عذر يُسوِّل لكم فاستعينوا بالصبر والصلاة، فإن تحركت الطباع لما ألفت فذكروها خساسة المطلوب وعزة ما تُنِيت، {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}[البقرة: 61]، ألا يصبر الجائع فضل ساعة بقدر ما يتكامل نضج الطعام؟ أما تعلمون أذى الفطير بالمعدة:
مَن يعشَق العزَّ لا يَرْنو لغانيةٍ                     في رَونقِ الصَّفْوِ ما يُغني عن الكَدَرِ
          وقال أيضًا: يا صبيان التوبة، إن اجتمعتم فعلى الذكر والبكاء، وإلا فالفرقة أصلح، ليخبر كل منكم أخاه بعيبه، فالمؤمن مرآة المؤمن {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة: 2].
          وقال أيضًا: يا عازمًا على سفر التوبة، خذ للتغرب أُهبة، ليس كل من خرج البرية سافر، النقطة قبل الدائرة {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}[البقرة: 189].
          اندم على ما مضى من المآثم، واردد على المعاملين المظالم، وشمر عن ساق الجد تقوى على طريق التقوى، قاطع أصدقاءك على المعاصي {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}[لقمان: 15]، فإن لاذوا بك يذكرونك لذاذة الهوى، فقل {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ}[الأحزاب: 18]، فإن أحسست بتوقان الطبع {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ}[غافر: 55]، لا بد من ضيق معاش التائب {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، فإن صبر {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}[النحل: 97].
          إخواني: الشيطان يراصد في جميع المقاصد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}[النساء: 71]، ولا يتوقن أحدكم إلى لباس الجديد، فالمرقَّع لمن أحسَنَ أحسن، لا تزدروا حلل الفقر، فإن عليها أنوار المهابة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل: 6] إذا رأى رفقاؤك على الهوى فعلك اليوم فقالوا: ما الخبر؟ فقل: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}[الكهف: 98] فإذا قالوا: كان فلان جبل في المعاصي، فقل: وعيد المؤمنين جعله دكًّا، حضرت مجلس الذكر فذكرني عهد {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} فأخبرني قرب الحساب على بضاعة العمر، / فنظرت في دستوري، فإذا بي قد مزَّقتُ رأسَ المال بكف اللعب، فبكيت أسفًا وصحت قلقا:
حدثتني عن الغَضا وأهله                     فانكشف السرُّ ونَمَّ الكاتمُ
للبارقاتِ مَطَرٌ وهذه                     مؤنتها دموعيَ السَّواجمُ
سَلا المُحبون وعندي زفرةٌ                     بحيث لا تطيقها الحيازمُ
أُسائلُ الدَّوحَ وأبكي كلَّما                     ناحتْ على أغصانها الحَمائمُ
          وفي معنى قول الأستاذ: فيتأسف على ما عمله إلى آخره، قول ابن الجوزي: إذا رأيت نفسك قليلة التشوق إلى حضور المجلس فاحتل عليها بحيلة الفرجة فيما يجري، وقل ليس الخبر كالعيان، لعلها إذا حضرت تأنس بأهل الدين، فالخير عادة فإذا جلست فانوِ طلب النفع، فالأعمال بالنيات، فإذا رأيت التائبين قد نهضوا فلا تعيرهم بما يجري عليهم، فالبلاء موكل بالمنطق، فإذا صح عندك حسن قصدهم فقل للنفس الموافقة شرط إلى آخر كلامه الآتي في قتال المشركين إن شاء الله.
          وقال: يا معشر التائبين تشبهو بالعابدين، أول منزل يلقاكم بعد التوبة السَّهر، فلا تلتفتوا إلى تأثير النَّصب، فبعيني ما يتحمل المتحمِّلون من أجلي، إذا طلع فَجرُ الأجر حمدتم طول السُّرى، إن وَنَتْ ركابكم فأقيموا حُداةَ العزائم تدلج.
          وقال أيضًا: ليت شعري ما أوجب صفرة وجه هذا التائب، ومن أي شراب سكر هذا الشارب.
          وأنشدوا:
كلَّما زاد كربه                     في هوى من يُحبه
طار نحو الحَبيب من                     شِدَّةِ الشوق قَلبُه
دَنِفٌ كادَ ينقضي                     بيدِ البَيْنِ نَحبُه
خَبِّرونا عن العَقيق ِ                     متى سار ركبه
          أما تسمعون أنينه أما ترون حنينه، وأنشدوا:
قد جلا السلوان ما اشتبها                     وصَحا السَّكران وانتبها
ونَفى عنه غوايته                     وارعوى من غفلة ونهى
          ما باح حتى ناح، ولولا قوة ضربه ما صاح، وأنشدوا: /
بكى أمس فلم يدخر                     دمعا يفيض اليوم في الموسم
خان بكاء الدمع أجفانه                     فناح والنوح بكاء الفم
          لاح له في ظلام ظلمه نورٌ أراه أنه على غير الجادة، ثم سَنحَ سنا برق رجاء لاحت به أرجاء الحِمى فعرج به الشوق إلى سواء السبيل.
          وقال أيضًا: أحسن أعمال التائبين البكاء.
          وقال أيضًا: إذا رأيتم تائبًا قد غير زِيَّه ونكس رأسَه فلا تعجبوا، فإن القلوب بين أصبعين، إذا رأيتم قلبه قد انتعش بعد موته فلا تدهشوا {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}[البقرة: 73] إلى آخر ما قدمته عنه في الكلام على قول البخاري باب مقلب القلوب.
          وقال أيضًا: تلمحوا يا غافلين أحوال شباب التائبين، أين ورد خدود الصبيان صيَّره الحياء من الذنب نرجسًا، أين شحوم الأبدان أذابها حر الحذر، أين خيلاء العجب بُدِّلت بذل المسكنة والحزن:
قد تشاكَينا الذي حَلَّ بنا                     وبَردنا بالدموع الحُرَقا
وإذ اليوم في شكوى الهوى                     عاشق قال الصبا قد صدقا
          يا هذا إذا رأيت ما يجري على التائبين فاعذرهم حاشاك مما عندهم حاشاكا.
          وقال أيضًا: يا هذا قلق التائب ظاهر بادي، وقد أزعج به الحاضر والبادي، فلو سمعتموه في الليل الهادي ينادي:
أيُّها الغضبانُ جُدْ لي بالرِّضا                     وارحمِ الصَّبَّ وإلا افتضحَا
كل سكرانٍ صَحا من سُكْرِه                     وفؤادي من هَواكم ما صَحا
          إن تذكر ربوع الصبا تكدر عيشه، وإن تصور وقوع الجفا زاد طيشه، وأنشدوا:
ليس لنارِ الهوَى خُمود                     ولا لدمع الأسى جمودُ
أَقَرَّ دمعي بسرِّ قلبي                     هيهات ما في الهوى جُحودُ
لو ذاق طعم الغرام رَضْوَى                      لبات من وجده يميدُ
قد حمَّلوني عذاب شوقٍ                     يعجزُ عن حَمله الحديدُ
قلتُ وقَلبي أسيرُ وَجْدٍ                     متيَّم بالجَفا عَميدُ /
أنتم لنا في الهَوى مَوالٍ                     ونحن في أَسرِكُم عَبيدُ
          انتهى.
          قال القرطبي في «التذكرة»: وقد روي مرفوعًا في صفة التائب من حديث ابن مسعود أن النبي صلعم قال وهو في جماعة من الصحابة: «أتدرون من التائب؟» قالوا: اللهم لا، قال: «إذا تاب العبد ولم يُرضِ خُصَماءَه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير لباسه فليس بتائب، ومن تابَ ولم يغيِّر مجلسه فليس بتائب، ومن تاب ولم يغير نفقته وزينته فليس بتائب، ومن تاب ولم يغيِّر فراشَه ووِسادَه فليس بتائب، ومن تاب ولم يوسع خلقه فليس بتائب، ومن تابَ ولم يوسع قَلبه وكفه فليس بتائب» ثم قال النبي صلعم: «فإذا تاب على هذه الخصال، فذلك تائب حقا».
          قال العلماء: إرضاء الخصوم يكون بأن يرد عليهم ما غصبهم من مال أو خانهم أو ظلمهم أو اغتابهم أو خرق أغراضهم أو شتمهم أو سبهم، فيرضيهم بما استطاع ويحللهم من ذلك، فإن انقرضوا فإن كان لهم قِبَلَه مالٌ رده إلى الورثة، فإن لم يعرف الورثة تصدق به عنهم ويستغفر لهم بعد الموت، ويدعو لهم عوض الذم والغيبة لا خلاف في هذا.
          وأما تغيير اللباس فهو أن يستبدل ما عليه من الحرام بالحلال، وإن كانت ثياب كِبْرٍ وخيلاء استبدلها بأطمار متوسطة.
          وتغيير المجلس هو أن يترك مجالس الَّلهو والَّلعب والجُهّال والأحداث، ويلازم مجالس العلماء ومجالس الذكر والفقهاء والصالحين، ويتقرب إلى قلوبهم بالخدمة وبما يستطيع ويصافيهم.
          وتغيير الطعام بأن يأكل الحلال ويجانب ما كان من شُبهة أو شهوة ويغير أوقات أكله ولا يقصد اللذيذ من الأطعمة.
          وتغيير النفقة هو بترك الحرام واكتساب الحلال، والزينة بترك التزين في الأثاث والبناء واللباس والطعام والشراب.
          وتغيير الفراش بالقيام بالليل عوض ما كان يشغله بالبطالة والغفلة والمعصية كما قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}[السجدة: 16].
          وتغيير الخُلُق هو بأن ينقل خلقه من الشدة إلى اللِّينِ، ومن الضيق إلى / السعة، ومن الشكاسة إلى السماحة.
          وتوسيع القلب يكون بالإنفاق ثقة بالقيام على كل حال، والكف بالسخاء والإيثار بالعطاء، وكذا يبدل ما كان فيه كشرب الخمر بسقي اللبن والعسل، والزنا بكفالة الأرملة واليتيمة وتجهيزها، ويكون مع ذلك نادما على ما سلف منه، ومتحسرًا على ما ضيع من عمره، انتهى.
          خامسها: قال الهروي: باب الإنابة قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}[الزمر: 54] انتهى.
          الفرق بين التوبة والإنابة أن التوبة رجوع عن المخالفة إلى الموافقة، والإنابة هي الرجوع إلى الله تعالى فهي أعلى.
          قال: الإنابة ثلاثة أشياء: الرجوع إلى الحق إصلاحًا كما رجع إليه اعتذارًا، والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدًا، والرجوع إليه حالًا كما رجع إليه إجابة، انتهى.
          أي: الرجوع عند الإنابة إلى الحق في إصلاح العمل والطاعة، كالرجوع إليه عند التوبة في الاعتذار عن الذنب والمعصية، والرجوع إليه هاهنا في الوفاء بعقد النوبة كالرجوع إليه هناك بعقد التوبة، فالتوبة هي العهد والإنابة هي الوفاء بذلك العهد، فالرجوع إليه هاهنا بأن تشهد صحة حاله بصدق مقاله هناك، حيث اعترف بذنبه وعقد عزيمة التوبة إجابة لقوله تعالى: {وَتُوبُوا} إذا حل عقد الإنابة حل عقد الإصرار، ولم ينل مناقب الهوى.
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه                     ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه                     ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
          قال الهروي: وإنما يستقيم الرجوع إليه إصلاحًا بثلاثة أشياء:
          بالخروج من التبعات، والتوجع للعثرات، واستدراك الفائتات، انتهى.
          الخروج من التبعات: بالاستغفار من الذنوب التي بينك وبين الله تعالى، والتضرع إليه، وبرد المظالم، والتزام القصاص أو الدية أو الاستغفار، والاستحلال من الذنوب التي بينك وبين الناس.
          والتوجع للعثرات هو التندُّم والبكاء لخطاياك، أتدرون هذا التائب لمن أنَّ، وهذا الحزين كيف حنَّ، ذكر عهدًا كان قد صفا فتذكر وانزعج لحال حال وتغير، وأنشدوا: /
وإذا الغريب صبا إلى أوطانه                     شوقا فمغناه إلى أحبابه
          إنما يبكي المذنب على ديار عمرتها التقوى كيف أخربتها الخطايا؟ كيف لا يبكي منقول من جنة الوصل إلى جهنم الهجر.
          إذا نظر الأسير إلى نفسه في ضيق القِدِّ قطع أسفه حيازيم القلب، نَفْسُ المطرود بعد التقريب في قلق لا يحد، إن تذكرتْ ذنوبها ناحت، وإن تصورتْ عقابها صاحت، وإن تفكرتْ في طيب وصلها حنت، وكلما أحست بسياط البعد أنَّت.
تهيم إذا ريحُ الصبا نَسَمَتْ لها                     وتبكي إذا الوَرقاء في الغصن غَنَّتِ
إذا جذب الصبح اللثام تأوّهتْ                     وإن نشر الليلُ الجناحَ أربت
لها أنَّة وقت العشاء وأنة                     سُحيرًا فلولا أنتاها لجنتِ
إذا ذكرت نجدًا وطيب ترابه                     وبرد حصاه آخر الليل حنَّتِ
تمنت أحاليب الرعاء وخيمة                     بنجد فلم يقدر لها ما تمنَّتِ
          لا جَرَمَ، قال يحيى بن معاذ الرازي: التائب يبكيه ذنبه، والزاهد تبكيه غربته، والصديق يبكيه خوف زوال الإيمان، انتهى.
