تهذيب ذهن الفقيه الساري لما وافق مسائل المنهاج من تبويب البخاري

باب صفة النار وأنها مخلوقة

          قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[المائدة: 116].
          قال البغوي(1) : فإن قيل: فما وجه هذا السؤال مع علم الله ╡ أنه لم يقله؟ قيل: هذا السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر: فعلت كذا؟! فيما يعلم أنه لم يفعله إعلامًا واستعظامًا لا استخبارًا واستفهامًا.
          وأيضًا: أراد الله ╡ أن يُقرَّ عيسى على نفسه بالعبودية ليسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك [قال أبو روق:](2) إذا سمع عيسى هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرةٍ في جسده عينٌ من دمٍ يقول مجيبًا لله ╡: {سُبْحَانَكَ}[البقرة:33] تنزيهًا وتعظيمًا لك {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}[المائدة: 116] انتهى.
          وقد ذكر عن بعض السلف أنه ناظر النَّصارى في بعض كنائسهم، فجاء فوقف تجاه صورة عيسى المصورة عندهم فقرأ الآية: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[المائدة: 116] فرفعت الصورة يديها وقالت: لا والله، لا والله، فأسلم إذ ذاك منهم خلق كثير.
          فالحاصل: أن خوف عيسى ◙ إنما هو من هول السؤال في ذلك المقام.
          وأما قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ .. .} الآية فلا مدخل لها في هذا الخوف، يظهر ذلك بتفسيرها قوله تعالى {إِنَّكُمْ} أي أيها المسؤولون {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني الأصنام {حَصَبُ جَهَنَّمَ}[الأنبياء: 98] أي وقودها.
          وقال مجاهد وقتادة: حطبها، والحَصَبُ في لغة أهل اليمن الحطب.
          وقال عكرمة: هو الحطب بلغة الحبشة.
          قال الضحاك: يعني يرمون بهم في النار كما يُرمَى بالحصباء، والحصْب الرَّمي.
قال الله تعالى: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا}[القمر: 34] أي: ريحًا ترميهم بالحجارة، / وقرأ علي بن أبي طالب: ‹حطب جهنم { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي: فيها داخلون {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ} يعني الأصنام {آلِهَةً} على الحقيقة {مَا وَرَدُوهَا} أي: ما دخل عابدوها النار {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني العابدين والمعبودين {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ}[الأنبياء: 99 -100] قال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد جُعِلوا في توابيت من نار، ثم جُعلت تلك التوابيت في توابيت أخرى، ثم تلك التوابيت في توابيت أخرى عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئًا، ولا يرى أحدهم أن في النار أحدًا معذب غيره، ثم استثنى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}.
          قال بعض أهل العلم: {إِنَّ} هاهنا بمعنى إلَّا {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنَّة {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء: 101][قيل الآية عامة في كل](3) من سبقت لهم من الله السعادة.
          وقال أكثر المفسرين: عنى [بذلك كل من] عُبِدَ من دون الله وهو لله طائع ولعبادة من يعبده كاره، وذلك أن رسول الله صلعم دخل المسجد وصَناديدُ قريشٍ في الحَطيم وحول الكعبة ثلاث مائة وستون صنمًا، فعرض له النضر بن الحارث فكلَّمه رسول الله صلعم حتى أفحمه ثم تلا عليه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}[الأنبياء: 98] الآيات الثلاث، ثم قام فأقبل عبد الله بن الزِّبَعْرَى السهمي إليهم فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلعم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلعم فقال له ابن الزِّبعرى: أنت قلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }؟ قال: «نعم»، قال: أليست اليهود تعبد عُزَيرًا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح(4) يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلعم: «بل هم يعبدون الشياطين» فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} يعني عزيرًا والمسيح والملائكة {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء: 101] وأنزل في ابن الزبعري: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خصمون}[الزخرف: 58] / .
          وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام، لأن الله تعالى قال: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ولو أراد به الملائكة والناس لقال: ومن تعبدون من دون الله.
