تهذيب ذهن الفقيه الساري لما وافق مسائل المنهاج من تبويب البخاري

فصل في سيرة السلف في تعظيم رواية حديث رسول الله وسنته

          فصل في سيرة السلف في تعظيم رواية حديث رسول الله صلعم وسنته
          حدَّثنا الحسين بن محمد الحافظ، حدَّثنا أبو الفضل بن خيرون، حدَّثنا أبو بكر البرقاني وغيره، حدَّثنا أبو الحسن الدارقطني، حدَّثنا علي بن مبشر، حدَّثنا أحمد بن سنان القطان، حدَّثنا يزيد بن هارون، حدَّثنا المسعودي، عن مسلم البطين، عن عمرو بن ميمون قال: اختلفتُ إلى ابن مسعودٍ سنةً فما سمعته يقول: قال رسول الله صلعم: إلا أنه حدث يوما فجرى على لسانه قال رسول الله صلعم: «ثم / علاه كربٌ حتى رأيتُ العرقَ يتحدَّر عن جبهته» ثم قال: هكذا إن شاء الله أو فوق ذا أو ما دون ذا، أو ما قريب من ذا، وفي رواية: فتربد وجهه، وفي رواية: وقد تغرغرت عيناه وانتفخت أوداجه.
          وقال إبراهيم بن عبد الله بن قُريم الأنصاري قاضي المدينة: مرَّ مالك بن أنس على أبي حازم وهو يحدِّث فجازه، وقال: إني لم أجد موضعًا أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله صلعم وأنا قائم.
          وقال مالك: جاء رجل إلى ابن المسيّب فسأله عن حديث وهو مضطجع، فجلس وحدثه، فقال له الرجل: وددت أنك لم تتعن، فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلعم وأنا مضطجع.
          وروي عن محمد بن سيرين أنه قد يكون يضحك، فإذا ذكر عنده حديث النبي صلعم خشع.
          وقال أبو مصعب: كان مالك بن أنس لا يحدث بحديث رسول الله صلعم إلا وهو على وضوء إجلالًا له، وحكى مالك ذلك عن جعفر بن محمد.
          وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك بن أنس إذا حدَّث عن رسول الله صلعم توضأ وتهيأ ولبس ثيابه، ثم يُحدِّث، قال مصعب: فسئل عن ذلك فقال: إنه حديث رسول الله صلعم، قال مطرف: كان إذا أتى الناسُ مالكًا خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل، فإن قالوا: المسائل، خرج إليهم وإن قالوا: الحديث، دخل مغتسله واغتسل وتطيب، ولبس ثيابًا جددًا، ولبس ساجة وتعمم ووضع على رأسه رداءه وتلقى له منصة، فيخرج فيجلس عليها وعليه الخشوع، ولا يزال يتبخَّر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلعم، قال غيره: ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدَّث عن رسول الله صلعم، قال ابن أبي أويس: فقيل لمالك في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلعم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا، قال: وكان يكره أن يحدث في الطريق أو وهو قائم أو مستعجل، وقال: أحب أن أفهم حديث رسول الله صلعم.
          قال عبد الله بن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا، فلدغته عقرب / ستة عشر مرة وهو يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله صلعم، فلما فرغ من المجلس وتفرق عنه الناس قلت له: يا أبا عبد الله رأيتُ منك اليوم عجبًا، قال: نعم إنما صبرت إجلالًا لحديث رسول الله صلعم.
          قال ابن مهدي: مشيت يومًا مع مالك إلى العقيق فسألته عن حديثٍ، فانتهرني وقال: كنت في عيني أجلّ من أن تسأل عن حديث رسول الله صلعم ونحن نمشي.
          وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي عن حديث وهو قائم، فأمر بحبسه فقيل له: إنه قاض، قال: القاضي أحق من أُدِّب.
          وذكر أن هشام بن الغازي وذكر أنه ابن عمار سأل مالكًا عن حديث وهو واقف، فضربه عشرين سوطًا، ثم أشفق، فحدثه عشرين حديثًا فقال هشام: وددت لو زادني سياطًا ويزيدني حديثًا.
          قال عبد الله بن صالح: كان مالك والليث لا يكتبان الحديث إلا وهما طاهران، وكان قتادة يستحب أن لا يقرأ أحاديث النبي صلعم إلا على وضوء، ولا يحدِّث إلا على طهارة، وكان الأعمش إذا أراد أن يحدِّث وهو على غير وضوء يتيمم، انتهى.
          فصلاة على النبي صلعم من مثل هؤلاء السلف المقربين تضعف على صلوات كثير من الغافلين، وهكذا ذكر العبد كلما كان العبد به أعرف وله أطوع وإليه أحب كان ذكره غير ذكر الغافلين اللاهين، وهذا أمر إنما يعلم بالخبْر لا بالخبَر، وفرق بين من يذكر صفات محبوبه الذي قد ملك حبه جميع قلبه ويثني عليه بها ويمجده بها، وبين من يذكرها، إما أمارة أو لفظًا لا يدري ما معناه لا يطابق فيه قلبه لسانه، كما أنه فرق بين بكاء النائحة وبكاء الثكلى، فذكره صلعم ذكر بإحسانه وحمد الله على إنعامه علينا ومنته بإرساله هو حياة الوجود وروحه.
روحُ المجالس ذكره وحديثه                     وهُدى لكل ملدّد حَيران
وإذا أخلّ بذكره في مجلس                     فأولئك الأموات في الحيان
          وقال آخر:
فروحي وريحاني إذا كنتَ حاضرًا                     وإن غبتَ فالدنيا عليَّ مَحابِسُ
إذا لم أنافس في هواك ولم أغر                     عليك ففي من ليت شعري أنافس
           / ومنها: أنها أداء لأقل القليل من حقه وشكر له على نعمته التي أنعم الله بها علينا، مع أن الذي يستحقه من ذلك لا يحصى علمًا ولا قدرةً ولا إرادة، والمَنُّ لله بكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقه.
          قال السلمي في «الحقائق» في الكلام على قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ}: وحكي عن الواسطي أنه قال: صل عليه بالأذكار ولا تجعل لصلاتك في قليل مقدار، قال: وسألت عبد الواحد اليساري عن هذه اللفظة وكأني أستحصيه، فقال: لا تجعل لصلواتك عليه في قليل مقدار تنظر أنك تقضي به من حقه شيئًا بصلواتك عليه، فإنك تقضي به حق نفسك، إذ حقه أجلّ من أن تقضيه أمته أجمع، إذ هو في صلوات الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[الأحزاب: 56] فصلواتك عليه استجلاب رحمة على نفسك به، انتهى.
          ومنها: أن الصلاة عليه متضمنة لذكر الله وشكره ومعرفة إنعامه على عبيده بإرساله، فالمصلي عليه تضمنت صلاته عليه ذكر الله وذكر رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله كما عَرَّفنا ربنا أسماءه وصفاته وهدانا إلى طريق موصلة، وعرفنا ما لنا بعد الوصول إليه والقدوم عليه، فهي متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه وإرسال رسوله وتصديقه في أخباره كلها وكمال محبته، فهذه أصول الإيمان، فالصلاة عليه متضمنة لعلم العبد ذلك كله وتصديقه به ومحبته له، فكانت من أفضل الأعمال، وأنشدوا:
صلَّوا على من أتت حقًا بشائرُهُ                     الهاشمي الذي طابت عَناصرُهُ
هذا الرسولُ الذي شاعت رسالته                     في الخَلق طُرًّا وقد عمَّت مَآثرُهُ
هذا النبيُّ الذي تأتي الملوك له                     على الرؤوس فتأتيهم مَفاخِرُه
هذا الطبيبُ لداء الناس كلِّهم                     يشفي السقيمَ وللمكسور جابِرُهُ
صلَّى عليه إلهُ العرشِ ما طلعتْ                     شمسٌ وما ناح فوق الغُصن طائرُهُ
          ومنها: أنها من العبد دعاء ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان:
          أحدهما: سؤاله / حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
          الثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه ويزيد في تشريفه وتكريمه وإيثاره ذكره ورفعه، والله يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلِّي عليه قد صرف سؤاله ورغبته وطلبته إلى محابِّ الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابّه هو، بل كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله ورسوله، فقد آثر الله ومحابه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره آثره الله على غيره، واعتبر هذا مما نجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المطاع أن ينعم على من يعلمونه أحب رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشرفه علت منزلتهم عنده وازداد قربهم منه وحظوتهم لديه؛ لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبه، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالًا ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه، وهذا أمر مشاهد بالحس، ولا تكون منزلة هؤلاء ومنزلة من يسأل المطاع حوائجه وهو فارغ من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه واحدة، فكيف بأعظم محب وأجله لأكرم محبوب وأحقه بمحبة ربه له، ولو لم يكن من فوائد الصلاة عليه صلعم إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفًا وفضلًا إلى غير ذلك من الفوائد.