          ومن التوجع للعبرات: تألم الباطن لخطايا أخيك انتقادًا عليه وترحمًا له، وإن كانت جنايته عليك مع قبول عذره وعدم التأذي بزلته، ومقابلة إساءته بحسنته، واستدراك الفائتات بقضاء الواجبات من الصيام والصلوات والزكوات، وقد سبق بيان ذلك.
          قال الهروي: وإنما يستقيم إليه الرجوع وفاء بثلاثة أشياء: بالخلاص من لذة الذنب، وبترك استهانة أهل الغفلة؛ تخوفًا عليهم مع الرجاء لنفسك، وبالاستقصاء في رؤية علل الخدمة، انتهى.
          إنما يتيسر الخلاص من لذة الذنب بالتألم من تذكره كما كنت تتلذذ به وبالفكر فيه، وأما ترك استهانة أهل الغفلة فهو أن لا تستحقرهم خوفًا عليهم، وترجو لنفسك الخلاص من العقاب وحصول الثواب، بل يجب أن تعكس فتخاف على نفسك النقمة، وترجو لهم الرحمة وتعذرهم دون نفسك.
          وأما الثالث: فهو أن تستقصي في معرفة آفات خدمتك لله وللإخوان / وعللها، وأمراض النفس وعيوبها في الخدمة حتى تتخلص من حظوظ النفس.
          قال الهروي: وإنما يستقيم الرجوع إليه حالًا بثلاثة أشياء:
بالإياس من عملك.، ومعاينة اضطرارك، وشيم برق لطفه بك، انتهى.
          الإياس من العمل إنما يكون بمشاهدته من الله تعالى ونفي العمل والتأثير عن الغير لقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات: 96] وقوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[يونس: 22].
          وإذا كان العمل لله ورآه منه عاين اضطراره وافتقاره إليه، ويأس من عمله، فلاحت له بوارق لطفه به، فإن العبد إذا انسلخ عن أفعاله برؤية الفعل من الله تعالى واصطبح مضطرًا إليه يمده بلوامع اللطف وبوارق التجليات، وذلك من سنة الله في عباده.
          وقد قيل في قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ}[الشورى: 19] أنه الذي أوقد في أسرار عارفيه من المشاهدة سراجًا، وجعل الصراط المستقيم لهم منهاجًا، وأنزل عليهم من سحائب بِرِّه ماءً ثجّاجًا.
          يا مذنبين، هذا أوان الإنابة، يا غافلين عن الحق قد فتح بابه تعرَّضوا للقبول، فهذا وقت إجابة:
كم أكتوي قد جزع الصابر                     وقَيَّظَ المهجورُ يا هاجرْ
فإن يومَ البينِ حاشاكم                     أول شيء ما له آخرْ
كم يمطل الملسوع في الدهر                     بالرقى وكم ينتظر الناظرْ
          والله أعلم.
          أما الكلام على حديث عبد الله ففيه أمور:
          الأمر الأول: قول عبد الله: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وهذا خوف الصالحين كما قال في «الإحياء»[4/159]، ولفظه: وهكذا انقسام الخائفين إلى: من يخاف من معصيته وجنايته، وإلى من يخاف الله نفسه لصفته وجلاله وأوصافه التي تقتضي الهيبة لا محالة، فهذا أعلى رتبة، ولذلك يبقى خوفه وإن كان في طاعة الصديقين، وأما الآخر فهو في عرصة الغرور والأمن واظب على الطاعات، والخوف من المعصية خوف الصالحين، والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين، وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى، وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية، انتهى.
          وفي معنى قول عبد الله قال / الأستاذ(11): سمعت أبا عبد الله الصوفي، سمعت علي بن إبراهيم العكبري، سمعت الجُنيد يقول، وسئل عن الخوف فقال: توقع العقوبة مع مجاري الأنفاس.
          قال الأستاذ: ويُحكى عن السَّريِّ السَّقطي أنه قال: إني لأنظر إلى أنفي في اليوم كذا وكذا مرة، مخافة أن يكون قد اسود لما أخاف من العقوبة.
          قلت: ونظير هذا، كان محمد بن واسع إذا انتبه من منامه ضرب بيده إلى دبره ويقول: إني أخاف والله أن أمسخ قردًا، ثم قال الأستاذ: وقال أبو حفص: منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي أن الله ينظر إليَّ بنظر السخط وأعمالي تدل على ذلك، انتهى.
          وكان من دعاء محمد بن واسع: اللهم إني أَخَلَقَ وجهي كثرةُ ذنوبي، فهبني لمن أحببتَ من خلقك.
          وقال يحيى بن معاذ الرازي: إلهي إن كانت ذنوبي عظمت في جنب نهيك، فإنها قد صغرت في جنب عفوك، إلهي لا أقول لا أعود لما أعرف من خلقي وضعفي، إلهي إنك إن أحببتني غفرت سيئاتي، وإن مقتني لم تقبل حسناتي، ثم قال: أوه قبل استحقاق قول أوه، وأنشدوا:
تشاغلَ بالدنيا أناسٌ فأصبحوا                     عن الله مَحجوبين قد مُنعوا القُرْبا
وأهلُ التُّقى لله تَسْري قلوبُهم                     إلى غايةٍ نالوا بها المشربَ العَذْبا
فجالوا بنور العلم في رَوضة التُّقى                     بها أنفس الأبرار قد ملئت حبا
هُمُ قَطَعوا الدنيا بخوفِ وعيدهم                     فذكرهُمُ للموتِ أورثَهم كَرْبا
          وقال آخر:
دعْ دموعي يحقّ لي أن أنوحا                     لم تَدَع لي الذنوب قلبًا صحيحا
أخلَقَت بهجتي أكُفُّ المعاصي                     ونعاني المشيبُ نعيًا فَصيحا
كلما قلتُ قد بَرَى جرح قلبي                     عاد قلبي من الذنوب جَريحا
إنما العفو والنَّعيم لعبدٍ                     جاء في الحشر آمنًا مستريحا
          ومن المؤمنين من يهم بمعصية فيأتيه واعظ الله فيسمعه، فيرتدع عنها ويخاف سوء عاقبتها.
          قال أبو نعيم(12): حدَّثنا عبد الله بن محمد، حدَّثنا أبو الحسن بن أبان، حدَّثنا أبو بكر بن عبيد، / حدثني أبو ثابت الخطاب، حدثني رجاء بن عيسى قال: قال عمرو بن جرير: تدري أي شيء كان سبب توبتي؟ خرجت مع أحداث بالكوفة كلما أردت آتي المعصية هتف بي هاتف {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}[المدثر: 38] انتهى.
          ولقد أحسن ابن الجوزي(13) في قوله: أين الزاد يا مسافر، لقد أنشبَ الموتُ فيك الأظافر، كيف تصنع إن غضب الغافر، يا مبارزًا بالقبيح أمؤمن أنت أم كافر، يا نائمًا عن صلاحه ما هذا الهجوع، يا دائم الحضور عندنا هل عمرك إلا أسبوع، تتملق للدنيا بقلبك وتعتذر بلفظ مصنوع، إصرارك في الصحيحين وإقلاعك حديث موضوع، مَزِّق أملك فالعمر قصير، حَقِّق عملك فالناقد بصير.
          كان يحيى بن زكريا يبكي حتى رقَّ جلده وبدت أضراسه، هذا وقد كان على الجادة، فكيف بمن ضل وا عجبًا من بكائه وما ثم مأثم، فكيف بمن ما انقضى يوم إلا وثم مأثم، انتهى.
          الأمر الثاني: قوله: وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا، قال أبو شهاب بيده فوق أنفه، هذا من جملة آثار المعاصي، وهو أن العبد لا يزال يركب الذنب حتى يهون عليه ويصغر في قلبه، وذلك علامة الهلاك، فإن الذنب كلما صغر في عين العبد عظم عند الله تعالى.
          وهو أيضًا من جملة الأسباب التي يكبر بها الصغير.
          قال الغزالي في «الإحياء»[4/32]: بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب:
          اعلم أن الصغيرة تكبر بأسباب:
          منها: الإصرار والمواظبة، ولذلك قال: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار، فكبيرة واحدة تنصرم ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك، كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها.
          ومثال ذلك: قطرات من الماء تقع على حجر على التوالي فتؤثر فيه، وذلك القدر من الماء لو صُبَّ عليه دفعة واحدة لم يؤثر، ولذلك قال صلعم: «خير الأعمال أدومها وإن قلَّ»(14) والأشياء تستبان بأضدادها، فإذا كان النافع من العمل هو الدائم وإن قل، والكثير المنصرم قليل النفع في تنوير القلب وتطهيره، فكذلك القليل / من السيئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب، إلا أن الكبيرة قلَّ ما يتصور الهجوم عليها بغتة من غير سوابق ولواحق من جملة الصغائر، فقلَّ ما يزني الزاني بغتة من غير مراودة ومقدمات، وقلَّ ما يقتل القاتل بغتة من غير مشاحنة سابقة ومعاداة.
          وكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولاحقة، ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق إليها عود، ربما كان العفو عنها أرجى من صغيرة واظب الإنسان عليها عمره.
          ومنها أن يستصغر الذنب، فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله، وكلما استصغره كبر عند الله؛ لأن استعظامه يصدر عن نفور العبد عنه وكراهته له، وذلك النفور يمنع القلب من شدة تأثره به، واستصغاره يصدر عن الألف له، وذلك يوجب شدة الأثر في القلب، والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات، والمحذور تسويده بالسيئات، ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة، فإن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة، وقد جاء في الخبر: «أن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مَرَّ على أنفه فأطاره»(15).
          قال بعضهم: الذنب الذي لا يغفر قول العبد: ليت كل شيء عملته مثل هذا، وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله، فإذا نظر إلى عظم من عصى بذلك الذنب رأى الصغير كبيرًا، وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى قلّة الهدية، وانظر إلى عظم مُهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة، وانظر إلى كبرياء من واجهتَه بها، وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين: لا صغيرة، بل كل مخالفة فهي كبيرة، ولذلك قال بعض الصحابة للتابعين: إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلعم من الموبقات، إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم، فكانت الصغائر عندهم بالإضافة إلى جلال الله كبائر، وبهذا السبب يعظم من العالم ما لا يعظم من الجاهل، ويتجاوز عن العامي في أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف؛ لأن / الذنب والمخالفة تكبر بمعرفة قدر المخالف.
          ومنها: السرور بالصغيرة والفرح والتبجح بها، واعتداد التمكن من ذلك نعمة، والغفلة عن كونها سبب الشقاوة.
          وكلما تمكنت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة وعظم أثرها في تسويد قلبه، حتى أن من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه، كما يقول: أما رأيتني كيف مزقت عرضه، ويقول المناظر في مناظرته: أما رأيتني كيف فضحته وكيف ذكرت مساوئه حتى أخجلته، وكيف استخففت به وكيف لبست عليه.
          ويقول المعامل في التجارة: أما رأيت كيف روَّجتُ عليه الزائف وكيف خدعتُه، وكيف غبنتُه في ماله، وكيف استحمقتُه، فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر، فإن الذنوب مهلكات، وإذا دفع العبد إليها فظفر الشيطان به في الحمل عليها، فينبغي أن يكون في مصيبته وتأسفه بسبب غلبة العدو عليه، وبسبب بعده من الله كالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه، حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه.
          ومنها: أن يتهاون بستر الله عليه وحلمه عنه وإمهاله إياه، ولا يدري أنه إنما يمهل مقتًا ليزداد بالإمهال إثمًا، فيظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به، فيكون ذلك لأمنه من مكر الله وجهله بمكامن الغرور بالله تعالى كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[المجادلة: 8].
          ومنها: أن يأتي الذنب ويظهره بأن يذكره بعد إتيانه ويأتيه بمشهد من غيره، فإن ذلك منه جناية على ستر الله تعالى الذي أسدله عليه، وتحريكٌ لرغبة الشر لمن أسمعه ذنبه وأشهده فعله، فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته، فغلظت بذلك، فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له، صارت جناية رابعة، وتفاحش الأمر، وفي الخبر: «كلُّ الناسٍ معافىً إلا المُجاهرين، يبيتُ أحدهم على ذنبٍ قد ستره الله عليه، فيصبح فيكشفُ ستر الله ويتحدث بذنبه»(16).
          وهذا لأن من صفات الله / ونعمه أنه يظهر الجميل ويستر القبيح ولا يهتك الستر، فالإظهار كفران لهذه النعمة.
          وقال بعضهم: لا تذنب، فإن كان ولا بد فلا ترغب غيرك فتذنب ذنبين، ولذلك قال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}[التوبة: 67].
          وقال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصيته، ثم يهونها عليه.
          ومنها: أن يكون المذنب عالمًا يقتدى به، فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه كلبس العالم الإبريسم، وركوبه مراكب الذهب والفضة، وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين، ودخوله على السلاطين وتردده إليهم، ومساعدته إياهم بترك الإنكار عليهم وإطلاقه اللسان في الأعراض، وتعديه باللسان في المناظرة وقصده الاستخفاف، واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه كعلم الجدل والمناظرة.