          وقد استدل على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة بما نحن فيه، فإنه عام مع أن العموم غير مراد، وقد أخَّر بيانه الذي هو المُخصّص؛ لأنه لما نزلت هذه الآية قال ابن الزِّبعَرى: لأخصِمنَّ محمدًا، فلما جاء إليه صلعم قال: أليس عُبِدتِ الملائكةُ والمسيحُ فتوقف صلعم في الجواب ثم نزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء: 101] فخصصت به الآية الأولى.
          وأجيب: بأن الآية الأولى غير متناولة للملائكة والمسيح، لأن «ما» لما لا يعقل فحينئذ لا يكون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} تخصيصًا وبيانًا لذلك العموم، بل هو زيادة بيان لجهل المعترض، وقد روي أنه صلعم لما قال ابن الزِّبعرى ما نقل عنه قال له: ما أجهلك بلغة قومك ما لما لا يعقل هذا مع أن ما نقل عن ابن الزِّبعرى وكونه سببًا لنزول الآية خبر من باب الآحاد فلا نعوّل عليه في المسألة العلمية.
          السادسة: قول الناس للنبي صلعم إذا أتوه: وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اختلفوا في قوله تعالى في سورة الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}[الفتح: 2] على أقوال المختار منها ما اختاره القُشَيري وهو ما حكاه الطبري أي: ما كان عن سهو وغفلة، لكن السهو والغفلة في مقامات الكمال بالشغل الذي كلفه من معاناة الأمة والحكم بينهم والغزو والبلاغ فإنه مع ذلك ربما وقع تأثر أحد بمثله الكامل لا أنه شيء من المعاصي المستحق عليها الوعيد في الشَّرع فإنه معصوم عن السهو في ذلك، وهذا هو الجواب عن قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}[محمد: 19].
          قال ابن عباس _ما معناه_ إن سبب قول الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أنه ◙ لما قرأ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ}[الأحقاف: 9] فسرَّ بذلك الكفار، فنزلت هذه الآية بالإخبار عن مغفرة الله له وبما للمؤمنين في الآية الأخرى بعدها، / فمغزى الآية: إنك مغفور لك غير مؤاخَذ بذنب إن لو كان.
          وقال البيضاوي: وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ}[التوبة: 43] وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ}[الفتح: 2] ونحوهما فمحمول على ترك الأولى. انتهى.
          أي: محمول على ترك الأولى والأفضل، وليس هو بذنب، لأن الأولى وما يقابله يشتركان في إباحة الفعل، والعتاب للحث والتحريض على فعل الأولى.
          قال الثعلبي(5): وقال عطاء بن أبي مسلم الخراساني: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك {وَمَا تَأَخَّرَ} ذنوب أُمّتك بدعوتك.
          وعبر عنه السُلَميُّ في الحقائق بقوله: وقال ابن عَطاء: ما كان من ذنبِ أبيكَ إذ كنتَ في صُلبه حين باشر الخطيئة، وما تأخَّر من ذنوب أمّتك إذ كُنتَ قائدهم ودليلهم والخلق كلهم موقوفون ليس لهم وصولٌ إلى الله إلا معه.
          قلت: وعلى هذا القول يكون في مقالة الناس ذلك للنبي صلعم في ذلك المقام إشارة إلى أن ذنوبنا إنما غُفرت بدعوتك ومنها شفاعتك لنا عند الملك العَلَّام.
          السابعة: قوله عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إنَّ ما بينَ المِصْراعَين من مصاريع الجنَّة كما بين مكةَ وحِمْيَر، أو كما بين مَكة وبُصْرى» وفي لفظ: «لَكَما بينَ مكةَ وهَجَر أو هَجَر ومكَّة» وفي لفظ: «لكما بين مَكة وهَجر أو كما بين مَكَّة وبْصرى»[خ¦ 3340، 3361، م194/327].
          وفي لفظ خارج الصحيح بإسناده: «أن ما بين عِضادَتَي الباب لَكَما بين مَكَّةَ وهَجَر»
[م: 194/328].
          وروى أبو الشيخ: حدَّثنا جعفر بن أحمد بن فارس: حدَّثنا يعقوب بن أحمد: حدَّثنا معن: حدَّثنا خالد بن أبي بكر، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: أن النبي صلعم قال: «البابُ الذي يدخلُ منه أهلُ الجنَّة مسيرة الراكب المُجِدِّ ثلاثًا ليَضَّغِطونَ عليه تكادُ مَناكبهم تَزول»(6) رواه أبو نعيم عنه وهو مطابق لحديث أبي هريرة: «كما بين مكة وبصرى» فإن الراكب المُجد غاية الإجادة على أسرع هجين لا يفتر ليلًا ولا نهارًا يقطع هذه المسافة في هذا القدر أو قريب منه.
          وفي حديث عُتبةَ بن غزوان الذي في مُسلم / [2967/14] [«أنَّ ما بين مِصْراعَين من مصاريع الجنَّة مسيرة أربعين سنة، وليأتينَّ عليها يومٌ وهو كظيظ من الزحام»...](7)


[1] تفسير البغوي ( 3/122).
[2] سقط من الأصل، واستدرك من مصدره.
[3] ما بين معقوفين هنا وفيما بعد طُمس في الأصل، واستدرك من تفسير البغوي.
[4] حي من خزاعة كان يعبد الجن، وكانت تتراءى لهم، ويدعون أنهم ملائكة.
[5] ينظر : «الكشف والبيان» (9/42).
[6] أخرجه الترمذي (2548) عن الفضل بن الصباح، عن معن بن عيسى، بهذا الإسناد.
[7] ما بين معقوفين ليس في الأصل، واستُدرك من صحيح مسلم، ووقع هنا في الأصل نقص، لذلك لم يتتابع المعنى.