تهذيب ذهن الفقيه الساري لما وافق مسائل المنهاج من تبويب البخاري

باب كلام الرب مع جبريل

تركوك(1) أسيرًا إذْ ذهبوا                     بتُرابِ ضَريحِكَ مُحتَجِبا
وغَدَوا فرحين بما أخذوا                     وغَدَوت لإثمكَ مُحتَقبا
وتَرى أعمالكَ قد حَضَرتْ                     فتُنكِّسُ رأسكَ مُكْتئبا
فَكِّرْ في الذَّنب وما احتقَبَتْ                     كَفّاكَ عليكَ وما اكتَسبا
كم بِتَّ(2) على ذَنبٍ فَرِحًا                     وغَدوتَ على ذنبٍ طَرِبا
وعلمتَ بأنّ الله يرَى                     فأسأتَ ولم تُحسِنْ أدَبا
فأعِدَّ الزادَ فما سَفَرٌ                      كالمَوتِ تَرى فيه نَصَبا
وأَفِقْ(3) والعمرُ به رَمَقٌ                      فكَأَنْ قد فاتَ وقد ذَهبا(4)
          خامسها: قال أبو الفرج: بقي بِشرٌ خمسينَ سنةً يشتهي شهوةً فما صفا له درهمها، وبَضائع أعمارِكم كلها مُنفَقَة في الشَّهوات أبشروا بطول المرض يا مخلطين:
واوَيْلاهُ من ضَياعِ العُمرِ                     قد مرَّ جَميعه بمُرِّ الهَجْرِ
ضاقتْ حِيلي وضَلَّ عنّي صَبري                     يا قَوم عجزتُ عن تَلافي أَمْري(5)
          وقال: يا جامع الحطام ولا يدري ما جنا، كلما نقض الواعظ أصلًا من شرفيه بنا، بادِرِ الفَوتَ فإنّ الموت قد دَنا، هذا بشير القبول، وإياك عَنّي النِّثار كثير فما هذا التوقف والوَنى، امدُدْ يد الصِّدقِ وقد نلت كلَّ المُنى، هذه الخيف وهاتيك مِنى، أما يوقظك الصَّريحُ والمَرمُوز، أما كل وقت عودُ الهَلاك مَغموز، أما كل ساعةٍ عضو مَقطوع ومَحزوز، أما تراهم بين مَدفوعٍ ومَوكوز، كل أفعالك إذا تأملتَ ما لا يجوز، أين أرباب القصور؟ أين أصحاب الكنوز؟ هلكَ القوم كلّهم وضاع المَكنوز، وحِيْزَ في البِلى من كان للمال يَحوز، بينا تغرهم الأناة وقعت النواة في الكوز، أين كسرى؟ أين قَيصَر؟ أين فيروز؟ اقتنعوا بالأكفان وما كانوا يرضون الخزوز، وأبرز الموت أوجُهًا عزَّ عليها البروز، وساوى بين العَرب والعَجم والنَّبط والخُوز، ونَسخَت حَسراتُ يوم الرحيل لَذَّات / النَّيروز، وكشف لهم نقاب الدنيا فإذا المعشوقة عجوز ما رضيت إلا قتلهم، وكم تدللت بالنشوز، لقد أذاقتهم بَرد كانون الأول في تَمّوز، وإنما قصدت غرورهم لتقتلهم في كالوز. انتهى.
          سادسها: سبق في سَتْر العورة قوله: يا هذا، شَهواتُ الدنيا كَسِنِيِّ يوسف، طعامها غال... إلى قوله: فإذا انقشع غيم التكليف، وجاء زمان جزاء الصابر أطلق المحصور فصابر سنين الجدب فستزول عن قريب، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون انتهى.
          وأنشدوا في معنى ذلك:
مُتْ بداءِ الهَوى وإلَّا فخاطِرْ                     واطْرُقِ الحيَّ والعيونُ نَواظِرْ
لا تَخَفْ وَحشةَ الطَّريقِ إذا جئتَ                     وكن في خَفارة الحِبِّ سائرْ
واصبرِ النَّفسَ ساعةً عن سِواهُم                      فإذا لم تُجب لصبرٍ فصابِرْ
وصُمِ اليومَ واجعلِ الفِطْرَ يومًا                     فيه تلقى الحبيب بالبِشرِ شاكِرْ
وافْطمِ النَّفسَ عن سِواه فكلُّ الـ                     ـعيش بعد الفِطام نَحوكَ صائرْ