          فهذه ذنوب يُتبع العالم عليها، فيموت العالم ويبقى شره مستطيرًا في العالم آمادًا متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، وفي الخبر: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئًا»،(17) وقال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ}[يس: 12]، والآثار: ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل.
          وقال ابن عباس: ويل للعالم من الأتباع، يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق.
          وقال بعضهم: مثل زلة العالم، مثل انكسار السفينة، تغرق ويغرق أهلها.
          وفي الإسرائيليات: أن عالمًا كان يضل الناس بالبدعة، ثم أدركته توبة فعمل في الإصلاح دهرًا، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له: إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك، ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار، فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر، فعليهم وظيفتان:
          إحداهما: ترك الذنب، والأخرى: إخفاؤه.
          وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا اتبعوا، فإذا ترك التجمل والميل إلى الدنيا وقنع منها باليسير / ومن الطعام بالقوت، ومن الكسوة بالخلق، فيتبع على ذلك، ويقتدي به العلماء والعوام، ويكون له مثل ثوابهم، وإن مال إلى التجمّل مالت طباع من دونه إلى التشبه به ولا يقدرون على التجمّل إلا بخدمة السلاطين وجمع الحطام من الحرام، ويكون هو السبب في جميع ذلك، فحركات العلماء في طوري الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها، إما بالربح وإما بالخسران، انتهى.
          ومراده ببعض الصحابة أنس ☺، قال البخاري[6492]: باب ما يتقى من مُحقِّرات الذنوب، حدَّثنا أبو الوليد، حدَّثنا مهدي، عن غيلان، عن أنس قال: إنكم لتعملون أعمالًا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدها على عهد رسول الله صلعم الموبقات، قال أبو عبد الله: يعني بذلك: المهلكات، انتهى.
          ونظير ما ذكره في المذنب إذا كان عالمًا يقتدى به، قال سُمَيط: يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم، حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره وحملها فوق رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي، فقالوا: هذا أعلم بالله منا، لو لم ير في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا، فرغبوا في الدنيا وجمعوها، قال عبيد الله: فكان أبي يقول: فمثله كمثل الذي قال الله ╡: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}[النحل: 25] انتهى.
          ولذلك نظائر تأتي في مكانها إن شاء الله، وبالجملة، فالاستخفاف بالذنب مقيض لسخط الرب، وفيه وفي أمثاله من الجرأة على الله تعالى ما لا يخفى.
          وقد قال الشيخ عز الدين(18): فإن قيل: لو أن إنسانًا قتل رجلًا يعتقد أنه معصوم فظهر أنه يستحق دمه، أو وطئ امرأة يعتقد أنها أجنبية وأنه زان بها، فإذا هي زوجته أو أمته، أو أكل مالًا يعتقده ليتيم، ثم تبين أنه ملكه، أو شهد بالزور في ظنه، وكانت شهادته موافقة للباطن، أو حكم بباطل في ظنه، ثم ظهر أنه حق فهل يكون مرتكبا لكبيرة مع كونه لم يحقق المفسدة؟
          قلنا: أما في الدنيا فتجري عليه أحكام الفاسقين لجرأته على رب العالمين، فتسقط عدالته وترد شهادته وروايتُه(19)، وتبطل بذلك كل ولاية تشترط فيها العدالة؛ لأن العدالة إنما شرطت في الشهادات / والروايات والولايات لتحصل الثقة بصدقه في إخباره وشهادته وبأدائه الأمانة في ولايته، وقد انخرمت الثقة في ذلك كله بجرأته على ربه بارتكاب ما يعتقده كبيرة؛ لأن الوازع عن الكذب في إخباره وشهادته، وعن التقصير في ولايته، إنما هو خوفه من الجرأة على ربه بارتكاب كبيرة، أو بالإصرار على صغيرة، فإذا حصلت جرأته على ما ذكرته سقطت الثقة بما يزعُه عن الكذب في خبره وشهادته والنصح في ولايته.
          وأما مفاسد الآخرة وعذابها، فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل ولا آكل مال حرامًا؛ لأن عذاب الآخرة مرتب على رتب المفاسد في الغالب، كما أن ثوابها مرتب على رتب المصالح في الغالب، ولا يتفاوتان بمجرد الطاعة ولا بمجرد المعصية مع قطع النظر عن رتب المصالح والمفاسد، ولو كان كذلك لكان أجر التصدق بتمرة كأجر التصدق ببذرة، ولكانت غيبة المؤمنين بنسبتهم إلى الكبائر كغيبتهم بنسبتهم إلى الصغائر، ولكان سب الأنبياء كسب الأولياء، والظاهر أن هذا لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة لأجل جرأته وانتهاكه الحرمة، بل يعذب عذابًا متوسطًا بين عذاب الكبيرة والصغيرة لجرأته على الله تعالى بما يعتقد أنه كبيرة.
          وقال في موضع آخر: فإن قيل: لو فعل المكلف ما هو مفسدة في ظنه واعتقاده وليس بمفسدة في نفس الأمر، فهل يعاقب عليه عقاب من عصى الله بتحقيق المفسدة؟ فالجواب: أنه لا يعاقب إلا على جرأته ومخالفته دون تحقيقه المفسدة؛ لأن الأوزار تختلف باختلاف صغر المفاسد وكبرها، انتهى.
          الأمر الثالث: أبو شهاب هذا هو الأصغر عبد ربه بن نافع الحَنَّاط، ثقة يروي عن الحسن بن عمرو الفُقَيمي، وعاصم الأحول، وأبي إسحاق الشيباني، وداود بن أبي هند، والأعمش وغيرهم، روى عنه أبو الوليد وأحمد بن يونس وحجّاج بن إبراهيم الأزرق.
          قولهم: أبو شهاب الحَنّاط الأسدي، وقيل: الهذلي الكوفي موسى بن نافع، وهو أبو شهاب الأكبر، يروي عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد، / روى عنه يحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس ومحمد بن عبيد، وأجمعوا على أنه ثقة ثبت.
          قولهم: أبو شهاب الكتاني الكوفي محمد بن إبراهيم، يروي عن عاصم بن بهدلة، روى عنه مُسدَّد بن مُسَرْهَد، وليس بمشهور في نشر العلم.
          قولهم: أبو شهاب الحرَّاني التميمي عيسى بن المغيرة، كوفي يروي عن الشعبي وعمر بن عبد العزيز، روى عنه الثوري، وهو ثقة والله أعلم.
          الأمر الرابع: قوله: «لَلَّهُ أفرح بتوبة عبده .. . »[3608] إلى آخره، هذا من قوله صلعم.
          قال مسلم[2744]: حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم قال: واللفظ لعثمان، قال إسحاق: أنا، وقال عثمان: حدَّثنا جرير، عن الأعمش، عن عُمارة بن عمير، عن الحارث بن سويد قال: دخلتُ على عبد الله أعوده وهو مريض، فحدثنا بحديثين، حديثًا عن نفسه، وحديثًا عن رسول الله صلعم، قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: «للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجلٍ في أرض دَويَّةٍ مَهلكَةٍ معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنتُ فيه، فأنام حتى أموت، فوضَع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده طعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده».
          حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا يحيى بن آدم، عن قرطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش بهذا الإسناد، وقال: من رجل بداوية من الأرض.
          وحدثني إسحاق بن منصور، حدَّثنا أبو أسامة، حدَّثنا الأعمش، حدَّثنا عمارة بن عمير، سمعت الحارث بن سويد، حدثني عبد الله حديثين: أحدهما عن رسول الله صلعم، والآخر عن نفسه فقال: قال رسول الله صلعم: «الله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن»[م:2744/4] بمثل حديث جرير، انتهى.
          وقد جاء هذا من أحاديث جماعة من الصحابة، قال مسلم[2745/5]: حدَّثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، حدَّثنا أبي، أخبرنا أبو يونس، عن سماك قال: خطب النعمان بن بشير فقال: الله أشد فرحًا بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على / بعير، ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض، فأدركته القائلة، فنزل فقال تحت شجرة فغلبته عينه وانسلَّ بعيره، فاستيقظ فسعى شرفًا، فلم ير شيئًا، ثم سعى شرفًا ثانيًا، فلم ير شيئًا، ثم سعى شرفًا ثالثًا، فلم ير شيئًا، فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه: فبينما هو قاعد، إذ جاءه بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده، فلله أشد فرحًا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره على حاله، قال سماك: وزعم الشعبيُّ أن النُّعمان رفع الحديث إلى النبي صلعم، وأما أنا فلم أسمعه.
          حدَّثنا يحيى بن يحيى، وجعفر بن حميد قال جعفر حدَّثنا وقال يحيى: أخبرنا عبيد الله بن أبي إياد، عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلعم: «كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته تَجرُّ زمامها بأرضٍ قَفْرٍ ليس بها طعام ولا شراب، وعليها له طعام وشراب، فطلبها حتى شقَّ عليه، ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها، فوجدها متعلقة به» قلنا شديدًا يا رسول الله، فقال رسول الله صلعم: «أما والله، لله أشد فرحًا بتوبة عبده من الرجل براحلته». قال جعفر: أخبرنا عبيد الله بن إياد عن أبيه.
          أخبرنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قالا: حدَّثنا عمر بن يونس، أخبرنا عكرمة بن عمار، حدَّثنا إسحاق بن أبي طلحة، حدَّثنا أنس بن مالك وهو عمه، قال: قال رسول الله صلعم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم، كان على راحلته بأرض فلاة، فانقلبت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»[م:2747/7].
          حدَّثنا هداب بن خالد، أخبرنا همام، حدَّثنا قتادة، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلعم قال: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة» حدثنيه أحمد بن سعيد الدارمي، أخبرنا حيان، حدَّثنا همام، حدَّثنا قتادة، حدَّثنا أنس، عن النبي صلعم بمثله[م:2747/8].
          وقال مسلم[2675]: حدَّثنا سويد / بن سعيد، حدَّثنا حفص بن ميسرة، حدثني زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلعم قال: «قال الله ╡: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه حيثُ يذكرني، والله لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم يجدُ ضالته بالفلاة، ومن تقرَّب إلي شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إلي ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإذا أقبل إلي يمشي أقبلتُ إليه أهرول».
          أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، حدَّثنا المغيرة _يعني: الحزامي_ عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها»[م:2675].
          حدَّثنا محمد بن رافع، حدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همّام بن مُنبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلعم بمعناه[م:2675/2]، انتهى.
          وفيه كلمات:
          الأولى: في معنى الفرح من الله سبحانه، قال النووي في «شرح مسلم»[17/60]: قال العلماء: فرح الله تعالى هو رضاه، قال المازري: الفرح ينقسم على وجوه:
          منها: السُّرور، والسُّرور يقارنه الرضا بالمسرور به، قال: والمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجِدُ ضالّته بالفلاة، فعبر عن الرضا بالفرح؛ تأكيدًا لمعنى الرضا في نفس السامع ومبالغة في تقريره، انتهى.
          وقال الشيخ عز الدين في كتاب «المجاز»: قوله صلعم: «لله أَفرحُ بتوبة أحدِكم من أحدكم بضالّته إذا وجدها» ومعناه: أنه يريد بالتائبين ما يريده ذلك الفرح حين أفرحه، أو يكون من مجاز الملازمة، انتهى.
          الثانية: يستنبط من فرح الله سبحانه بتوبة المؤمن، أن التوبة إذا استجمعت شرائطها كان قبولها قطعيًّا، كما يقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلامًا صحيحًا، هذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه إجماع.
          ووافق الغزالي الجمهور في «الإحياء»[4/13]: فقال: بيان أن التوبة إذا اجتمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة:
          اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة فهي مقبولة، والناظرون بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن، علموا أن كل قلبٍ سليمٍ مقبول عند الله تعالى ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى ومستعد لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه / الله تعالى، وعلموا أن القلب خلق سليمًا في الأصل، فكل مولود يولد على الفطرة، وإنما تفوته السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها.
          وعلموا أن نار الندم تحرق تلك الغبرة، وأن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة، وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات، كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار، بل لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون، وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك؛ لأن يكون لباسه، فالقلب المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره، وكما أن استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة، فاستعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب وغسله بماء الدموع وحرقة الندم يطهره ويزكيه، فكل قلب زكي طاهر فهو مقبول، كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول، فإنما عليك التزكية والتطهير، فأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلي الذي لا مرد له وهو المسمى فلاحًا في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس: 9]، ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أقوى وأجلى من المشاهدة بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصي والطاعات تأثرًا متضادًا يستعار لأحدهما لفظ الظلمة، كما يستعار للجهل، ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم، وأن بين النور والظلمة تضادًا ضروريًا لا يتصور الجمع بينهما، فكأنه لم يعرف من الدين إلا قشوره، ولم يعلق به إلا أسماؤه وقلبه في غطاء عن كشف حقيقة الدين، بل حقيقة نفسه وصفات نفسه، ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل، وأعني به قلبه، إذ بقلبه يعرف غير قلبه، وهو لا يعرف قلبه، فمن توهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول والثوب يغسل بالصابون، والوسخ لا يزول إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب وخلله، فلا يقوى الصابون على قلعه.
          فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى تصير طبعًا ورينًا على القلب، فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب، / نعم قد يقول باللسان تبت ويكون ذلك كقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب، وذلك لا ينظف الثوب أصلًا ما لم تتغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن فيه، فهذا حال امتناع أصل التوبة وهو غير بعيد، بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله بالكلية.
          فهذا البيان كاف عند ذوي البصائر في قبول التوبة بنقل الآيات والأخبار، فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به.
          وقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}[الشورى: 25]، وقال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}[غافر: 3] إلى غير ذلك من الآيات.
          وقال صلعم: «الله أفرح بتوبة العبد»(20) الحديث.
          والفرح وراء القبول فهو دليل على القبول وزيادة، وقال رسول الله صلعم: «إن الله ╡ يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار، ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»[م:2759].
          فبسط اليد كناية عن طلب التوبة والطالب وراء القابل، فرب قابل ليس بطالب ولا طالب إلا وهو قابل، وقال صلعم: «لو عَملتم الخطايا حتى تَبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم»(21) وقال أيضًا: «إن العبدَ ليُذنب الذنبَ فيدخل به الجنَّة»(22) قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «يكون نصب عينيه تائبًا فارًّا حتى يدخل الجنَّة» وقال صلعم: «كفارة الذنب الندامة»(23) وقال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(24) ويروى أن حبشيًّا قال: يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة؟ قال: «نعم»، فولى ثم رجع فقال: يا رسول الله أكان يراني وأنا أعملها؟ قال: «نعم» فصاح الحبشي صيحة خرج فيها نفسه.
          ويروى: أن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النَّظِرَة فأنظره إلى يوم القيامة، فقال: وعزَّتك لا خرجتُ من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى: وعزَّتي وجلالي لا حجبت عنه التوبة ما دام فيه الروح(25).
          وقال صلعم: «إنَّ الحَسَنات يُذهِبنَ السَّيئات كما يذهب الماء الوسخ».
          والأخبار في هذا مما لا يحصى.
          وأما الآثار فقد قال سعيد بن المسيِّب: / أنزل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء: 25] في الرجل يذنب ثم يتوب، ثم يذنب، ثم يتوب.
          وقال الفضيل: قال الله ╡: بشر المذنبين أنهم إن تابوا قَبلتُ منهم، وحذِّر الصِّدِّيقين أني إن وضعت عليهم عدلي عذبتهم.
          وقال طَلقُ بنُ حَبيب: إنّ حقوقَ الله أعظم من أن يقوم بها العبد، ولكن أصبِحوا تائبين وأمسوا تائبين.
          وقال عبد الله بن عمر: من أتى خطيئة أو ألمَّ بها فوجد منها قلبه، مُحِيت عنه في أم الكتاب.
          ويروى أن نبيًّا من أنبياء بني إسرائيل أذنب، فأوحى الله تعالى إليه: وعزَّتي وجلالي لئن عدت لأعذِّبنك، فقال: يا رب أنتَ أنتَ وأنا أنا، وعزَّتك لئن لم تَعصمني لأعودن، فعصمه الله تعالى، وقال بعضهم: إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادمًا حتى يدخل الجنَّة، فيقول إبليس: ليتني لم أوقعه في الذنب.
          وقال حبيب بن ثابت تُعرض على الرجل ذنوبه يوم القيامة فيمر بالذنب فيقول أما إني قد كنت مشفقًا منك فيغفر الله له.
          ويروى أن رجلا سأل ابن مسعود عن ذنب ألمَّ به هل له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان فقال: إن للجنة ثمانية أبواب كلها يغلق ويفتح إلا باب التوبة فإن عليه ملكا موكلا به لا يغلق فاعمل ولا تيأس.
          وقال عبد الرحمن بن القاسم: تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر، وقول الله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}[الأنفال: 38] فقال: إني لأرجو أن يكون المسلم أحسن حالًا عند الله، ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلامٍ بعد إسلام.
          وقال عبد الله بن سلام: لا أحدثكم إلا عن نبي مرسل أو كتاب منزل، إن العبد إذا عمل ذنبًا ثم ندم طرفة عين، سقط عنه أسرع من طرفة عين، وقال عمر: اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة، وقال بعضهم: أنا أعلم متى يغفر لي، قيل: ومتى؟ قال: إذا تاب عليَّ، وقال آخر: أنا من أن أُحرم التوبة أخوف من أن أُحرم المغفرة؛ أي: المغفرة من لوازم التوبة، وتوابعها لا محالة.
          ويروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله عشرين سنة فذكره، وقد سبق، ثم قال:
          وقال ذو النون المصري: إن لله عبادًا نصبوا / أشجار الخطايا فذكره، وقد سبق أيضًا.
          ثم قال: فهذا القدر كاف في بيان أن كل توبة صحيحة فمقبولة لا محالة.
          فإن قلت: أفتقول ما قالت المعتزلة من أن قبول التوبة واجب على الله؟
          [فأقول: لا أعني بما ذكرته من وجوب قبول التوبة على الله](26)إلا ما يريده القائل بقوله: إن الثوب إذا غسل بالصابون وجب زوال الوسخ، وإن العطشان إذا شرب وجب زوال العطش، وأنه إذا مُنع من الماء مدة وجب العطش، وأنه إذا دام العطش وجب الموت، وليس في شيء من ذلك ما يريده المعتزلة بالإيجاب على الله.
          بل أقول: خلق الله الطاعة مُكفرة للمعصية، والحسنة ماحية للسيئة، كما خلق الماء مزيلًا للعطش والقدرة مُتسعة بخلافه لو سبقت به المشيئة فلا واجب على الله، ولكن ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب كونه لا محالة.
          فإن قلت: فما من تائب إلا وهو شاك في قبول التوبة، والشارب لا يشك في زوال عطشه، فلم يشك فيه؟
          فأقول: شكه في القبول كشكه في شرائط الصحة، فإن التوبة أركانها وشروطها دقيقة، وليس يتحقق وجود شرائطها، كالذي يشك في دواء شربه للإسهال في أنه هل يسهل ذلك كشكه في حصول شروط الإسهال في الدواء باعتبار الحال والوقت وكيفية خلط الدواء وطبخه، ووجود عقاقيره وأدويته، فهذا وأمثاله موجب للخوف بعد التوبة، وموجب للشك في قبولها لا محالة، انتهى كلام الغزالي ☼.
          ونحوه قول القرطبي(27): فإذا كملت التوبة على هذه الخصال التي ذكرنا والشروط التي بينا تقبلها الله بكرمه وأنسى حافظيه وبقاع الأرض خطاياه وذنوبه {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}[طـه: 82] انتهى.
          والمخالف في المسألة إمام الحرمين ومن تبعه، وقد سبق كلامه وقوله: وما عداه من ضروب التوبة مقبولة مظنون غير مقطوع به.
          وقال أيضًا: فصل: لا يجب على الله قبول التوبة عقلًا، وقد أطبقت المعتزلة على أن قبول التوبة حتمٌ على الله، تعالى الله عن قولهم، وقد سبق الدليل العام في نفي الوجوب عن الله تعالى، ثم لو رجعنا إلى الشاهد لم يشهد لوجوب قبول التوبة، فإن / من أساء مع غيره وانتهك حرماته وأبلغ في عدائِهِ وعداوته ثم جاء معتذرًا، فلا يتحتم في حكم العقل قبول توبته، بل الخيرة إلى من اهتضم ولم يرع حقه، فإن شاء صفح، وإن شاء أضرب عنه، ولا شك في ما قلناه، والذي يشهد لذلك من السمع إجماع الأمة على الرغبة إلى الله تعالى في قبول التوبة، والخضوع له في الابتهال إليه بقبولها، ولو كان قبول التوبة حتمًا لما كان للرغبات والإلحاح في الدعوات معنى.
          فإن قيل: هذا قولكم في العقل وموجبه، فما قولكم في قبول التوبة سمعًا، هل تثبت قطعا أم لا؟
          قلنا: لم يثبت ذلك عندنا قطعًا، بل هو مرجو مظنون، ولم يثبت نص قاطع لا يقبل التأويل في ذلك، فقطعنا بنفي وجوب القبول عقلًا، ولم نقطع بالقبول سمعًا ووعدًا، بل بظنه ظنًا، ويغلب ذلك على الظنون إذا توفرت على التوبة شرائطها، انتهى كلامه.
          وظاهر نصوص الكتاب والسنة يرد ذلك، وقد خرج الإمام أحمد(2) وأبو داود[1521] والترمذي[406] والنسائي[ك:10175] وابن ماجه[1395] من حديث أبي بكر الصديق عن النبي صلعم قال: «ما من رَجل يُذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلِّي، ثم يستغفر الله، إلا غَفَر له، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}[آل عمران: 135] الآية».
          وفي «المسند»[27497] عن أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلعم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى ركعتين أو أربعًا، يحسن فيها الركوع والخشوع، ثم يستغفر الله غفر له».
          ومن حجة المخالف _أعني: الذي قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يرجى وصاحبها تحت المشيئة_ قوله تعالى: {إنّ الله لا يَغفر أن يُشرَكَ به ويغفرُ ما دونَ ذلك لمن يَشاء}[النساء: 48]، فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته، وربما احتج بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[التحريم: 8]، وبقوله: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}[القصص: 67]، وبقوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31]، وبقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}[التوبة: 102]، والظاهر أن هذا في حق التائب؛ لأن الاعتراف يقتضي الندم.
           / وفي حديث عائشة في الإفك قوله صلعم: «إنّ العبدَ إذا اعترفَ بذنبه ثم تابَ، تابَ اللهُ عليه». [خ¦2661]
          والجواب: أن هذه الآيات لا تدل على عدم القطع، فإن الكريم إذا أطمع لم يقطع من رجائه المطمع، ومن هنا قال ابن عباس: إن {عَسَى} من الله واجبة، نقله عنه ابن أبي طلحة، ولم يدل ذلك على أنه غير مقطوع به كما في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}[التوبة: 18].
          وأما قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: 48]، فإن التائب ممن يشاء أن يغفر له كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه.
          قال صاحب «أُنس المنقطعين»: حُكي أن بعض المشايخ قال: أسرفَ رجل على نفسه بالمعاصي، ثم إنه يومًا تفكَّر في نفسه، فارعوى وزَجَر نفسه وخرج على وجهه هائمًا في الصحراء، فلقيه ملك في صورة آدمي فقال له: إلى أين تريد؟ فقال: أهيم على وجهي، وأطلب وليًّا من أولياء الله أتشفع به إلى ربي فيقبل توبتي، فقال له الملك: وما يحوجك الله إلى الواسطة، ابتهل إلى الله تعالى واسأله قبول توبتك، فقال الرجل: إني قد سددت الطريق بيني وبينه بكثرة المعاصي، ولا بد لي من واسطة، فأوحى الله إلى الملك أن دُلَّه على فلان الولي، فقد صدق عبدي، فدلَّه الملك على رجل في رأس جبل منقطع إلى الله، فلما رآه الولي قال: أهلا وسهلًا بحبيب الله، مرحبًا بالتائب إلى الله الفار من ذنوبه، النادم بين يدي الله، أبشر بقبول توبتك واستأنف العمل، فقال الرجل: أيها الولي وما علامة قبول توبتي؟ قال: أن تدعو ذلك الجبل إليك فيأتيك، فقال التائب: أيها الجبل، إن كان الله تعالى قبل توبتي وغفر لي ذنوبي فأقبل إليَّ، فاضطرب الجبل نحوه، فقال: ارجع، لقد عرفت فضل ربي، ثم استقام وعبد الله إلى أن مات في ذلك المكان:
أيا مَنْ ليس لي منه مُجيرُ                     بعفوك مِن عذابك أَستجيرُ
أنا العبدُ المُقرُّ بكل ذَنبٍ                     وليس سواك لي أحدٌ مجيرُ
إليكَ توسُّلي في كل حالٍ                     لأني مُذنب عبدٌ فقيرُ /
فإن عاقَبتني فالذنبُ ذنبي                     وإنْ تَعفو فأنتَ هو الغفورُ
          انتهى.
          وقد سبق قول ابن الجوزي: يا مُذْنبين هذا أوان الإنابة، يا غافلين عن الحقِّ قد فتحَ بابه، تعرضوا للقبول فهذا وقت إجابة.
          الثالث: قال أبو نعيم(28): أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي في «كتابه»، وحدثني عنه عثمان بن محمد، حدَّثنا عبد الله بن سهل، سمعت يحيى بن معاذ يقول: للتائب فخر لا يعادله فخر في جميع أفخاره، فرح الله بتوبته، انتهى.
          قلت: وهذا الفخر حاصل له في الدارين، وهذا أحد فوائد التوبة، وهي كثيرة:
          منها: ما يتعلق بالدارين.
          ومنها: ما يتعلق بأحدهما، فمما يتعلق بهما: الفخر كما سبق آنفًا، ومن ذلك: العز فيهما.
          قال المبرد في «الكامل»: قال علي ☺: من سره الغنى بلا مال، والعز بلا سلطان، والكثرة بلا عشيرة، فليخرج من ذل المعصية إلى عز الطاعة، فإنه واجد ذلك كله، انتهى.