          وفي «نظم السيرة» أجر الصلاة على النبي صلعم:
وثمراتُ هذه الصلاةِ                     تضيق أن تَسعها أبياتي
وإنما من زهر المنثورِ                     يقطفها الألباب من سطوري
أدى المصلّي الحق فيها وامتثل                     وفق الذي به القرآن قد نزل
وأجر من صلى عليه واحدة                     عشر عليه بالصلاة عائدة
يرفع في الجنَّة عشر درجات                     له وتمحو عنه عشر سيئات
وتذهب الفقر وتقضي الحاجة                     وتدفع الهموم والَّلجاجة /
وتقتضي شفاعةَ الرسول                     وقربه في الموقف المهولِ
وفي جوازنا على الصراط                     تثبت الأقدام في المواطي
وهي هناك للمصلي نور                     وأجرها مضاعف موفور
ويبلغ المعسر أجر الصدقة                     بها إذا البَرُّ الغني سبقه
ولا تفوت مآثر الصلاة                     حتى ترى المقعد في الجنات
ويستنير قلبه بالحب                     فالذكر إعلام على المحب
ومن خواصها ادِّكارُ الناسي                     وذا من المشهور بين الناس
وتقتضي بركةً في العمر                     والنفسِ والآلِ وطيب الذكر
لا يُرفَع الدعاء إلا بعدها                     والذنب مأمون العقاب عندها
والمرء ما دام على الرسول                     مصليًا بشِّره بالقبول
بانَ الدَّلالُ عليه بالصلاة                     سَناهُ بالعشي والغداة
لا سيما المكثر يومَ الجمعة                     وليلَها فهو حَرٍ بالدفعة
كذلك استغفارهم للكاتب                     ما دام حرف الخط غير ذاهب
أفضل من عتق الرقاب الصديق                     تَعدّها فخذ بهذا التحقيق
والعشر منها عدل عتق رقبة                     ذكر ذا عياض في ما كتبه
وكل أمر ليس فيه المطلع                     بها مع الذكر فأمر أقطع
ممحوقة منه جماع البركة                     يا عملا خسر عبد تركه
وتركها من الجفاء والخطا                     عن طرق الجنَّة فاحذر شططا
وريح جمع دونها تَفرَّقوا                     أَنْتَنُ من جيفَةِ قلب تُنْشَقُ
تسمع عند قبره من صلى                     عليه فاقصد قدحها المعلى
بالجبن صف كل امرئ والبخل                     يذكر عنده فلا يصلي /
وهو يرد الله روحه إليه                     حتى يجيب كل من صلى عليه
من زار قبره له الشفاعة                     واجبة يوم قيام الساعة
وفي جواره وفي ذا يغني                      لزائر بَعُد عنه مغني
وقال للمنصور مالكٌ قفِ                     تجاهه وادع بهذا الموقفِ
ثم تشفَّع بالنبيِّ وسَلِ                     تُعطَ الذي رجوتَه من أملِ
فهو وسيلة إلى القيامة                     لكل مؤمن إلى الكرامة
ثم تلا مالك ذو الدراية                     { إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية
          تنبيهات:
          أحدها: قال في «الشفا»[2/76]: روى ابن وهب أن النبي صلعم قال: «من سلم عليَّ عشرًا، فكأنما أعتق رقبة».
          وفي بعض الآثار: «لتردن عليَّ أقوام ما أعرفهم إلا بكثرة صلاتهم عليَّ».
          وفي آخر: «إن أنجاكم يوم القيامة من أهوالها ومواطنها أكثركم عليَّ صلاة».
          وعن أبي بكر ☺: الصلاة على النبي صلعم أمحق للذنوب من الماء البارد للنار، والسلام عليه أفضل من عتق الرقاب، انتهى.
          وإذا كانت الصلاة عليه صلعم أفضل من عتق الرقاب؛ لأن الصلاة عليه من المؤمن المخلص مقبولة غير مردودة، وأما العتق فإنما يقبل إذا ملكت الرقبة بطريق شرعي ولم يشب فيها شيء من الحرام، وقلَّ ما يتفق ذلك إلا نادرًا، ولا سيما في هذا الزمان الذي قد غلب على أهله الإثم والعدوان.
          أما إذا لم تكن الرقبة بهذه المثابة فأنى لعتقها بالقبول كما استفاض بذلك النقول، قال صلعم في حديث أبي هريرة الذي في «مسلم»[1015]: «إن الله طيّبٌ لا يقبل إلا طيبا».
          وقال في حديث ابن عمر الذي فيه أيضًا[م:1014]: «ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب».
          وفي «المسند»[3672] عن ابن مسعود عن النبي صلعم قال: «لا يكسب عبد مالًا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيتقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده / إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».
          ويروى من حديث دَرّاج عن ابن حُجيرة، عن أبي هريرة أن النبي صلعم قال: «من كسب مالًا حرامًا فتصدق به لم يكن فيه أجر، وكان إصره عليه» خرجه ابن حبان في «صحيحه»[3216]، ورواه بعضهم موقوفًا على أبي هريرة.
          ومن مراسيل القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله صلعم: «من أصاب مالًا من مأثمٍ فوصَلَ به رحمه أو تصدّق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعًا، ثم قذف به في نار جهنم»(1).
          ويروى عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالًا من غير حله، فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم فكسا به أرملة.
          وسئل ابن عباس عمن كان على عمل وكان يظلم ويأخذ الحرام، ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، وكذا قال ابن مسعود: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث.
          وقال الحسن: أيها المتصدق على المسكين ترحمه، ارحم من قد ظلمت.
          وقال أسد بن موسى في كتاب «الورع»: حدَّثنا الفُضيل بن عياض، عن منصور عن تميم بن سلمة قال: قال ابن عامر لعبد الله بن عمر: أرأيتَ هذه العقاب التي نسهلها والعيون التي نفجرها ألنا فيها أجر؟ فقال ابن عمر: أما علمت أن خبيثًا لا يكفر خبيثًا قط.
          حدَّثنا عبد الرحمن بن زياد، عن أبي المليح، عن ميمون بن مهران قال: قال ابن عمر لابن عامر وقد سأله عن العتق: مثلك مثل رجل سرق إبل حاج، ثم جاهد بها في سبيل الله فانظر هل يقبل منه، انتهى.
          وأيضًا فالمعتق نفعه مقصور على نفسه والمصلِّي عليه نفعه متعد لغيره، فإنه بقوله الصلاة عليه صلعم تكشف كرب المسلمين وتزول شدائدهم ويحصلون على منافعهم، فيكون هذا كما قال إمام الحرمين في «الغياثي»: الذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين؛ لأنه لو ترك المتعين اختص هو بالإثم، ولو فعله اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو تركه أثم الجميع ولو فعله سقط الحرج عن الجميع، ففاعله ساع في صيانة الأمة عن المأثم، ولا شك في رجحان من حلَّ / محل المسلمين أجمعين في القيام بمهمات الدين، انتهى والله أعلم.
          ثانيها: قال البخاري[قبل4797]: باب قول الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56] قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء، قال ابن عباس: يصلون يُبَرِّكون، انتهى.
          وما قاله أبو العالية هو التحقيق، وقد نصره من المحققين فريق.
          وقد قيل في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}[المطففين: 18- 21] فأخبر تعالى أن كتابهم كتاب مرقوم تحقيقًا لكونه مكتوبًا كتابة حقيقية، وخص كتاب الأبرار بأنه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين وسادات المؤمنين، ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب الفجار تنويهًا بكتاب الأبرار وما وقع لهم به، وإشهارًا وإظهارًا بين خواص خلقه كما يكتب الملوك تواقيع من يعظمه من الأمراء، وخواص أهل المملكة تنويهًا باسم المكتوب وإشادة بذكره، وهذا نوع من صلاة الله سبحانه وملائكته على عبده.
          ووراء قول أبي العالية قولان:
          أحدهما: قال الضحاك: صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة دعاء، قال المبرد: أصل الصلاة: الرحمة، فهي من الله رحمة، ومن الملائكة: رحمة، واستدعاء الرحمة من الله، وهذا القول هو المعروف عند المتأخرين.