وتأمَّلْ سَريرة القلبِ واستحيي                     من الله يوم تُبلى السرَّائرْ
واجعلِ الهمَّ واحدًا يكفِكَ اللهُ                     هُمومًا شتى فربُّكَ قادِرْ
وانتظِر يومَ دعوة الخَلق إلى اللـ                     ـهِ رَبِّهم من بُطونِ المقابِرْ
واستَمع ما الذي بِهِ أنتَ تدعي                     من صفاتٍ تلوح وسطَ المحاضِرْ
وسمات تبدو على أوجه الخلـ                     ـقِ عيانا تجلى على كل ناظرْ
يا أخا اللُّبِّ إنما السَّير عَزمٌ                     ثم صَبرٌ مؤيد بالبَصائرْ
يا لَها من ثَلاثة مَن يَنَلْها                     يَرقَ يوم المزيد فوقَ المَنابِرْ
فاجتهدْ في الذي يقالُ لك                     البشرى بذا يوم ضرب البَشائرْ
عملٌ خالصٌ بميزانِ وَحيٍ                     مع سرٍّ هناكَ في القلبِ حاضِرْ(6)
          سابعها: أنشدوا أول أبيات ستأتي برمَّتها في الرَّضاع إن شاء الله: /
لنا الخَير والبُشرَى بأشرف مولد                     بمولدِ خيرِ المرسلين مُحمدِ
          وأنشدوا أيضًا من أبيات:
أيا أمةَ المُختار سَيِّدِ هاشِمٍ                     هنيئًا صَفا بالهاشمي لَكم الشّربُ
فَأنتُم لَعَمْري أعظمُ الخَلق غِبطةٍ                     بأعظمِ مَخلوقٍ يعظِّمه الرَّبُّ
نبيٍّ كريمٍ أرفع الخَلْقِ رُتبةً                      وأعلاهُمُ جاهًا إذا عَظُمَ الخَطَبُ
          الفصل الثاني في معناه وحاصله: أن السَّرقةَ والزِّنا لا يمنعان دخول الجنَّة مع التوحيد لا أنه لا معذب عليهما مع التوحيد، وسيأتي بسط ذلك في الزواج إن شاء الله.
          خاتمة من كلام الرب سبحانه مع جبريل:
          في «صحيح مسلم»[202] من حديث عبد الله بن عمرو: «أن النبيَّ صلعم تلا قولَ الله تَعالى في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم: 36] وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة: 118] فرفع يديه وقال: «اللهمَّ أُمتي أُمتي» وبكى، فقال الله ╡: يا جبريل، اذهبْ إلى مُحمد _وربك أعلم_ فسَلهُ ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صلعم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنَّا سَنُرضيكَ في أُمّتكَ ولا نَسوءك».
          في «مسند الفردوس»[4519] من حديث سلمان مرفوعًا: «قال لي جبريل: كنتُ واقفًا عند رَبِّ العِزَّة تعالى حين قال فرعون: وما رَبُّ العالمين؟ فنشرت جناحي للعذاب كله، فقال: مه إنما يعجل بالعُقوبة من يَخافُ الفَوت».
          ومن نداء الربِّ سبحانه الملائكةَ ما في حديث أنس: «فينادي ربُّ العزةِ تبارك وتعالى رضوان وهو خازِنُ الجنَّة فيقول: يا رضوان، ارفع الحُجُبَ بيني وبين عبادي وزواري...»(7) الحديث السابق برمته في الكلام على قول البخاري[قبل 7434] باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة: 22 - 23] ونحو ذلك كثير، والله أعلم.


[1] وقع هنا سقط في المخطوط.
[2] في الأصل: «أمسيت»، والمثبت من المدهش.
[3] في الأصل: «وارفق»، والمثبت من المدهش.
[4] الأبيات لابن الجوزي، ينظر المدهش (1/203).
[5] المدهش (1/467).
[6] الأبيات في مدارج السالكين لابن القيم الجوزية (2/55).
[7] أخرجه الدارقطني في: «الرؤية» (59).