          ونحوه قول الشافعي لعبد الله بن عبد الحكم: من لم تُعِزُّه التقوى فلا عزَّ له.
          ومنه: أن التائب حبيب الله قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة: 222].
          قال أبو نعيم(29): أخبرنا محمد بن أحمد في «كتابه»، حدَّثنا موسى بن إسحاق، حدَّثنا حجاج بن يوسف، حدَّثنا يونس بن محمد، حدَّثنا أبو شهاب قال الحجاج: أُخبِرت عن أبي جعفر أن أباه علي بن الحسين قاسم الله ماله مرتين، وقال: إن الله يحب المذنب المؤمن التواب، انتهى.
          وقال(30): سمعت محمد بن محمد بن عبيد، سمعت الحسن بن علوية، أنشدنا يحيى بن معاذ الرازي:
أنا إنْ تُبتُ منّاني                     وإن أذنبتُ رَجَّاني
وإن أدبرتُ ناداني                     وإن أقبلتُ أدناني
وإن أحببتُ والاني                      وإن ذكَّرتُ ناجاني
وإن قَصَّرت عافاني                     وإن أحسنتُ جازاني
حبيبي أنتَ رحماني                     [ اصرف عنّي أحزاني](31)
إليك الشوق من قلبي                     على سري وإعلاني
فيا أكرم من يرجى                     ويا قديم الإحسان /
ما كنت على هذا                     إله الناس تنساني
في الدنيا وفي العقبى                     على ما كان من شاني
          انتهى.
          قال سهل بن عبد الله: المؤمنون الذين وعدهم الله الجنَّة على ثلاث مقامات:
          واحد: آمن وليس له عمل، فله الجنَّة.
          وآخر: آمن وليس له إثم وعمِلَ صالحًا، فهذا في صفة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون: 1].
          والثالث: آمن ثم أذنب ثم تاب وأصلح، فهو حبيب الله فله الجنَّة.
          والرابع: آمن وأحسن وأساء، يتبين له عند الموازنة ولله فيه مشيئة، رواه أبو نعيم(32) أيضًا.
          أما الفوائد الدنيوية:
          فمنها قالا: ينعقد النكاح بشهادة المستورين على الصحيح، وقال الإصطخري: لا، والمستور من عرفت عدالته ظاهرًا لا باطنًا.
          وقال البغوي: لا ينعقد بمن لا تعرف عدالته ظاهرًا، وهذا كأنه مصور فيمن لا يعرف إسلامه، وإلا فالظاهر من حال المسلم الاحتراز من أسباب الفسق، زاد في «الروضة» قلت: الحق هو قول البغوي، وأن مراده من لا يعرف ظاهره بالعدالة، وقد صرح البغوي بهذا، وقاله شيخه القاضي حسين، ونقله إبراهيم المروزي عن القاضي ولم يذكر غيره، والله أعلم.
          ولا ينعقد بمن لا يظهر إسلامه وحريته بأن يكون في موضع يختلط به المسلمون بالكفار، والأحرار بالعبيد ولا غالب، وتردد الشيخ أبو محمد في مستور الحرية والصحيح الأول، بل لا يكتفى بظاهر الإسلام والحرية بالدار حتى يعرف حاله فيهما باطنًا، هذا مقتضى كلام البغوي وغيره، وفرقوا بأن الحرية يسهل الوقوف عليها بخلاف العدالة والفسق، ثم قالا واللفظ للروضة: فرع استتابة المستورين قبل العقد احتياط واستظهار، وتوبة المعلن بالفسق حينئذ هل تلحقه بالمستور؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد، والأصح المنع، فإن ألحقنا فعاد إلى فجوره على قرب، قال الإمام: فالظاهر أن تلك التوبة تكون ساقطة قال: وفيه احتمال.
          ومنها قالا: ويستتاب المرتد قبل قتله، وهل الاستتابة واجبة أم مستحبة؟ قولان ويقال: وجهان، أظهرهما: واجبة، وعلى التقديرين / في قدرها قولان: أحدهما: ثلاثة أيام، وأظهرهما: في الحال، فإن تاب وإلا قتل ولم يمهل، وقيل: لا يجب الإمهال ثلاثًا قطعًا، وإنما الخلاف في استحبابه، ولا خلاف أنه لا يخلى في مدة الإمهال بل يحبس انتهى(33).
          وقد قال البخاري[قبل6918]: كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم.
          وقال مالك في «الموطأ»[2/737]: عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري، فسأله عن الناس، فأخبره، ثم قال له عمر: هل كانت من مُغَرِّبة خبر؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، فقال: ماذا فعلتم به؟ قال: قربناه، فضربنا عنقه، فقال عمر: فهلا حبستموه ثلاثًا، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه لعله يتوب، أو يراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني.
          ومنها قالا في باب قطاع الطريق: واللفظ للروضة[13/368]: الطرف الثالث في حكم هذه العقوبة وهو أمران: الأول: السقوط بالتوبة، وقد سبق أن قاطع الطريق إذا هرب يطلب ويقام ما يستوجبه من حد أو تعزير، فلو تاب قبل القدرة عليه سقط ما يختص بقطع الطريق من العقوبات على المذهب، وقيل: قولان، وإن تاب بعد القدرة لم يسقط على المذهب، وقيل: قولان وهل تؤثر التوبة في إسقاط حد الزنا والسرقة والشرب في حق غير قاطع الطريق، وفي حقه قبل القدرة وبعدها، فيه قولان سبقا الأظهر: لا يسقط، صححه الإمام والبغوي وغيرهما، وهو منسوب إلى الجديد لإطلاق آية الزنا، وقياسًا على الكفارة، ورجح جماعة من العراقيين السقوط.
          قلت: رجح الرافعي في «المحرر» منع السقوط، وهو أقوى والله أعلم.
          ثم ما يسقط بالتوبة في حق قاطع الطريق قبل القدرة يسقط بنفس التوبة.
          وأما توبته بعد القدرة وتوبة الزاني والسارق والشارب فوجهان: أحدهما: كذلك، ويكون إظهار التوبة كإظهار الإسلام تحت السيف، والثاني: يشترط مع التوبة إصلاح العمل ليظهر صدقه فيها، ونسب الإمام هذا الوجه إلى القاضي حسين، والأول إلى سائر الأصحاب، والذي ذكره جماعة / من العراقيين والبغوي والروياني هو ما نسبه إلى القاضي، واحتجوا بظاهر القرآن قال الله تعالى في قطاع الطريق: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}[المائدة: 34] لم يذكر إلا التوبة، وقال في الزنا: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}[النساء: 16]، وفي السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ}[المائدة: 39].
          قال الإمام: ومعرفة إصلاح العمل بأن يمتحن سرًّا وعلنًا، فإن بدا الصلاح أسقطنا الحد عنه وإلا حكمنا بأنه لم يسقط، قال الإمام: وهذا مُشكل؛ لأنه لا سبيل إلى تخليته، وإن خُلِّيَ فكيف يعرف صلاحه؟ وأشبه أن يقال تفريعًا على هذا: إذا أظهر التوبة امتنعنا من إقامة الحد، فإن لم يظهر ما يخالف الصلاح فذاك، وإن ظهر أقمنا عليه الحد، وقد ذكرنا في باب حدِّ الزنا في موضع القولين في سقوط الحدِّ بالتوبة طريقين: أحدهما: تخصيصهما بمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فإن تاب بعد الرفع لم يسقط قطعًا.
          والثاني: طردهما في الحالين، وقد يرجع هذا الخلاف إلى أن التوبة بمجردها تسقط الحد أم يعتبر الإصلاح إن اعتبرناه، اشترط مضي زمن يظهر به الصدق، فلا تكفي التوبة بعد الرفع.
          فرع: إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة، فإن كان قد قتل سقط عنه انحتام القتل، فللولي أن يقتص وله العفو، هذا هو المذهب، وفي وجه شاذ: يسقط القصاص فلا يبقى عليه شيء أصلًا، وحكي وجه أنه يسقط بالتوبة القصاص وحد القذف؛ لأنهما يسقطان بالنسبة لحدود الله تعالى، ونقله ابن القطان في القذف قولًا قديمًا وليس بسيئ.
          وإن كان قد قتل وأخذ المال سقط الصلب وانحتام القتل وبقي القصاص وضمان المال، وفي القصاص ما ذكرنا، وإن كان قد أخذ المال سقط قطع الرِّجل، وكذا قطع اليد على المذهب، انتهى المقصود.
          ومنها: عود أهلية الشهادة بشرطه المعروف.
          ومنها: قال البخاري[قبل6821]: باب من أصاب ذنبًا دون الحد، وأخبر الإمام فلا عقوبة عليه بعد التوبة إذا جاء مستفتيًا.
          قال عطاء: لم يعاقبه النبي صلعم، وقال ابن جريج: لم يعاقب الذي جامع في / رمضان، ولم يعاقب عمر صاحب الظبي، وفيه عن أبي عثمان عن ابن مسعود، عن النبي صلعم، حدَّثنا قتيبة، حدَّثنا الليث، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أن رجلًا وقع بامرأة في رمضان، فاستفتى رسول الله صلعم فقال: «هل تجد رقبة؟» قال: لا، قال: «هل تستطيع صيام شهرين» قال: لا، قال: «فأطعم ستين مسكينًا»[خ¦6821].
          وقال الليث: عن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة: أتى رجل النبي صلعم في المسجد فقال: احترقت، فقال: «مم ذاك؟» قال: وقعت بامرأتي في رمضان، فقال له: «تصدق» فقال: ما عندي شيء، فجلس وأتاه إنسان يسوق حمارًا ومعه طعام _فقال عبد الرحمن: لا أدري ما هو_ أتى النبي صلعم فقال: «أين المحترق؟» فقال: ها أنا ذا، قال: «خذ هذا فتصدق به» قال: أعلى أحوج مني، ما لأهلي طعام، قال: «فكلوه» انتهى[خ¦6822، م:1112].
          وصاحب الظبي قبيصة وقصته: قال أبو عبيد في حديث عمر ☺ حين أتى قبيصة بن جابر فقال: إني رميتُ ظبيًا وأنا مُحرم، فأصبت خُشَشاءه فركب رَدْعَهُ فآسن فمات، فأقبل على عبد الرحمن بن عوف فشاوره، ثم قال: اذبح شاة، قال أبو عبيد: الخششاء العظم الناشز خلف الأذن، وفيه لغتان: خشَّاء وخششاء(34).
          وقوله: ركب رَدْعه يعني: أنه سقط على رأسه، وإنما أراد بالردع: الدم، شبهه بردع الزعفران، وردع الزعفران أثره وركوبه إياه: أن الدم سال ثم خرَّ الظبي عليه صريعًا، فهذا معنى قوله: ركب ردعه.
          وقوله: آسن يعني: أنه دِيرَ به، ولهذا يقال للرجل إذا دخل بئرًا فاشتدت عليه ريحها حتى يصيبه دوار فيسقط: قد آسن يأسن أسنًا.
          قال زهير:
يغادر القرن مصفرًّا أنامله                     يميل في الرمح ميل المائِحِ الأَسِنِ
          المائح: الذي ينزل البئر فيغرف من مائها في الدلو إذا قلَّ الماء، قال أبو عبيد: ويقال في معنى: ركب ردعه، أنه لم يردعه شيء فيمنعه عن وجهه، ولكنه ركب ذلك ومضى / لوجهه، والرادع هو المانع، لقول الناس: ردعت فلانًا عما يريد؛ أي: منعته، انتهى.
          وبهذا قال أصحابنا: وفي الغزال عنز؛ لأن عمر قضى فيه بذلك، وسيأتي بسط الكلام على حكم هذه الترجمة التي ترجمها البخاري في باب التعزير إن شاء الله.
          وأما فوائدها الأخروية:
          فمنها: أن التوبة تسقط أثر المعصية، فما ذكره في «الروضة»[13/358] من زياداته فقال: فرع: قال الإمام في الحديث: من أتى شيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، هذا دليل على أنه لا يجب على من قارفَ موجبَ حدٍّ إظهارُهُ للإمام، قال: وكان شيخي يقطع به، وفيه احتمال إذا قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة.
          قلت: الصواب الجزم بأنه لا يجب الإظهار لقصة ماعز، وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم، وأما في ما بينه وبين الله تعالى فالتوبة تسقط أثر المعصية، والله أعلم.
          قلت: وفحوى هذا الكلام يدل على أن التوبة تمحو المعصية من الصحيفة، وقد اختلف السلف في ذلك على قولين:
          أحدهما: هذا، فقد جاءت أحاديث كثيرة ظاهرها: أن السيئات تمحى بالحسنات، في «الصحيحين» عن أبي هريرة عن النبي صلعم قال: «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا». [خ¦528، م:667]
          وفي «مسلم»[251] عنه عن النبي صلعم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «إسباغ الوضوء على المَكارِه، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرِّباط».
          وأخرجا عنه أن رسول الله صلعم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت عنه مئة سيئة» الحديث الآتي إن شاء الله. [خ¦3293، م:2691]
          وسبق حديث أبي ذر[3474]: «من قال في دُبر صلاة الفَجر وهو ثانٍ رِجْليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل / شيء قدير عشر مرات، كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات» الحديث.