          ثانيهما: أن صلاة الله مغفرته، قال الضحاك في قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ}[الأحزاب: 43] قال:: صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الدعاء، وهذا القول من جنس الذي قبله، وضُعِّفا بوجوه:
          أحدها: أن الله فرق بين صلاته على عباده ورحمته بقوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}[البقرة: 155- 157]، فعطف الرحمة على الصلوات فاقتضى ذلك تغايرهما، هذا أصل العطف.
          وأما قوله:
وقدَّدتِ الأديمَ لراهِشَيْهِ                     وألفى قولها كذبًا ومَيْنا
          والكذب والمين واحد، فشاذ نادر لا يحمل عليه أفصح الكلام، مع أن المين أخص من الكذب، وقوله: قَدَّدت أي: قَطَّعت، والراهشان العِرقان في باطن الذراعين والضمير في راهشيه وفي / ألفى لجذيمة الأبرش، وفي قدَّدت وفي قولها للزبَّاء، والبيت في قصة قتل الزبَّاء لجذيمة، وستأتي في مظنتها إن شاء الله.
          ثانيها: أن صلاة الله خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وأما رحمته فوسعت كل شيء، فليست الصلاة مرادفة للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة ومن موجباتها وثمراتها، فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمرتها ومقصودها، ويأتي كثيرًا في تفسير ألفاظ القرآن والسنة تفسير اللفظة بلازمها وجزء معناها، كتفسير الرَّيب بالشك، والشك جزء من مسمى الرَّيب، وتفسير المغفرة بالستر وهو جزء من مسمى المغفرة، وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان وهو لازم الرحمة.
          ثالثها: أنه لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين، واختلفوا في جواز الصلاة على غير الأنبياء على أقوال هي أوجه لأصحابنا كما سنقف عليه في قسم الصدقات إن شاء الله، فعلم أنهما ليسا مترادفين.
          رابعها: لو كانت الصلاة تعني الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها إذا قال: اللهم ارحم محمدًا وآل محمد، وليس الأمر كذلك.
          خامسها: أنه لا يقال لمن رحم غيره ورقَّ عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه أنه صلى عليه، ويقال: إنه قد رحمه.
          سادسها: أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه، فيجد في قلبه له رحمة ولا يصلي عليه.
          سابعها: أن الصلاة لا بد فيها من كلام، فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه وتنويه به، وإشارة لمحاسنه كما سبق عن أبي العالية.
          ثامنها: أن الله قرن بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}، وهذه الصلاة لا تجوز أن تكون هي الرحمة، وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه، ولا يقال: الصلاة لفظ مشترك، ويجوز أن تستعمل في معنييه معًا؛ لأن في ذلك مجازات متعددة:
          أحدها: أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا نعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد، وإنما يقع وقوعًا عارضًا اتفاقيًّا بسبب تعدد الواضعين، ثم تختلط اللغة، فيعرض الاشتراك، والأكثرون لا يجوزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز، وما حكي عن الشافعي من تجويز ذلك فليس / بصحيح عنه، وإنما أخذ من قوله إذا أوصى لمواليه وله موالٍ من فوق ومن أسفل تناول جميعهم، فظنَّ من ظنَّ أن لفظ المولى مشترك بينهما، وأنه عند التجرد يحمل عليهما، وهذا ليس بصحيح، فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة، فالشافعي وأحمد يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ، وهو عنده عام متواطئ لا مشترك.
          وما حكي عن الشافعي في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43] أنه قيل له: يراد بالملامسة: المجامعة قال: هي محمولة على الجس باليد حقيقة، وعلى الوقاع مجازًا، فلا يصح عنه ولا هو من جنس المألوف من كلامه.
          فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول صلعم والعناية به وإظهار شرفه وفضله وحرمته كما هو المعروف من هذه اللفظة لم يكن لفظ الصلاة في الآية مشتركًا محمولًا على معنييه، بل يكون مستعملًا في معنى واحد، وهذا هو الأصل في الألفاظ.
          تاسعها: أن الله أمر بالصلاة عليه وأخبر بأنه وملائكته يصلون عليه، والمعنى: أنه إذا كان الله وملائكته يصلون على رسوله فصلوا أنتم أيضًا عليه، فأنتم أحق بأن تصلوا عليه وتسلموا تسليمًا لما نالكم ببركة رسالته ويُمن بشارته من خير شرف الدنيا والآخرة.
          ومعلوم أنه لو غير عن هذا المعنى بالرحمة لم يحسن موقعه ولم يحسن النظم فينتقض المعنى واللفظ، فإن التقدير يصير إلى أن الله وملائكته ترحم ويستغفرون لنبيه صلعم فادعوا أنتم له وسلموا، وهذا ليس بمراد الآية قطعًا، بل الصلاة المأمور بها فيها الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار فضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه، فهي تتضمن الخبر والطلب، وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه [لوجهين:]
          [أحدهما:] لأنه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشادَة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة لذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب.
          الثاني: أن ذلك يسمى منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه، فصلاة الله ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه وصلاتنا نحن عليه سؤالنا من الله تعالى أن يفعل ذلك به، وضد هذا في لعنة الله أعداءه الشانئين لما جاء به، فإنها تضاف إلى الله تعالى وتضاف إلى العبد لقوله: / {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة: 159]، فلعنة الله لهم تتضمن نفيه وإبعاده وبغضه لهم، ولعنة العبد تتضمن سؤال الله أن يفعل ذلك بمن هو أهل اللعنة، فلو كانت الصلاة هي الرحمة لم يصح أن يقال لطالبها من الله: مصليًا، وإنما يقال له: مترحمًا كما يقال لطالب المغفرة: مستغفرًا له، ولطالب العفو: مستعطفًا، ولهذا لا يقال لمن سأل الله العفو لغيره: قد غفر له وهو غافر، ولا لمن سأله العفو عنه: قد عفا عنه.
          وهنا قد يسمى العبد: مصليًا، فلو كانت الصلاة هي الرحمة لكان العبد راحمًا لمن صلى عليه، وكان يقال: قد رحمه برحمة، ومن رحم النبي صلعم مرة ☼ بها عشرًا، وهذا معلوم البطلان.
          فإن قيل: ليس معنى صلاة العبد عليه صلعم رحمته، وإنما معناها: طلب الرحمة له من الله قيل: هذا باطل؛ لأن طلب الرحمة مشروع لكل مسلم، وطلب الصلاة من الله يختص برسله، ولأنه لو سمي طالب الرحمة مصليًا لسمي طالب المغفرة غافرًا، وطالب العفو عافيًا، وطالب الصفح صافحًا ونحوه.
          فإن قيل: فأنتم قد سميتم طالب الصلاة من الله: مصليًا، قيل: إنما سُمِّي مصليًا لوجود حقيقة الصلاة منه، فإن حقيقتها الثناء وإرادة الإكرام والتقريب وإعلاء المنزلة، وهذا حاصل من صلاة العبد، لكن العبد يريد ذلك من الله، والله تعالى يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسوله.
          وأما على الوجه الثاني وهو أنه سمي مصليًا لطلبه ذلك من الله فلأن الصلاة من نوع الكلام الطلبي والخبري والإرادة، وقد وجد ذلك من المصلي بخلاف الرحمة والمغفرة، فإنها أفعال لا تحصل من الطالب وإنما تحصل من المطلوب منه.
          عاشرها في مسلم[1467]: «من صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه بها عشرًا، وأن الله قال له: من صلى عليك من أمتك مرةً صليتُ عليه بها عشرًا» وهذا يوافق القاعدة المستقرة في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل، فصلاة الله على المصلِّي على رسوله صلعم جزاء لصلاته هو عليه، ومعلوم أن صلاة العبد على رسوله صلعم ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة الله عليه من جنسها، وإنما هي ثناء على الرسول صلعم وإرادة من الله أن يعلي ذكره ويزيده تعظيمًا / وتشريفًا، والجزاء من جنس العمل فمن أثنى على رسوله صلعم جزاه الله من جنس عمله بأن يثني عليه ويزيد تشريفه وتكريمه، فيصح ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له ومناسبته له كقوله: «من يسَّر على مُعِسِرٍ يُسَّرَ اللهُ عليه حسابه، ومن سَتَر مسلمًا ستَره الله في الدنيا والآخرة، ومن نفَّس عن مؤمن كُربة من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرب يوم القيامة، والله في عَون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلكَ طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنَّة، ومن سُئلَ عن علمٍ فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار»[م:2699].
          ومن صلى على النبي صلعم مرة صلى الله عليه بها عشرًا.