          وفي حديث معاذ: «وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها»(35) وقد سبق كلام الغزالي في ذلك.
          وقال شويس العدوي _وكان من قدماء التابعين_: إن صاحب اليمين أمير، أو قال: أمين، على صاحب الشمال، فإذا عمل ابن آدم سيئةً فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين: لا تعجل لعله يعمل حسنةً، فإن عمل حسنة ألقى واحدةً بواحدة وكتب له تسع حسنات، فيقول الشيطان: يا ويله من يدرك تضعيف ابن آدم(36).
          وخرج الطبراني[3451] بإسنادٍ فيه نظر: عن أبي مالك الأشعري، عن النبي صلعم قال: «إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك، فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات، فإذا أراد أن ينام فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكبيرة، ويحمد الله أربعًا وثلاثين تحميدة، ويسبح الله ثلاثًا وثلاثين تسبيحة فتلك مئة» وهذا غريب ومنكر.
          وروى وكيع حدَّثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله _يعني: ابن مسعود_: وددت أني صولحت على أن أعمل كل يوم تسع خطيئات وحسنة.
          وهو إشارة إلى أن الحسنة يمحى بها التسع خطيئات ويفضل له ضعف واحد من ثواب الحسنة فيكتفي به.
          قال عطية العوفي: بلغني أنه من بكى على خطيئة مُحيت عنه وكُتبت له حسنة.
          وخرج الطبراني بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: من ذكر خطيئة عملها فوجل قلبه منها واستغفر الله، لم يحبسها شيء حتى يمحاها.
          وفي رواية: حتى يمحوها عنه الرحمن.
          وقال بشر بن الحارث: بلغني عن الفضيل بن عياض قال: بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاء الليل يمحو ذنوب السر.
          قلت: ومما يدل لهذا القول قوله صلعم في حديث ابن عباس السابق في الكلام على الفاتحة: «تقبل توبتي واغسل / حَوْبتي»(37).
          قال ابن عرفة: يقال: حُوب وحَوب وحوبة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النساء: 2]، فأما قوله صلعم: «واغسل حَوبتي» فقال بعضهم: الحوب الوحشة، ومنه حديثه صلعم لما أراد أبو أيوب الأنصاري أن يطلِّق أم أيوب قال صلعم: «إن طلاق أم أيوب لحوب»(38) أي: وحشة، وقيل: الحوب الحاجة، ومنه قيل في الدعاء: إليك أرفع حوبتي؛ أي: حاجتي، وفي الحديث: «الربا سبعون حوبًا من الإثم»(39) وعلى ذلك اقتصر الثعلبي[3/243] في تفسير الآية فقال: قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي: إثمًا عظيمًا، وفيه ثلاث قراءات: قراءة العامة: {حُوبا}، بالضم وهي لغة النبي صلعم وأهل الحجاز، يدل عليه ما أخبرنا وساق سنده إلى واصل مولى ابن عيينة، قال: قلت لابن سيرين: كيف تقول هذا الحرف: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أو حوبا قال: إن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له النبي صلعم: «إن طلاق أم أيوب حوب»، وقرأ الحسن: {حَوبا} بفتح الحاء وهي لغة تميم، وقرأ أبي بن كعب: {حابا} على المصدر، مثل: القَال، ويجوز أن يكون اسمًا مثل: الزاد والعار والغار، ويقال للذنب: حوب وحويب وحاب، وللإذناب كذلك يكون مصدرًا واسمًا، ويقال: حاب يحوب حوبًا وحيابة إذا أثم.
          قال أبو معاذ: نزلنا منزلًا قريبًا من المدينة، فرمى رجل عَظايةً، فقالت بنية صغيرة: يا حاج لا تقتلها فتصيب حوبًا إنها لا تؤذي، ومنه قيل للقاتل: حائب، حكاه الفراء عن بني أسد.
          وقال أمية بن الأسد الليثي وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه:
وإن مهاجرين تكنفاه                     غداة إذٍ لقد خطئا وحابا
          وقال آخر:
عضَّ على شَبْدعه الأريبُ                     فظلَّ لا يلحي ولا يحوبُ
          وقال آخر:
وان ابنها منَّا ومنكم وبَعلها                     خزيمة والأرحام وعثاء حوبها
          أي: شديد إثمها.
          وقال آخر:
ولا تخنوا علي ولا تشطوا                     بقول الفخر إن الفخر حوبُ
          انتهى.
          والمعاني الثلاثة أعني: الوحشة والحاجة والإثم، متحملة في اللفظ على / أحوال ثلاثة، فإن كان طلبه صلعم المعنى الأول، وهو أن الحوب الوحشة، فكأنه سأل مولاه أن يغسل باطنه بالأنس به عن وحشة ملاحظة الأغيار، وينظف سرّه عن إيحاش الالتفات إلى الرسوم والآثار، ليصفو له سرور قبوله إياه واستخلاصه له بإيناس مولاه ليطيب عيشه معه، فوجد ما أولاه، وإن كان السؤال بالمعنى الثاني وهو الحاجة، وكأنه صلعم سأل مولاه غسل باطنه من حاجات الأسباب، وتطهيره عن حاجات الأكساب غسلًا لا يبقي له حاجة إلا إليه، ولا فقرًا إلى غيره أيقبل بكلمته عليه.
          فلما أعطاه سبحانه سؤله ومناه ظهر أثر ذلك يوم حنين لما أدبروا عنه وبقي هو وحده واقفًا بين يدي مولاه يهتف بقوله: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»، ومن هذا قول الخليل لجبريل إذ قال له: ألك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا؛ أي: لا حاجة لي إلى سوى مَنْ بالخلَّةِ قد خصَّني، لا جرم سمى الله نبينا صلعم المتوكل.
          وإن كان السؤال بالمعنى الثالث وهو غسل الإثم، فهذا تشريع وتعليم للعام ليطلبوا به غسل الآثام، ويلجؤوا إلى الله سبحانه أنه في دفع مآثم الإجرام والله أعلم.
          وفي بعض الخطب: الحمد لله الذي يمحو الزَّلل ويَصفح، ويغفر الخطايا ويسمح، وأنشدوا:
هذا زمانُ الصُّلح ما أقعدَك                     عن بابِ من بالخير قد عوَّدك
ترجو الرضا من غير أبوابه                     وعن الطريق الرشد ما أبعدَك
قُم في الدُّجى مستغرقًا باكيًا                     واطلب من الوهاب أن يُرشِدَك
كن راجيًا مستبشرًا خائفًا                     من نظر المولى تَنَلْ مقصَدَك
فإن محوتَ اليومَ ما سطَّرتْ                     أيدي خطاياك فما أَسعدَك
          والقول الثاني: وقد قال طائفة: لا تمحى الذنوب من صحائف الأعمال بتوبة ولا غيرها، بل لا بد أن يوقف عليها صاحبها ويقرأها يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَوُضِعَ [الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}[الكهف: 49]، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر، لأنه إنما ذكر فيها حال المجرمين فلا يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم أو المغفورة ذنوبهم بحسناتهم، وأظهر من هذا الاستدلال بقوله: {ومن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره}[ الزلزلة: 7-8].
          وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلعم: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه عشرًا، ومن صلّى عليَّ عشرًا صلى الله عليه مئة، ومن صلى عليَّ مئة كتب الله بين عينيه براءة من النفاق، وبراءة من النار وأسكنه الله يوم القيامة](40). / مع الشهداء، رواه الطبراني(41) وأبو موسى المديني في «الترغيب»، وزاد فيه: وأسكنه الجبار تبارك وتعالى الجنان مع الشهداء.
          وعن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه قال: جاء رسول الله صلعم والسرور يُرى في وجهه فقالوا: يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك فقال: «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربَّك ╡ يقول: إنه لا يصلّي عليك أحد من أمتك إلا صلَّيتُ عليه عشرًا، ولا يسلِّم عليك أحدٌ من أمتك إلا سلمتُ عليه عشرًا قال: بلى» رواه النسائي[3/44] وابن حبان[915].
          وروى الإمام أحمد[1662] عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلعم: «قال لي جبريل: ألا أُبشركَ أن الله ╡ يقول: من صلَّى عليكَ صليتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلمتُ عليه»، وفي رواية: «فسجدتُ شكرًا» رواه الحاكم[1/222] وقال: صحيح، ورواه ابن أبي الدنيا عنه قال: سجد رسول الله صلعم سجدة أطال فيها فقال له في ذلك فقال: «إني سجدت هذه السجدة شكرًا لله ╡ في ما أبلاني في أمتي، فإنه من صلّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
          وعنه قال: قال رسول الله صلعم: «لقيني جبريل فبشَّرني أن الله يقول لك: من صلى عليك صلاة صليتُ عليه، ومن سلَّم عليك سلمتُ عليه، فسجدت لذلك(241») وهذا جاءه من قاعدة الجزاء من جنس العمل، كما سيأتي تفصيل هذه القاعدة في الصيام إن شاء الله.
          ومنها: مضاعفة الصلاة عشر أمثالها، فيا لها من تجارة رابحة، أحضروا قلوبكم وتفكروا، وميزوا بعقولكم وانظروا، من هو الذي يصلِّي عليكم ويكافئكم ويخصكم ويجازيكم بالصلاة الواحدة عشرًا، فأي ربح أعظم من هذا الربح، وأي تجارة أربح من هذه التجارة، فيا معشر التجار الراغبين في كسب الدرهم والدينار، لو قيل لأحدكم: البلد الفلاني فيه بضاعة تكسب الدرهم الدرهمين والدينار الدينارين لسارعتم إليها وتزاحمتم عليها، وبذلتم فيها المجهود بالمزايدة لما فيها من الربح والفائدة، فكيف لكم بهذه البضاعة الرائجة والتجارة الناجحة التي أخبركم عنها الصادق الأمين عن رب العالمين أنكم كلما صلَّيتم على نبيكم صلعم صلاة صلى / الله عليكم بها عشرة، فانظروا هذا الربح واجنوا هذه الثمرة، وأنشدوا:
من عاملَ الله لم تَخْسَر تجارته                     وكلُّ قلبٍ خرابٍ بالتُّقى عَمَرَه
وما تُصلِّي على المُختار واحدةً                      إلا عليك يصلِّي ربُّه عَشَرَه
فاغنَم صلاتك يا هذا عليه تَفُز                     بالرِّبح عند إلهٍ فاز مَنْ شَكَرَه
          تنبيه: هذه المضاعفة بالنسبة إلى ثناء الله سبحانه على عبده المصلي على نبيه، أما بالنسبة إلى الثواب فالصلاة على النبي صلعم حسنة فتضاعف إلى أضعاف كثيرة بلا ارتياب، وفي حديث ابن عباس السابق: «فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمئة ضعف إلى أضعاف كثيرة»(42) فمضاعفة الحسنات بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، بدليل قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}[الأنعام: 160].
          وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن يشاء الله أن يضاعف له فبدليل قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 261].
          وفي «مسلم»[1892] عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: يا رسول الله هذه في سبيل الله فقال: «لك بها يوم القيامة سبعمئة ناقة».
          وفي «المسند»[1690] بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح، عن النبي صلعم قال: «من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فبسبعمئة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضًا أو مازَ أذًى، فالحسنة بعشر أمثالها».
          وخرج أبو داود[2498] من حديث سهل بن معاذ عن أبيه، عن النبي صلعم قال: «إن الصلاة والصيام والزكاة تضاعف على النفقة في سبيل الله تسع مائة ضعف».
          وروى ابن أبي حاتم(43) بإسناده عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن النبي صلعم قال: «من أرسلَ نفقةً في سبيل الله وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله، فله بكل درهم سبعمئة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}» .
          وخرج ابن حبان في «صحيحه»[4648] [عن ابن عمر قال: لما نزلت: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ}[البقرة: 261] ، قال رسول الله صلعم: «ربِّ زدْ أمتي» فنزلت: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً }[البقرة: 245]، قال رسول الله صلعم: «ربِّ زدْ أمتي»، فنزلت:{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ }[الزمر: 10] ](44)
[ومن فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة كان لها ولد مسرف على نفسه ، وكانت تأمره بالخير وتنهاه عن الفحشاء والمنكر ، والقضاء غالب عليه فمات وهو مصّر على ما كان عليه ، فحزنت أمه حزنا شديدا حيث مات على غير توبة ، فتمنت أن تراه في المنام فرأته يعذب فازدادت عليه حزنا . فلما كان بعد مدة رأته وهو على هيئة حسنة في فرح وسرور فسألته عن حاله وقالت : يا ولدي إني رأيتك تعذب فبم نلت هذه المنزلة ؟ فقال : يا أماه اجتاز رجل مسرف على نفسه بالتربة التي أنا فيها فنظر إلى القبور وتفكر في البعث والنشور واعتبر بالموتى فبكى على زلته ، وندم على خطيئته ، وتاب إلى الله عزوجل ، وعقد التوبة معه أن لا يعود ففرحت بتوبته ملائكة السماء ، ثم أنه لما تاب وعلم الله صدق توبته وتاب عليه قرأ شيئا من القرآن وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين مرة وأهدى ثوابها لأهل التربة التي أنا فيها فقسم الشاب ثوابه علينا فنالني من ذلك خير ، فغفر الله لي يه وحصل لي من الخير ما ترين .
فاعلمي يا أماه أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نور]
(45) / في القلوب وتكفير للذنوب ورحمة للأحياء والموتى.
          ومنها: أنها نور للمصلِّي عليه في القبر وما بعده، وقد أخرجا في حديث أبي هريرة: «إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم» وإن كان المراد صلاة الجنازة، إذ صلاة الجنازة جل مقصودها الدعاء للميت، والمصلي على النبي صلعم يحصل له منه صلعم رد السلام، وأي نور في القبر أعظم منه، والله أعلم.
          ومنها: أنها زكاة للمصلي عليه وطهارة له، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «صلوا عليَّ، فإن صلاتكم عليَّ زكاة لكم، وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها أعلى درجة في الجنَّة لا ينالها إلا رجل، وأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل»(46). [خ¦458، م:956/71]
          ومنها: أنها سبب لنفي الفقر إذا صلى عليه عند ذكره، ونجاة من الدعاء عليه برغم الأنف إذا تركها عند ذكره، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «رَغِمَ أنفُ رَجلٍ ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنَّة» قال الترمذي[3545]: حسن، وفي الباب عن جابر وأنس قال بعض أهل العلم: إذا صلى الرجل على النبي صلعم مرة في المجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس.
          ورواه الحاكم في «المستدرك»[6/130] وعنه قال: رقي صلعم المنبر فقال: «آمين آمين آمين» قيل: يا رسول الله ما كنت تصنع هذا؟ قال: «قال لي جبريل: رغم أنف رجل دخل عليه رمضان لم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف عبد أدرك أبويه أو أحدهما لم يدخل الجنَّة، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين».
          وعنه في رواية(47): «من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله فقلت: آمين» ورغم بكسر الغين المعجمة أي: لصق بالتراب، وهو الرغام قال ابن الأعرابي: هو بفتح الغين، ومعناه: ذل.
          ومنها: أنها صدقةٌ للمعسِر يصلّي عليه عند بذل الغني الصدقة فتجزئه عنها، قال ابن وهب: عن عمرو بن الحارث، عن دَرّاج أبي السَّمْح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله / صلعم: «أيّما رجل لم تكن عنده صدقةٌ فليقل في دعائه: اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك، وصلِّ على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، فإنها زكاة»(48) رواه عنه ابن أخيه وهارون بن معروف.
          ومنها: أنها سبب للقرب من الله، لحديث كَعب بن عُجْرة قال: قال رسول الله صلعم: «عرض لي جبريل فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان ولم يغفر له قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بَعُدَ من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبر أو أحدهما فلم يدخل الجنَّة فقلت: آمين» قال الحاكم[7/227]: صحيح.
          فمفهومه أن المصلي عليه قريب من الله غير بعيد، وسبق حديث أبي هريرة آنفًا بنحوه.
          ومنها: أنها كفارة، روى ابن أبي عاصم عن أنس قال: قال رسول الله صلعم: «صلوا عليَّ، فإن الصلاة عليَّ كفارة لكم، فمن صلى عليَّ صلى الله عليه».
          ومنها: روى أبو يعلى الموصلي[2960] عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلعم: «ما من عَبدين متحابَّين يستقبل أحدهما صاحبه ويصلِّيان على النبي صلعم إلا لم يتفرقا حتى تُغفر لهما ذنوبهما، ما تقدم منها وما تأخر».
          ومنها: أنها سبب للهداية إلى طريق الجنَّة، في «معجم الطبراني»[2887] عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده حسين بن علي قال: قال رسول الله صلعم: «من ذكرت عنده فخطئ الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنَّة».
          وعن أبي هريرة رفعه مثله من رواية أبي سلمة عنه قال: قال رسول الله صلعم: «من نسي الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنَّة».
          وفي «المعجم»[12819] أيضًا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلعم: «من نسي الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنَّة» ورواه ابن ماجه[908].
          وروى ابن أبي عاصم عن جعفر بن محمد بن الحنفية، عن أبيه قال: قال رسول الله صلعم: «من ذكرت عنده فنسي الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنَّة».
          وعن محمد بن علي قال: قال رسول الله صلعم: «من ذكرت عنده فلم يصل عليَّ خطئ طريق الجنَّة» مرسل.
          وأنشدوا: /
صَلُّوا على هذا النبي الكريم                     تحظوا من الله بأجرٍ عظيم
وتظفروا بالفوز من ربكم                     وجَنةٍ فيها نعيمٌ مقيم
طوبى لعبدٍ مُخلِص في الورى                     صلَّى على ذاك الجناب الكريم
وقد غدا من فَرط أشواقه                     بحبه في كل وادٍ يَهيم
          ومنها: أنها سبب للشفاعة إذا قرنها بسؤاله الوسيلة له صلعم أو أفردها، ففي «معجم الطبراني»[4480] عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قال رسول الله صلعم: «من قال: اللهم صل على محمد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي» انتهى.
          وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلعم: «من صلى عليَّ أو سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة» وسبق حديثه الذي في «مسلم».
          وروى ابن شاهين عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلعم: «من صلى عليَّ كنت شفيعه يوم القيامة».
          وعنه قال: قال رسول الله صلعم: «إن الله ╡ قد وهب لكم ذنوبكم عند الاستغفار، فمن استغفر الله بنية صادقة غفر له، ومن قال: لا إله إلا الله رجح ميزانه، ومن صلى عليَّ كنت شفيعه يوم القيامة»(49).
          وفي «معجم الطبراني» عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلعم: «من صلى عليَّ حين يُصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي».
          قال القاضي عياض: حدَّثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري، وأبو القاسم أحمد بن علي الحاكم وغير واحد في ما أجاز، وفيه قالوا: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهاث، حدَّثنا أبو الحسن علي بن فهر، حدَّثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج، حدَّثنا أبو الحسين عبد الله بن المنتاب، حدَّثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، حدَّثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكًا في مسجد رسول الله صلعم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك / في هذا المسجد، فإن الله ╡ أدَّبَ قومًا فقال: و{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}[الحجرات: 2]، ومدح قومًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}[الحجرات: 3]، وذم قومًا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الحجرات: 4-5]، وإنَّ حُرمتَه ميتًا كحُرمتِهِ حيًّا، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله صلعم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم ◙ إلى الله يوم القيامة، بل استقبِلهُ واستشفع به فيشفعك الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}[النساء: 64] انتهى.
          وأنشدوا:
هذا النبيُّ محمدٌ شرفُ الورى                     ونبيُّهم وبه تَشرَّفَ آدمُ
وله البها وله الحياء بوجهه                     كل السَّنا من نوره يتقسَّمُ
هو في المدينة ثاويًا بضريحه                     حقًّا ويسمع من عليه يسلمُ
وإذا توسَّل مُستضام باسمه                     زال الذي من أجله يتوهمُ
يا فوزَ من صلّى عليه فإنه                     في جنة المأوى غدًا يتحكّمُ
صلَّى عليه الله جلَّ جلاله                     ما راح حادٍ باسمه يترنَّمُ
          ومنها: أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة، ذكره أبو موسى وذكر فيه حديثًا.
          ومنها: أنها سبب لتثبيت القدم على الصراط، والجواز عليه لحديث عبد الرحمن ابن سمرة الذي رواه عنه سعيد بن المسيب في رؤيا النبي صلعم، وفيه: «ورأيت رجلًا من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحيانًا ويتعلق أحيانًا، فجاءته صلاته عليَّ فأقامته على قدميه وأنقذته» رواه ابن المديني وبنى عليه كتابه فرغَّبَ ورهَّبَ، / وقال: هذا حديث حسن جدًّا، وسيأتي برمته في الصيام إن شاء الله.
          ومنها: أنها سبب لتثبيت القدم على الصراط المستقيم في الدنيا، قال أبو بكر بن طاهر: علامة صلاة الله على عبده أن يزينه بأنوار الإيمان ويُحلِّيه بحلية التوفيق، ويتوجه بتاج الصدق، ويسقط عن نفسه الأهواء المضلّة والإرادات الباطلة، ويبدله به الرضا في المقدور، كذا نقله عنه السلمي في «الحقائق»، وإنما كان كذلك؛ لأن الصلاة عليه صلى الله عليه سلم سبب لصلاة الله سبحانه على العبد كما تقدم، وأنشدوا:
سلامٌ على نورٍ هُدينا بنورِهِ                     وعزَّ سموًا قدره عن مَنالهِ
سلامٌ على مَن لم أذق صدًى بعده                     ولم أرتقب في النَّوم طيف خَيالهِ
سلامٌ على مَن عَمَّنا لطفُ فَضلِهِ                     ولم أخلُ من أجماله وجَمالهِ
عليه سلام الله ما ذرَّ شارفٌ                      وما لاح بَرقٌ مخبرٌ عن وِصالِهِ
          ومنها: أنها سبب لحصول عشر صلوات من الله على المصلِّي عليه مرة، ولأن يرفع له عشر درجات ويكتب له عشر حسنات وتُمحى عنه عشر سيئات، سبق حديث أبي هريرة: «من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشرًا» رواه مسلم[408] وأبو داود[1530] والنسائي[؟؟] وابن حبان[906] والترمذي[485] وقال: حسن صحيح، وفي بعض ألفاظه: «من صلى عليَّ مرة واحدة كتب الله له بها عشر حسنات» ذكرها ابن حبان[905].
          وفي «معجم الطبراني»(50) عن سهل بن سعد قال: قال أبو طلحة للنبي صلعم: بأبي أنت وأمي يا رسولَ الله، إني لأرى السرورَ في وجهك، فقال رسولُ الله صلعم: «قال لي جبريل: من صلى عليك مرةً كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه بها عشر سيئات، ورفع له بها عشر درجات، وصلت عليه الملائكة عشر مرات».
          وروى أحمد في «مسنده»[16352] حدَّثنا شريح، حدَّثنا أبو معشر، عن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبي طلحة الأنصاري قال: أصبح رسول الله صلعم طيِّب النَّفس يُرَى في وجهه البِشْر قالوا: يا رسول الله أصبحتَ طيب النفس / يُرى في وجهك البشر قال: «أجل، أتاني آتٍ من ربي ╡ فقال: من صلَّى عليك من أمتك صلاةً كتبَ الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات ورد عليه مثلها».
          وروى النسائي[3/50] عن أنس قال: قال رسول الله صلعم: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه عشر صلوات، وحطَّ عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات» ورواه أحمد في «مسنده»[11998] وابن حبان في «صحيحه»[904] والحاكم[1/550].
          وروى ابن شاهين عن عمر أنه تبع النبي صلعم بمطْهَرةٍ يعني: إداوة، فوجده ساجدًا في مَشْرُبة، فتنحى عنه فرفع رأسه، وقال: «أحسنتَ يا عمر حين وجدتني ساجدًا فتنحيت عني، إن جبريل أتاني فقال: من صلَّى عليك واحدةً صلى الله عليه عشرًا، ورفعه عشر درجات»(51).
          وفي رواية: «من صلى عليك من أمتك واحدة».
          وفي «المعجم»(52) عن البراء قال: قال رسول الله صلعم: «من صلى عليَّ كُتبت له عشر حسنات، ومُحي عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات، وكنَّ له عدل عشر رقاب».
          قال عبد الرحمن بن عمرو: من صلّى على النبي صلعم كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، قال صلعم: «أتاني آتٍ من ربي فقال: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرًا» فقال له رجل: أجعل نصف دعائي لك؟ قال: «إن شئت» قال: أجعل ثلثي دعائي لك قال: «إن شئت» قال: أجعل دعائي كله لك، قال: «إذن يكفيك الله هم الدنيا والآخرة»(53).
          وأنشدوا:
ألا يا رسولَ الله يا خيرَ مُرسلٍ                     عليكَ صلاةُ الله لا تَتناهَى
فيا فَوزَ من صلَّى عليك من الورى                     صلاةً على الأكوان فار سَنَاها
عليكَ صلاة الله يا أشرفَ الورى                     مَحلَّا ويا أعلى البريَّة جاها
عليكَ صلاة الله ما سار راكبٌ                     إلى طيبة بالذكرِ طابَ رُباها
عليكَ صلاة الله ما هبَّتِ الصِّبا                     وفاحَ بعَرفِ المِسك طيبُ شَذاها
          ومنها: أنها سبب لقرب العبد منه صلعم في القيامة.
          وقد سبق حديث عبد الله: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة» قال الترمذي[484]: حسن غريب.
          ورواه ابن حبان في «صحيحه»[911] وهو في «مسند البزار» ورواه البغوي.
          ومنها: أنها سبب لاستحقاق العبد أهلية الدين، لمفهوم حديث عبد الله / قال: قال رسول الله صلعم: «من لم يصلِّ عليَّ فلا دين له(254»).
          ومنها: أنها سبب لسلب اسم الشقاء عن العبد وإثبات اسم السعادة له، لمفهوم حديث جابر الذي رواه ابن السنِّي[380] بإسناد ضعيف قال: قال رسول الله صلعم: «من ذُكرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ فقد شَقي».
          ومنها: أنها سببٌ لأن يبارك _للمصلِّي عليه_ في ذاته وعمله وعمره وأسباب مصالحه؛ لأن المصلي داعٍ ربه أن يبارك على النبي صلعم وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب والجزاء من جنسه.