          الحادي عشر: لو قال واحد عن رسول الله صلعم: ☼، أو قال: رسول الله ☼، بدل صلعم لبادرت الأمة إلى الإنكار عليه، وعدُّوه مبتدعًا غير موقِّر للرسول صلعم ولا مصلٍّ عليه ولا مثْن عليه بما يستحقه، ولا يستحق أن يصلى عليه بذلك عشر صلوات ولو كانت الصلاة من الله الرحمة لم يمتنع شيء من ذلك.
          ولأنَّ الله قال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}[النور: 63]، فأمر الله أن لا يُدعَى رسوله كما يدعو الناس بعضهم بعضًا، بل يقال: يا رسول الله، ولا يقال: يا محمد، وإنما كان يسميه باسمه وقتَ الخطاب الكفارُ.
          وأما المسلمون فكانوا يخاطبونه برسول الله، وإذا كان هذا في خطابه فهكذا في مغيبه لا ينبغي أن يجعل ما يُدعى به له من جنس ما ندعو به بعضنا لبعض، بل يدعا له بأشرف الدعاء وهو الصلاة عليه.
          ومعلوم أن الرحمة يُدعى بها لكل مسلم، بل ولغير الآدمي من الحيوانات كما في دعاء الاستسقاء: اللهم ارحم عبادك وبلادك وبهائمك.
          الثاني عشر: أن هذا اللفظ لا يعرف في اللغة الأصلية أن الصلاة تعني الرحمة أصلًا، وإنما هي الدعاء والتبرك والثناء قال:
وإن ذُكرت صَلَّى عليها وزَمْزَما
          أي: برَّكَ عليها ومدحها، ولا تعرف العرب صلى عليه: رحمه، فالواجب حمل اللفظة على معناها المتعارف في اللغة.
          الثالث عشر: أنه يسوغ بل يستحب لكل أحد أن يسأل / الله أن يرحمه فيقول: اللهم ارحمني، كما علَّم صلعم الداعي أن يقول: «اللهمَّ اغفِرْ لي وارحَمني وعافني وارزُقني» فلما حفظها قال: «أما هذا، فقد ملأ يديه من الخير»(2).
          ومعلوم أنه لا يشرع لأحد أن يقول: اللهمَّ صلِّ عليَّ، بل الداعي بهذا معتد في دعائه، والله لا يحب المعتدين بخلاف سؤال الرحمة، فإن الله يحب أن يسأله عبده مغفرته ورحمته، فعلم أنه ليس معناهما واحدًا.
          الرابع عشر: أن أكثر المواضع التي تستعمل فيها الرحمة لا يحسن أن تقع فيها الصلاة كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف: 156] «إن رحمتي سبقت غضبي»[خ7422] {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 56] {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب: 43] {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 117].
          وكقوله صلعم: «الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها»[خ¦5999، م:2754] «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»[ت:1924] «من لا يَرْحَم لا يُرحم»[خ¦5997] «لا تنزع الرحمة إلا من شقي»[حم:8001، د:4942، ت:1924] «والشاة إن رحمتها رحمك الله»[15592].
          فمواضع استعمال الرحمة في حق الله وفي حق العباد لا يحسن أن تقع الصلاة في كثير منها، بل في أكثرها فلا يصح تفسير الصلاة بالرحمة.
          قلت: كذا أشار إلى هذا التضعيف ابن قيم الجوزية(3)، وهو مردود.
          قوله في الوجه الأول: في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}[البقرة: 157]، فعطف الرحمة على الصلوات فاقتضى ذلك تغايرهما.
          جوابه: ما ذكره الثعلبي[2/24] فقال: وإنما ذكر الصلاة والرحمة ومعناهما واحد؛ لاختلاف اللفظين كقول الحطيئة:
ألا حبَّذا هندٌ وأرض بها هندُ                     وهندٌ أتى من دونها النَّأي والبُعدُ
          وقوله في الثاني: إن صلاة الله خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، وأما رحمته فوسعت كل شيء... إلى آخره.
          جوابه: أن تفسير الصلاة بالرحمة ليس المراد به مطلق الرحمة، بل المراد رحمة خاصة تليق بالمرحوم.
          وأما قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}[الأعراف: 156] فالمراد: مطلق الرحمة، أو يقال: لكل شيء رحمة تليق به، فتأمله.
          وقوله في الثالث: لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين، واختلفوا في جواز الصلاة على غير الأنبياء، فعلم أنهما ليسا مترادفين.
          جوابه: أنه لا يلزم من نفي الخلاف في جواز الرحمة على المؤمنين وإثباته في جواز الصلاة / على غير الأنبياء تباينهما، بل هما مترادفان ومنع مانع من الصلاة على غير الأنبياء؛ لأنها قد صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء، كما أن قولنا: ╡ صار مخصوصًا بالله تعالى، وكما لا يقال: محمد ╡ وإن كان عزيزًا جليلًا، فلا يقال: أبو بكر وعلي صلوات الله عليهما، وإن صح ذلك المعنى.
          ومن المانع أيضًا: النهي عن التشبه بأهل البدع وإظهار شعارهم والصلاة على غير الأنبياء مما اشتهر عن الرافضة كما سيأتي تقريره إن شاء الله.
          وقوله في الرابع: لو كانت الصلاة تعني الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر... إلى آخره.
          جوابه: أن الأمور التعبدية تراعى فيها الصيغ الشرعية، ألا ترى أنه لا يقال في التكبير خُداي أكبر بدل الله، ولا يقال في التشهد: أعلم أن لا إله إلا الله بدل أشهد، ولا يصح النكاح إلا بلفظ التزويج أو الإنكاح؛ لأنه ينزع إلى العبادات لورود الندب فيه.
          والأذكار في العبادات تتلقى من الشرع، والوارد في الشرع هذان اللفظان إلى غير ذلك من المسائل.
          وقوله في الخامس: لا يقال لمن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أنه صلى عليه ويقال: رحمه. جوابه المانع كما سبق.
          وقوله في السادس: إن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه، فيجد في قلبه له رحمة ولا يصلي عليه.
          جوابه: أن هنا حصل مطلق الرحمة لا الرحمة الخاصة لقيام المانع.
          وقوله في السابع: إن الصلاة لا بد فيها من كلام؛ أي: بخلاف الرحمة.
          إن أراد مطلق الرحمة فمسلَّم أو الرحمة الخاصة فممنوع، وقد قال ابن عباس: وضع عمر على سريره فتكنَّفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا منهم، فلم يرعني إلا رجل أخذ بمنكبي، فإذا علي بن أبي طالب يترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحدًا أحب أن ألقى الله ╡ بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كنت كثيرًا أسمع النبي صلعم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر[خ¦3685].
          وخرج ابن أبي حاتم(4) وغيره من رواية يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه: إن يونس ◙ لما دعا في بطن الحوت قالت الملائكة: يا رب هذا / صوت معروف من بلاد غريبة، فقال الله ╡: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومن هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء، قال: بلى، فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء.
          قال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرَّخاء يذكركم في الشِّدة، إن يونس كان يذكر الله تعالى فقال: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات: 143- 144]، وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله فلما أدركه الغرق قال: آمنت، قال الله: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس: 91].
          وقوله في الثامن: إن الله قَرنَ بين صلاته وصلاة ملائكته، وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة.
          جوابه: أنها رحمة مقرونة بالتعظيم والثناء.
          قوله: إن الاشتراك لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد ممنوع.
          قال ابن الحاجب تبعًا للآمدي: المشترك واقع على الأصح، لنا أن القرء للطهر والحيض معًا على البدل من غير ترجيح.
          قوله: والأكثرون لا يجوزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه، لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز.
          هذه مقالة مرجوحة، وقد قال ابن برهان: مسألة اللفظ المشترك إذا ورد حمل على جميع التسميات عند كثير من العلماء، وذهب طائفة من الأصوليين إلى أنه مجمل، ويتوقف بيان المراد على قرينة حالية أو قرينة مقالية، انتهى.
          وقال ابن الحاجب: مسألة المشترك يصح إطلاقه على معنييه مجازًا لا حقيقة، وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز إلى آخر كلامه.
          قوله: وما حكي عن الشافعي من تجويز ذلك، فليس بصحيح عنه.
          مردودٌ، فإنه مذهبه ☺ كما جزم به في «الروضة»[9/147] في الوصية فقال الرافعي: الرابعة: لو أوصى بعود من عيدانه وليس له إلا واحد من عيدان اللهو، وأحدهما يصلح للبناء، وأحدهما يصلح للقسي، فإن حملنا لفظ العيدان على هذه الآحاد حملنا اللفظ المشترك على تعيينه معًا، وفيه نظر للأصوليين، فإن مُنع فهذه الصورة كما لو أوصى بعود من عيدانه وليس له إلا واحد من عيدان اللهو أو لا عود له.
          زاد: قلت: مذهب الشافعي على حمل المشترك على معانيه، ووافقه عليه جماعة من أهل / الأصول، انتهى.
          وقال الرافعي في «الأيمان»: فيما إذا حلف لا يشتري أو لا يبيع فوكل غيره أو لا يضرب عبده فأمر غيره حتى ضربه المسائل برمتها ما نصه:
          واعلم أن صور الفصل جميعًا مفروضة في ما إذا أطلق ولم ينو شيئًا، أما إذا نوى أن لا يفعل ولا يفعل بإذنه أو لا يفعل ولا يأمر به حيث إذا أمر به غيره، هكذا أطلقوه مع قولهم أن اللفظ كفعل نفسه حقيقة، واستعماله في المعنى الآخر يجوز، وذلك استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعًا، وهو مستبعد عند أهل الأصول، وأحسن من هذا أن يوجد معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز، فيقال: إذا نوى أن لا يسعى في تحقيق ذلك الفعل حنث بمباشرته وبالأمر به لشمول المعنى، وإرادة هذا المعنى إرادة المجاز وحده، انتهى.
          زاد في «الروضة»[15/46] قلت: هذا الذي ذكره الرافعي حسن، والأول صحيح على مذهب الشافعي وجمهور أصحابنا المتقدمين في جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد، انتهى.
          ولو راجع ابن القيم كتب أئمتنا لما اجْتَرَأ على هذه المقالة.
          قوله: وإنما أخذ من قوله إذا أوصى لمواليه... إلى آخره.
          ما ذكره من حصره الأخذ في هذه المسألة فقط ممنوع لما عرفتَ، نعم ما ذكره من أنه متواطئ لا مشترك صحيح، وقد قال ابن الرفعة في «تعليل المذهب»: لتناول الاسم لهما بمعنى واحد على جهة التواطؤ، وهو الموالاة والمناصرة.
          قال شيخنا الشريف عماد الدين: وصيغة الجمع منه تتناول الكل ضرورة أنه متواطئ وهو معنى واحد مشترك فيه لا كاشتراك اللفظ بين معنيين مختلفين لا مشترك بينهما، انتهى.
          قوله: وما حكي عن الشافعي في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء: 43] محمولة على الجس باليد حقيقة، وعلى الوقاع مجازًا، فلا يصح عنه.
          قلت: الذي رواه البيهقي في مناقب إمامنا ما نصه: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، حدَّثنا ظفران بن الحسين، حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي حازم قال: قال الربيع بن سليمان: سئل الشافعي يعني: عن الملامسة فقال: هو اللمس باليد، ألا ترى أن النبي صلعم نهى عن الملامسة، والملامسة أن يلمس الثوب بيده يشتريه ولا يقلبه.
          قال الشافعي ☺: قال الشاعر: /
وألمَستُ كفِّي كفَّه أطلبُ الغِنى                     ولم أدرِ أن الجُودَ من كفِّه يُعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى                     أفدتُ وأعداني فبدَّدتُ ما عِندي
          انتهى.
          وما سبق آنفا عن «الروضة» في الأيمان يؤيد ما حكي عن الشافعي في آية الملامسة والله أعلم.
          وإذا تقرر لك ما سبق مما قررناه ظهر لك الرد على بقية الأوجه بعون الله.
          ثم قال ابن القيم(5): ورد طائفة تفسير الصلاة من الله بالرحمة بأن قالوا: الرحمة معناها: رقة الطبع، وهي مستحيلة في حق الله كما أن الدعاء منه مستحيل، وهذا الذي قاله عرق جهمي يَنضحُ من قلبه على لسانه، وحقيقته إنكار رحمة الله جُملةً، وكان جَهم يخرج إلى الجذمى ويقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟ إنكارًا لرحمته سبحانه.
          وهذا الذي ظنه هذا القائل هو يشبه منكري صفات الرب، فإنهم قالوا: الإرادة حركة النفس لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها، والربُّ تعالى يتعالى عن ذلك فلا إرادة له، والغضب غليان دم القلب طلبًا للانتقام والربُّ منزه عن ذلك، فلا غضب له، وسلكوا هذا المسلك الباطل في حياته وكلامه وصفاته، وهو من أبطل الباطل، فإنه أخذ في مسمى الصفة خصائص المخلوق، ثم نفاها جملةً عن الخالق، وهذا تمام التلبيس والإضلال، فإن الخاصية التي أخذها في الصفة لم تثبت لها لذاتها، وإنما تثبت لها بإضافتها إلى المخلوق الممكن، ومعلوم أن نفي خصائص صفات المخلوقين عن الخالق لا يقتضي نفي أصل الصفة عنه سبحانه، ولا إثبات أصل الصفة له يقتضي إثبات خصائص المخلوق له، كما أن ما نفي عن صفات الرب من النقائص والتشبيه لا يقتضي نفيه عن صفة المخلوق، ولا ما ثبت لها من الوجوب والعدم والكمال يقتضي ثبوته للمخلوق لإطلاق الصفة على الخالق والمخلوق، وهذا مثل الحياة والعلم، فإن حياة العبد تعرض لها الآفات المضادة لها من مرض ونوم وموت، ويعرض لعلمه نسيانٌ وجهلٌ مضاد له، وهذا محال في حياة الرب وعِلمه، فمن نفى علم الرب وحياته لما يعرض فيهما للمخلوق فقد أبطل، وهو نظير من نفى رحمة الرب عنه لما يعرض في رحمة المخلوق / من رقَّة الطبع، وتَوهَّم المتوهّم أنه لا تُعقل رحمة إلا هكذا، نظير تَوهُّم المتوهِّم أنه لا يُعقل علم ولا حياة ولا إرادة إلا مع خصائص المخلوق، وهذا الغلط منشؤه توهُّم صفة المخلوق المقيدة به أزلًا، وتوهم أن إثباتها لله هو مع هذا التقييد، وهذان وهمان باطلان، فإن الصفة الثابتة لله مضافة إليه لا يتوهم فيها شيء من خصائص المخلوقين لا في لفظها ولا في ثبوت معناها، وكل من نفى عن الربِّ صفة من صفاته لهذا الخيال الباطل لربه نفى جميع صفات كماله؛ لأنه لا يعقل منها إلا صفات المخلوق، بل ويلزمه نفي ذاته؛ لأنه لا يعقل من الذات إلا الذوات المخلوقة، ومعلوم أن الرب لا يشبهه شيء منها، وهذا الباطل قد التزمه غلاة المعطلة، وكلما وغل النافي في نفيه كان قوله أشد تناقضًا وأظهر بطلانًا، ولا يسلم على محك العقل الصحيح الذي لا يكذب إلا ما جاءت به الرسل لقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[الصافات: 159- 160]، فنزَّه سبحانه نفسه عما يصفه به كل أحد إلا المخلصين من عباده، وهم الرسل ومن اتبعهم كما قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الصافات: 180- 182]، فنزَّه نفسه عما يصفه الواصفون وسلَّم على المرسلين لسلامة ما وصفوه به من كل نقص وعيب وحمد نفسه، إذ هو الموصوف بصفات الكمال التي يستحق لأجلها الحمد، ويُنزّه عن كل نقص ينافي كمال حمده، انتهى.
          قلت: رد البخاري على من أنكر صفة الرحمة فقال: باب قول الله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ}[ الإسراء: 110]، وساق حديث جرير: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس»[خ¦7376] وحديث أسامة الذي فيه: «وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»[خ¦7377]، وقد سبق الكلام على شرح ذلك مبسوطًا فراجعه.
          وسبق قول القواعد في الصفات والله أعلم.
          قول البخاري[قبل4797]: قال ابن عباس: {يُصَلُّونَ}: يُبَرِّكون، لا ينافي تفسير أبي العالية الصلاة بالثناء، فإن التبرك من الله يتضمن ذلك، ولهذا قرن بين الصلاة عليه والتبريك عليه، وقالت الملائكة لإبراهيم: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}[هود: 73]، وقال عيسى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎}[مريم: 31] / .
          قال غير واحد: معلمًا للخير أينما كنت، وهذا جزء المعنى، فالمبارك كثير الخير في نفسه الذي يحصله لغيره تعليما وتقديرًا ونصحًا وإرادةً واجتهادًا كما قال الشافعي للربيع: يا ربيع، والله لو قدرت أن أطعمك العلم لأطعمتك إياه، وكان هشام الدستوائي يقول لأصحاب الحديث: وددت أن هذا الحديث ماء فأسقيكموه، فبهذا يكون العبد مباركًا؛ لأن الله بارك فيه وجعله كذلك، والله تبارك؛ لأن البركة كلها منه فعبده المبارك وهو المتبارك كما قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}[الفرقان: 1] وقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[غافر: 64] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}[الملك: 1] والله أعلم.