          ومنها: أنها سبب لدوام محبته صلعم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به؛ لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضاره وإحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه، وإذا قوي هذا من قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، ويكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه والحنين شاهد بذلك، وأنشدوا:
عجبتُ لمن يقولُ ذكرتُ حِبِّي                     وهل أنسى فأذكر مَنْ نَسيتُ
          فعجب هذا المحب ممن يقول ذكرت محبوبي؛ لأن الذكر يكون بعد النسيان، ولو كمل حُبُّ هذا لما نسي محبوبه:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما                     تمثَّل لي ليلى بكل سبيل
          فهذا أخبر عن نفسه أن محبته لها مانعةٌ من نسيانها.
يراد من القلب نِسيانكم                     وتأبى الطِّباع على الناقلِ
          فأخبر أن حبهم وذكرهم قد صار طبعًا له، فمن أراد منه خلاف ذلك أبت عليه طباعه أن تنتقل عنه، والمثَل المشهور: من أحب شيئًا أكثر من ذكره، وفي هذا الجناب الأشرف / أحق ما أنشد:
لو شقَّ عن قلبي ترى وَسْطَه                     ذكرَكَ والتوحيد في سطر
          وهذا قلب المؤمن توحيدُ الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق إليهما مَحو ولا إزالة كما قيل:
أنتَ الذي ما زلت مني حاضرا                     ولناظري يا نورَ عَيني ناظرا
ولقلبيَ الملهوفِ شُغلًا شاغلا                     ولمسمعي أبدًا حديثك سائرا
فإذا نظرتُ فأنت قبلة ناظري                     حيث اتجهتُ رأيتُ نورًا باهرا
وإذا سمعتُ فعنك أسمع دائمًا                     وإذا نطقتُ فعنك أروي ماهرا
أنت الذي ما زلت لي في وحدتي                     عند انفرادي مؤنسًا ومُسامرا
ما رُمتُ منك على الحقيقة نصرة                     إلا وجدتك لي معينًا ناصرا
كلا ولا ناديت في غَسَقِ الدُّجى                     يا ربّ إلا كنتَ مني حاضرا
أبدًا يناجيك الضمير وطالما                     أبدى العِيان له دليلًا ظاهرا
فلأنتَ سرّي في الفؤاد ولم تزل                     في خاطري في كل وقت حاضرا
يا من غدا مأوى الطريدِ ومن له                     باب ينيل الوفد بِرًّا وافرا
أنعِمْ وجُدْ فرضاكَ غاية مَقصدي                     فسحابُ دمعي فيك أضحى ماطِرا
فامُننْ عليَّ بتوبةٍ أمحو بها                     وِزْري وكُن لي بعد كَسْري جابرا
          ولما كانت كثرة ذكر الشيء موجبة لدوام محبته، ونسيانُه سببًا لزوال محبته أو ضعفها، وكان الله هو المستحق من عباده نهاية الحب مع نهاية التعظيم، بل الشرك الذي لا يغفره الله هو أن يشرك به في الحب والتعظيم فيحب غيره ويعظم من المخلوقات غيره كما يحب الله ويعظمه قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة: 165]، فأخبر سبحانه أنّ الشركَ أنْ تحبَّ الندَّ كما تحب الله، وأن المؤمن أشد حبًّا له من كل شيء، وقال أهل النار في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء: 97- 98].
          ومعلوم أنهم لما سَوّوهم به في الحب والتَّأله والعبادة، وإلا فلم يقل أحد قط: / إن الصنم أو غيره من الأنداد مساوٍ لرب العالمين في صفاته وأفعاله وخلق السماوات والأرض وفي خلق عابده أيضًا، وإنما كانت التسوية في المحبة والعبادة، وأضل من هؤلاء وأسوأ حالًا الاتحادية، والمقصود أن دوام الذكر لما كان سببًا لدوام المحبة وكان الله أحق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال، فإن كثرة ذكره من أنفع ما للعبد وكان عدوه حقًّا هو الصَّادُّ عن ذكر ربه وعبوديته، ولهذا أمر الله سبحانه بكثرة ذكره في القرآن وجعله سببًا للفلاح فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الجمعة: 10]، وقال: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}[الأحزاب: 41]، وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ}[الأحزاب: 35] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}[المنافقون: 9] وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، وقال صلعم: «سبقَ المُفرِّدون الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات»[م:2676].
          وفي «الترمذي»[3377] عن أبي الدرداء عويمر قال: قال رسول الله صلعم: «ألا أدلكم على خير أعمالكم» الحديث السابق وهو في «الموطأ»[1/211] موقوف عليه.
          قال معاذ: ما عمل آدمي عملًا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله وذكر رسوله كذكره.
          فدوام الذكر سبب لدوام المحبة، والذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك لا حياة له إلا به.
لله قومٌ بذكره اشْتغلوا                     وفي حِمى قربه فقد نزلوا
ليس لهم غير ذكره فرح                      فهم حقيقا على مرادهم حصلوا
من ذاق وصل الحبيب هام                     ولم يحل له منزل ولا طلل
بروحهم في وصاله سمحوا                     وحققوا ربحهم وما جهلوا
فأتوا يناجونه وقد علموا                     أنهم للمعاد قد عملوا
فاستعذبوا الصعب في هواه                     وقد لذ لهم في رضاه ما حملوا
          وذكر الله سبحانه أنواع:
          ذكره بأسمائه وصفاته والثناء عليه بهما.
          الثاني: بتسبيحه وتكبيره وتهليله وتحميده وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين.
          الثالث: ذكره بأحكامه وأوامره ونواهيه، وهو ذكر أهل العلم بل الأنواع الثلاثة هي ذكرهم / لربهم.
          الرابع: وهو من أفضل ذكره ذكره بكلامه فقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}[طـه: 124]، فالذكر هنا كلامه الذي أنزل على رسوله صلعم، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد: 28].
          الخامس: دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه، فهذه خمسة أنواع من الذكر، وأنشدوا:
أتيتُ إليكَ يا ربَّ العبادِ                     بإفلاسي وذُلِّي وانفرادي
وها أنا واقفٌ بالباب أبكي                     زمانًا ما بلغتُ به مُرادي
عسى عَفوٌ يبلغني الأماني                     فقد بَعُدَ الطريق وقلَّ زادي
فأنت ذخيرتي وبك انتصاري                     وفيك تَولُّهي وبك اعتمادي
وعنك إشارتي وإليك قَصدي                     ومنك مَسرَّتي ولك انقيادي
وما لي حيلة إلا رجائي                     وفيك على المدى حسنُ اعتقادي
ولو أقصيتني وقطعتَ حَبْلي                     وحقك لا أحول عن الودادِ
فجُدْ بالعفو يا مولايَ وارحَمْ                     عُبَيدًا ضل عن طُرقِ الرَّشاد
وقد وافى ببابك مستجيرًا                     يخاف من القطيعة والبِعاد
توسَّلَ بالنبيِّ الطهر حقا                     شفيع الخلق في يوم المعادِ
عليه من المُهيمنِ كلَّ وقتٍ                     صلاةً ما حَدَا بالركب حادي
          ومنها: أنها سبب لمحبته صلعم للعبد؛ لأنها إذا كانت سببا لزيادة محبة المصلي عليه له فكذلك هي سبب لمحبته هو صلعم للمصلي عليه، وكفى بذلك منة للمصلِّي عليه.
          ومن خطرت منه ببالك خَطرةٌ                      حَقيقٌ بأن يسمو وأن يتقدَّما
          وقال آخر:
أهلا بما لم أكن أهلًا لموقعه                     قول المبشِّر بعد اليأس بالفَرجِ
لك البشارةُ فاخلع ما عليكَ فقد                     ذكرَت ثَمَّ على ما فيك من عَرج
          ومنها: أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره / استولت محبته على قلبه، حتى لا يبقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شك في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوبًا مسطورًا في قلبه لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرة وجودة معرفة ازدادت صلاته عليه صلعم، ولهذا صلاة أهل العلم العارفين بسنته وهديه المتبعين له عليه خلاف صلاة العوام عليه الذين حظّهم منها إزعاج أعضائهم بها ورفع أصواتهم، وأما أتباعه العارفون بسنته العالمون بما جاء به فصلاتهم عليه نوع آخر، فكلما ازدادوا في ما جاء به معرفة ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطلوبة له من الله لا جرم، فإن إمامنا الشافعي من أشد الناس تعظيمًا للنبي صلعم وسنته كما سبق، وهكذا السلف الصالح الراسخون في العلم.
          قال القاضي عياض في «الشفاء»[2/40]: فصل، واعلم أن حرمة النبي صلعم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعِتْرته وتعظيم أهل بيته وصحابته.
          قال أبو إبراهيم التجيبي: واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به.
          قال القاضي أبو الفضل: وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين ♥، حدَّثنا القاضي أبو عبد الله، فذكر ما سبق من خاطرة أبي جعفر لمالك في مسجد رسول الله صلعم، ثم قال: وقال مالك: وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرهقه ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلعم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلعم لبثت عنده.
          وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلعم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت ما أنكرتم عليَّ ما ترون، لقد كنت أرى / محمد بن المنكدر، وكان سيدَ القراء لا تكاد تسأله عن حديث أبدًا إلا بكى حتى ترحمه، ولقد كنتُ أرى جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلعم اصفر، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلعم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال، إما مصليا وإما صائمًا وإما يقرأ القرآن ولا يتكلم في ما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله ╡.
          ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلعم فننظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلعم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده النبي صلعم بكى حتى لا تبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي صلعم فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي صلعم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه، وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل.
          ولما كثر على مالك الناس قيل له: لو جعلتَ مُستمليًا يسمعهم فقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}[الحجرات: 2] وحرمته حيًّا وميتًا سواء.
          وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي صلعم أمرهم بالسكوت، وقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}، ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قوله حديثه ما يجب له عند سماع قوله.


[1] تفسير عبد الرزاق (1/133).
[2] أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (8/317).
[3] أخرجه أحمد (11237).
[4] تحرف في الأصل إلى: ((أسباب)).
[5] ما بين معقوفين ليس في الأصل، واستدرك من: «روضة الطالبين» (10/27).
[6] سلف تخريجه قريبًا.
[7] المدهش (1/514).
[8] أخرجه النسائي في الكبرى (11712).
[9] أخرجه أحمد (17634) من حديث النواس بن سمعان.
[10] تحرفت في الأصل إلى: «التفحش»، والمثبت من الرسالة القشيرية (1/45).
[11] الرسالة (1/60).
[12] الحلية (10/135).
[13] المدهش: (1/375).
[14] أخرجه البخاري (6464)، ومسلم (2818) من حديث عائشة، ولفظه: «أحبّ الأعمال إلى الله .. .».
[15] أخرجه أبو يعلى (5100)، من حديث ابن مسعود.
[16] أخرجه البخاري (6069)، ومسلم (2990) من حديث أبي هريرة بلفظ: «كل أمتي معافى .. .».
[17] أخرجه أحمد (19200)، من حديث جرير بن عبد الله.
[18] قواعد الأحكام (1/31).
[19] تحرفت في الأصل إلى: ((ولايته)).
[20] سلف تخريجه قريبًا.
[21] أخرجه بنحوه ابن ماجه (4248) من حديث أبي هريرة.
[22] أخرجه ابن المبارك في الزهد (162).
[23] أخرجه أحمد (2623) عن ابن عباس.
[24] أخرجه ابن ماجه (4250)، من حديث ابن مسعود.
[25] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (35358).
[26] ما بين معقوفين ليس في الأصل واستدرك من الإحياء.
[27] التذكرة: (1/47).
[28] الحلية (10/59).
[29] الحلية (3/140).
[30] الحلية (10/62).
[31] ما بين معقوفين ليس في الأصل واستدرك من الحلية (10/62).
[32] الحلية (10/203).
[33] الروضة: (10/363).
[34] مصنف عبد الرزاق: (8239)، وغريب الحديث لأبي عبيد (3/362).
[35] مسند أحمد (21988).
[36] حلية الأولياء (2/255).
[37] مسند أحمد: (1997)، ابن حبان: (948).
[38] أخرجه الطبراني في الكبير (12876).
[39] أخرجه ابن ماجه (2274) من حديث أبي هريرة.
[40] ما بين معقوفين سقط من الأصل.
[41] المعجم الأوسط (7235).
[42] أخرجه ابن أبي الدنيا في التوبة (26).
[43] تفسير ابن أبي حاتم (3/163).
[44] ما بين معقوفين ليس في الأصل لسقطٍ فيه.
[45] ما بين معقوفين ليس في الأصل لسقطٍ فيه.
[46] أخرجه الترمذي (3612) وأحمد (7595).
[47] أخرجه ابن حبان ( 409).
[48] أخرجه ابن حبان (903).
[49] عزاه في كنز العمال (44269) إلى أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري قاضي المارستان في مشيخته.
[50] لم نقف عليه عند الطبراني في معاجمه، وأخرجه ابن الجعد في مسنده (2948).
[51] وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (661).
[52] هو في المعجم الكبير للطبراني (513)، من حديث أبي بردة بن نيار.
[53] مصنف عبد الرزاق (3114).