          ثالثها: ما ورد من صلاة الملائكة قال ابن المبارك: أخبرنا ابن لهيعة: حدَّثني خالد بن يزيد بن أبي هلال، عن نبيه بن وهب أن كعبًا دخل على عائشة فذكروا رسول الله صلعم فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلَّون على النبي صلعم، حتى إذا أمسوا عَرَجوا وهبط سبعون ألفًا يحفُّون بأجنحتهم ويصلّون على النبي صلعم سبعون ألفًا بالليل وسبعون ألفًا بالنهار، حتى إذا انشقَّت عنه الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقِّرونه صلعم، وأنشدوا من أبيات ستأتي في مظنها إن شاء الله:
لئن رأيناه قَبرًا إن باطنه                     لَروضةٌ من رياض الخُلد تَبتَسِمُ
طافَتْ به من نَواحيه ملائكةٌ                     تَغشاه في كلِّ ما يومٍ وتَزدَحِمُ
          ومن جملة ما ورد من صلاة الأنبياء عليه صلعم، قال الثعلبي في «العرائس» في بعض الأقاصيص: أن آدم ◙ لما رأى حواء مدَّ يده إليها فقالت الملائكة: مه يا آدم، فقال: ولم وقد خلقها الله تعالى لي، فقالت الملائكة: حتى تؤدي مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: أن تصلي على محمد ثلاث مرات، قال: ومن محمد قالوا: آخر الأنبياء من ولدك، ولولا محمد لما خلقت، انتهى.
          وأنشدوا: /
أنت الذي صلَّى عليكَ الله يا                     خيرَ الورى في ذكره وكَذا قُرِي
وأبوك آدم إذ رأى حوا وقد                     زِينَتْ بأنواع الحُلا والجَوهرِ
صلَّى عليكَ فكان ذلك مَهرها                     والحُور بين مهلِّلٍ ومُكَبِّرِ
أنتَ الذي حقًّا عليه سلَّمتْ                     وَحشُ الفلا في كلِّ بَرٍّ مقفرِ
صلى عليك الله يا خَير الورى                     ما ناح قُمْرِيٌّ بغُصنٍ أخضرِ
          وعن إبراهيم التيمي قال: كنت جالسًا في فناء الكعبة، وأنا في التَّهليل والتَّحميد والتسبيح، فجاءني رجل فسلَّم وجلس عن يميني، فلم أر أحسن منه وجهًا في زماني ولا أطيب منه ريحًا ولا أشد بياضًا، فقلت: يا عبد الله من أنت ومن أين جئت؟ فقال: أنا الخَضِر، جئتُك للسلام عليك وحبًّا لك في الله تعالى، وعندي هديةٌ أريد أن أهديها إليك فقلت: أريد أن تُعلِمَني هديتك ما هي؟ قال: أن تقرأ قبل طلوع الشمس وقبل أن تبسط على الأرض، وقبل أن تغرب {الْحَمْدُ للّهِ } سبع مرات و{é قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } سبع مرات والفلق مثلها، وتصلِّي على النبي صلعم مثلها، وتستغفر للمؤمنين والمؤمنات سبع مرات، ولوالديك سبع مرات، وانظر أن لا تدع ذلك غدوة وعشية، فإن الذي أعطانيها قال لي: قُلها مرة في دَهرك. فقلتُ: أحب أن تُخبرني من أعطاكَ هذه العطية، قال: أعطانيها محمد صلعم، قال: فقلت للخضر: علِّمني شيئًا إن قلتُه رأيتُ النبيَّ صلعم في المنام فأسأله أهو أعطاك هذه العطية، فقال لي: أَمُتَّهمٌ أنتَ لي؟ قلت: لا، ولكن أحب أن أسمع ذلك من رسول الله صلعم، فقال: إن كنت تريد أن ترى رسول الله صلعم في منامك فإذا صليت المغرب فقُم إلى صلاة العشاء الآخرة من غير أن تُكلم أحدًا من الآدميين، وأقبل على صلاتك وسلِّم في كل ركعتين واقرأ فيهما بفاتحة الكتاب مرة و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص: 1] ثلاث مرات، فإذا فرغت من صلاتك انصرفت إلى منزلك ولا تكلم أحدًا، وصلِّ ركعتين، / واقرأ فيهما بفاتحة الكتاب و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} سبع مرات، ثم اسجد بعد تسليمك واستغفر الله سبع مرات، وصلِّ على النبي صلعم سبع مرات، وقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سبع مرات، ثم ارفع رأسك من السجود واستو جالسًا وارفع يديك وقل: يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، يا إله الأولين والآخرين، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، يا ربّ يا ربّ يا ربّ يا الله يا الله يا الله، ثم قم وأنت رافع يديك وادع بتمام هذا الدعاء مرة واحدة، ثم نم إن شئت وحيثما شئت مستقبل القبلة وصل على محمد وأدم الصلاة عليه حتى يذهب بك النوم، قال: فقلت أحب أن تعلمني ممن سمعت بهذا، فقال: أمُتَّهمٌ أنت لي؟ فقلتُ: لا، والذي بعث محمدًا بالحق ما أنا بمُتَّهم، فقال: إني حضرتُ محمدًا صلعم حيث عُلِّمَ هذا الدُّعاء وأوحيَ إليه به، وكنت عنده فعلِمته حين علمه إياه، قال: فقلت: أخبرني ثوابَ هذا الدعاء، قال لي: إذا لقيتَ محمدًا فاسأله عن ثوابه، قال: ففعلتُ كما قال لي الخَضِر، فلم أزل أصلي على النَّبي صلعم وأنا في فراشي، فذهب عنّي النوم من شدَّة الفرح بما أعطاني وبما رجوت من لقاء النبيِّ صلعم، وأصبحتُ على تلك الحال، ثم صليتُ الغداة وارتفع النهار فصليتُ الضحى، ثم وضعتُ رأسي وأنا أحدِّث نفسي إن عشت الليلة فعلتُ كما فعلتُ في الليلة الماضية، فذهب بي النوم، فجاءتني الملائكةُ فحملوني وأدخلوني الجنَّة، فرأيت قصورًا من ياقوتٍ أحمر، وقصورًا من زُمُرد أخضر وقُصورًا من اللؤلؤ الأبيض، ورأيت أنهارًا من لبن وعسل وخمر وماء يجري بفناء ذلك، كالسهم الذي يرمي به القوس، ورأيت في قصر منها جارية فأشرفت عليَّ، فرأيتُ صورةَ وجهها أشد من نور الشمس، وإذا عليها ذوائب قد سقطت إلى الأرض من أعلى القصر، فسألت الملائكة الذين أدخلوني: لمن هذه القصور ولمن هذه الجارية؟ فقالوا: للذي يعمل مثل عملك، فلم يخرجوني من تلك الجنان حتى أطعموني من ثَمرها وسقوني من ذلك / الشراب، ثم أخرجوني وردُّوني إلى الموضع الذي كنت فيه، فأتاني النبيُّ صلعم ومعه سَبعون نبيًا وسبعون صفًّا من الملائكة، كل صَفٍّ مثل ما بين المشرق والمغرب، فسلَّم عليَّ وأخذ بيدي فقلتُ: يا رسول الله إن الخَضِرَ أخبرني أنه سمع منك هذا الحديث، فقال: صدَقَ الخَضِر، صَدَقَ الخَضِرَ، صَدقَ الخَضِرَ، كلُّ ما يحكيه فهو حق، وهو عالم أهل الأرض، وهو رئيس الأبدال، وهو من جنود الله في الأرض، فقلت: يا رسول الله فما لمن يَعمل هذا العمل ثَواب سوى ما رأيت، قال: وأي ثواب أفضل من الذي رأيتَ وأُعطيت موضعك من الجنَّة وأكلت من ثمارها وشربتَ من شرابها، ورأيتَ الملائكة ورأيتَ الحور العين، فقلت: يا رسول الله فمن يعمل هذا أو عمله ولم ير مثل الذي رأيتُ في منامي هل يُعطى شيئًا مما أعطيت؟ فقال: والذي بعثني بالحق إنه ليغفر له جميع الكبائر التي عملها ويرفع الله تعالى عنه غضبه ومَقْتَه، والذي بعثني بالحق إنه ليعطي العامل بهذا وإن لم يرني ولم ير الجنَّة، فإن له مناديًا ينادي من السماء: إن الله قد غفر لقائله ولجميع أمة محمد صلعم من المؤمنين والمؤمنات من المشرق إلى المغرب، ويؤمر صاحب الشمال أن لا يكتب على أحد منهم شيئًا من السيئات إلى مثلها من السنة المقبلة، قال: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بالذي أرانيك وأراني الجنَّة له هذا الثواب؟ قال: نعم، يعطاه جميعًا، فقلت: ينبغي لجميع المؤمنين والمؤمنات أن يتعلَّموا هذا ويُعلِّموه.
          ومما ورد من ثناء الملائكة عليه صلعم قال الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتاب «النهي عن سبِّ الأصحاب»: قول التيار ملك المياه عن وهب بن منبه اليماني، قال: رأيت أسقف قَيسارية مسلمًا، وكان قبل ذلك نصرانيًّا تشير إليه النصرانية بالأصابع ويعظمونه، فقلت له: ما الذي دعاكَ إلى الإسلام بعد تلك الرِّياسة ورغبتك فيها، فقال: ركبتُ البحر فكسرنا فأفلتُّ أنا على لوحٍ وَحْدي، فلم يزل اللوح يسير بي وحدي والأمواج تلعب بي شهرًا لا / أدري أين أتوجَّه من بلاد الله، ثم إن البحر نبذني إلى جزيرة كبيرة فيها شجر عظيم جدًّا ما رأيت شجرًا أكثر منه، وله ورق تغطي الورقة الفئام من الناس تحمل شيئًا مثل النَّبق وليس به، أحلى من التمر لا عجم له ونهر في الجزيرة جارٍ عذب شديد الجريان، فأكلت من ذلك التمر وشربت من ذلك الماء، وقلت: لا أبرح من هذا الموضع، أو يأتي الله بالفرج أو بالموت، فلما أمسيت وغربت الشمس وأقبل الليل بسواده، فإذا بقائل يقول مثل الرعد في الشدة: لا إله إلا الله الملك الجبار العزيز الغفار، محمد رسول الله الحبيب المصطفى المختار، أبو بكر الصديق صاحب الغار، عمر الفاروق مفتاح الأمصار، عثمان بن عفان الحسن الجوار، علي الرضا قاصم الكفار، أصحاب محمد المنتخبين الأخيار، وقاهم الله عذاب النار على من سَبَّهم لعنة الله ومأواه جهنم ولبئس القرار، فانخلع قلبي لذلك وطار نومي، ثم هدأ الصوت، فلما أن كان في وسط الليل أعاد ذلك الكلام، فلما أن كان في السَّحَر عاد ذلك الكلام، فلما أن أصبحت وطلعت الشمس إذا أنا بصورة رأس جارية في البحر تسبح لم أر أحسن وجهًا منها بشعر قد جَلَّلها، فإذا أنا بالصورة تقول: لا إله إلا الله القريب المجيب، محمد رسول الله المصطفى الحبيب، أبو بكر الصديق الرفيق السديد، عمر الفاروق قرن من حديد، عثمان بن عفان المظلوم الشهيد، علي الرضا، ثم لم تزل تدنو مني حتى قربت وخرجت من الماء، فإذا رأسها رأس جارية وعنقها عنق نعامة وبدنها بدن سمكة وساقها ساقا ثور، فقالت لي: ما دينك؟ قلت: النصرانية، فقالت: ويحك، إن الدين عند الله الإسلام الحنيفية السَّمحة، أسلِمْ وإلا هلكت، إنك قد حللت بجزيرة قوم صالحين مسلمين لا ينجو منهم إلا من كان على دين محمد وشريعته وهديه وسنته، قال: فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فقالت: تمم إسلامك، فقلت: بماذا؟ قالت: بالترحُّم على أبي بكرٍ وعُمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين، وإلا لا يصح لك الإسلام ففعلت ما أمرتني به، فقلت: ما هذا الصوت الذي سمعته بالليل ثلاث / مرات؟ قالت: ذاك التيار مَلَكُ المياه ونحن خلق كثير من خلق الله أمرنا بما سمعت منا، فقلت: إني غريب في هذا الموضع وقد وجب حقي قالت: تحب الرجوع إلى بلدك؟ قلت: نعم، قالت الساعة: يمر بنا مركب نحبسه لك، فبينما أنا كذلك إذا أنا بمركب يسير في البحر بقلْع ٍإذ وقف المركب وحطوا القلع فتحير أهله لا يدرون القصة ما هي إذ أشرت إليهم فنظروا إلي وألقوا القارب وجاؤوا يحملوني وحدثتهم بحديثي، وكان في المركب بضعة عشر نصرانيًّا، فأسلموا على يدي، فهذا كان سبب إسلامي، انتهى.
          وقد سبق في قولي: فصل، وأما الكلمة الثانية سلام الحجر والشجر عليه صلعم فراجعه.
          ثانيها: أنهم عترته أولاد فاطمة.
          ثالثها: جميع أمته واختاره الأزهري والنووي في «شرح مسلم» لقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر: 46]، والمراد: أتباعه كلهم.
          رابعها: آله صلعم هنا بنو هاشم وبنو المطلب في أصح الأوجه.
          وحديث أنس المرفوع: أن آله كل مؤمن تقي وهَّاه البيهقي قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: قرأت في كتاب بعض فقهائنا: سمعت أبا الحسن محمد بن شعيب الترقعي الفقيه ينشد للشافعي ☺:
آلُ النبيِّ ذريعتي                     وهُمُ إليه وَسيلتي
أرجو بأن أُعطى غدًا                     بيدي اليمين صَحيفَتي
          وله أبيات أخر ستأتي في صفة الحج إن شاء الله.
          خامسها: نصلي على سائر الأنبياء والمرسلين ونسلم، قال تعالى في نوح: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}[الصافات: 78- 79]، وفي إبراهيم خليله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الصافات: 108-109]، وفي موسى وهارون: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ}[الصافات: 159- 120]، وقال: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}[الصافات: 130]، فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين هو السلام المذكور.
          قال المفسرون _مجاهد وغيره_ {تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}: الثناء الحسن ولسان الصدق للأنبياء كلهم، فمن قال: إن المتروك هو السلام عليهم في الآخرين نفسه، فلا شك أن قوله: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ }[الصافات: 79] حمله في موضع نصب / بـ{تركنا}، والمعنى: أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء، ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن نظر إلى لازم السلام وموجبه وهو الثناء عليهم وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم.
          وزعم ابن عطية(6) وغيره أنَّ من قال: تركنا عليه ثناءً حسنًا ولسان صدق، كان سلام على نوح جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب، وهو سلام من الله يسلم به عليه، فهذا السلام من الله أمنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشرٍّ قاله الطبري.
          ومما يقوي هذا القول أنه سبحانه أخبر أن المتروك عليه هو في الآخرين، وأن المسلَّم عليه في العالمين، وبأن ابن عباس قال: أبقى الله ثناء حسنًا، وهذا القول ضعيف؛ لأنه يلزم منه حذف المفعول لتركنا ولا يبقى في الكلام فائدة على هذا التقدير، فإن المعنى يؤول إلى: إنا تركنا عليه في الآخرين أثرًا لا ذكر له في اللفظ؛ لأن السلام عند هذا القائل ينقطع عما قبله لا تعلق له بالفعل، ولأنه لو كان المفعول محذوفًا كما ذكروه لذكره في موضع واحد ليدل على المراد منه عند حذفه، ولم يطَّرد حذفه في جميع من أخبر أنه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن، وهذه طريقة القرآن، بل وكل كلام فصيح أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر لدلالة المذكور على المحذوف، وأكثر ما نجده مذكورًا وحذفه قليل، وأما أن يحذفه حذفًا مطردًا ولا يذكره في موضع واحد، ولا في اللفظ ما يدل عليه، فهذا لا يقع في القرآن، ولأن في قراءة ابن مسعود { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ }[الصافات:108-109]بالنصب، وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه، ولأنه لو كان السلام منقطعًا عما قبله لأخل ذلك فصاحة الكلام وجزالته، ولما حسن الوقوف على ما قبله وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله وتركنا عليه في الآخرين، كيف يجد قلبه متشوقًا متطلعًا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمت لتظهر عندها، بل يبقى طالبًا لتمامها وهو المتروك، والوقف على الآخرين ليس بوقف تام.
          فإن قيل: أفيجوز حذف المفعول؛ لأن ترك هنا في معنى أعطى؛ لأنه أعطاه / ثناء حسنًا أثناه عليه في الآخرين، ويجوز في باب أعطى ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما، وقد وقع ذلك في القرآن كقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر: 1] فذكرهما {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}[الليل: 5] فحذفهما {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ}[الضحى: 5]، فحذف الثاني واقتصر على الأول {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فحذف الأول واقتصر على الثاني مثل فعل الإعطاء فعل مدح، لفظه دليل على أن المفعول المعطى قد ناله عطاء المعطي والإعطاء إحسان ونفع وبر، فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل.
          فإن كان المقصود إيجاد ماهية الإعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع المنافي للإحسان ذكر الفعل مجردًا كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}، ولم يذكر ما أعطى ولا من أعطى وتقول: فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن، وقال صلعم: «لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت» لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا للحظ المعطى معنى، بل المقصود أن حقيقة العطاء والمنع إليك لا إلى غيرك، بل أنت المتفرد بهما لا يشركك فيهما أحد، فذكر المفعولين هنا يخل بتمام المعنى وبلاغته، وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معًا كقوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، فإن المقصود إخباره لرسوله صلعم بما خصه به وأعطاه إياه من الكوثر، ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين، وكذا قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[الإنسان: 8]، وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه كقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} المقصود به: أنهم يفعلون هذا الواجب عليهم ولا يهملونه، فذكره لأنه هو المقصود. [خ¦844]
          وقوله عن أهل النار: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر: 43- 44] لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للإطعام وأنهم بخلوا عنه ومنعوه حقه من الإطعام وقست قلوبهم عنه، فإن ذكره هو المقصود دون ذكر المطعوم.
          وتدبر هذه الطريقة في القرآن وذكره للأهم المقصود وحذفه لغيره يطلعك على باب من أبواب إعجازه وكمال فصاحته، وأما فعل الترك فلا يشعر بشيء من هذا ولا يمدح به.
          فلو قلت: فلان يترك لم يكن مفيدًا / فائدة أصلًا بخلاف قولك: يطعم ويعطي ويهب ونحوه، بل لا بد أن تذكر ما يترك، ولهذا لا يقال: فلان يأكل ويقال يعطي ويطعم، ومن أسمائه سبحانه المعطي فقياس ترك على أعطى من أفسد القياس.
          وقال الزمخشري في قوله: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ}[الصافات: 78] من الأمم هذه الكلمة وهي {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}[الصافات: 79]، فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين، ومعلوم أن هذا السلام الذي فيهم هو سلام العالمين عليه كلهم يسلم عليه ويثني عليه ويدعو له، فذكره بالسلام عليه فيهم، وأما سلام الله عليه فليس مقيدًا بهم، ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك فلا يقال: السلام على رسول الله في العالمين، ولا اللهم سلم على رسولك في العالمين، ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به.
          وأما قولهم: إن الله سلم عليه في العالمين وترك عليه في الآخرين، فالله أبقى على أنبيائه ورسله سلامًا وثناء حسنًا في من تأخر بعدهم جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم واحتمالهم الأذى من أممهم في الله، وأخبر أن هذا المتروك على نوح هو عام في العالمين، وأن هذه التحية ثابتة فيهم جميعًا لا يخلون منها فأدامها عليهم في الملائكة والثقلين طبقًا بعد طبق، وعالمًا بعد عالم.
          وقد جاء من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني»(7).
          ووقع في عصرنا: رجل كان يعلم الناس أن يلهجوا بالصلاة على آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأنكر عليه بعض العصريين وقال: السلطنة لنبينا صلعم وقد قال: «لا يؤمَّنَّ الرجلُ في سُلْطانه»(8).
          قلت: ولا شك أن الأدب البداءة بالصلاة على نبينا محمد صلعم، ففي حديث أُبي بن كعب الذي في «الصحيح»[م:2380/172] في قصة موسى والخضر، فذكره إلى أن قال: فانطلقا حتى إذا لقيا غلمانًا يلعبون، قال: فانطلق إلى أحدهم بادي الرأي فقتله فَذُعِرَ عندها موسى ذعرةً منكرةً، قال: {أقتلتَ نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا}[الكهف: 74]، فقال رسول الله صلعم عند هذا المكان: «رحمة الله علينا وعلى موسى لولا أنه عجل لرأى العجب، / ولكن أخذته من صاحبه ذمامة، قال: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا }[الكهف: 76] ولو صبر لرأى العجب» قال: وكان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه رحمة الله علينا وعلى أخي كذا، رحمة الله علينا الحديث لفظ مسلم وهو يعضد من فسر الصلاة بالرحمة، والله أعلم.
          وبالجملة، فهو صلعم إمامهم، والمأموم لا يتقدم على إمامه، وهو صدرهم وبدرهم وعليه يدور أمرهم، ولقد أحسن القائل في قوله:
إليكَ تنَاهى حالُ أهلِ الحقائقِ                     ومنكَ استفادَ العلمَ أهلُ الدقائقِ
وأنتَ إمامُ العارفين ومقتدى                     الخَلائق في تهذيبهم للحقائقِ
إشارات أهل الفَقْرِ زُهدُكَ أصلها                     لك اتبعوا في رفض تلك العلائق
ومن فضل ما استأثَرتَهُ شرب الأُلى                     وفزت بما لا حظَّ منه لذائق
وكل طريق لا يكون أساسها                     على ما شرعتَ فهي شرُّ الطرائقِ
وما كان من فعلٍ وليس عليه أَمْـ                     ـرُكَ المطاع مردودٌ وغير موافقِ
وجودُكَ في الدنيا وجودُك رحمةٌ                     ولطفٌ وأمنٌ من جميعِ البَوائقِ
بدا وَسْمُكَ المشهور واسمك مثبت                     على العرش سطرا قبل خلق الخلائقِ
ومن وَصفِه المحمود شُقَّ محمدٌ                     حباكَ به من فَضله خيرُ رازقِ
يوافق معنى فيك واسم وطالما                     يرى اسمًا لمعنى الشخص غير موافق
سبقتَ وصلَّى الأنبياءُ وكلُّهم                      وراءك صلوا يا جَميل السَّوابقِ
وقد أمروا أن يوثَقوا بك كلّهم                      فعهدهم فيه وكِيدُ المواثقِ
فأنتَ نبي الأنبياء وخيرهم                     وأكرم مبعوثٍ وأفضل صادقِ
بك ائتم قِدْمًا من تقادم عَصره                     فيا لاحقا أربى على كلِّ سابقِ
كتابُك للكتبِ القديمة فاضلٌ                     لحكمته قد دان كلُّ مشاققِ
تخلَّفَ عنه سَعيُ كلِّ مُبرزٍ                     وقَصَّر عن إدراكه كلُّ حاذِقِ /
نَسختَ بما بينتَ كلَّ شَريعةٍ                     فأضحى بكَ البُهتانُ أخبثَ زاهقِ
فأنتَ بدينِ الحَقِّ أعظم صادعٍ                     وبين الهُدى والغي أكرمُ فارقِ
شَرعتَ لحفظِ المالِ قَطعًا لسارقٍ                     وجوَّزتَ للتقوى قطيعةَ فاسقِ
وكم ظهرت للخلقِ فيكَ عجائبٌ                     وجئتَهمُ بالمعجزاتِ الخَوارقِ
لكَ الحوضُ يروي الواردين رَحيقُه                     ويخزي امرؤٌ أضحى له غير ذائقِ
لواؤك ظلَّ في القيامة سابغ                     إليه أَوَى الأشرافُ من كلِّ سابقِ
ولما عرفتَ الكنزَ حقًّا عزفت عن                     جميع كنوز الأرض فِعلةَ واثقِ
عَزَزْتَ على الرحمن لما أهنت ما                     أهان بعزمٍ للعواقب رامقِ
وما ليس يثني عنه ذو الحرص طرفه                      هوى لم يعره ما جرى طرف وامقِ
إليك شَكى شانٍ شَناكَ بداله                     فلم تتمكن منه مديةُ ماحقِ
وجاءك أشجار الفلاة مطيعة                     تخدُّ إليكَ الأرضَ فعلَ مُسابقِ
وكلَّمكَ السَّرحانُ والضَّبُّ والظِّبا                     وسلَّمتِ الأحجارُ من كلِّ سابقِ
وروَّيتَ جيشًا من صِحابك ظامئًا                     ماءً نَميرًا من بَنانك دافقِ
ردَدْتَ بعينِ الحقِّ عينَ قتادةٍ                     فأصبح بعد الفقءِ أحسن رامقِ
ومن رأس عذقٍ جاءك العذقُ                     ساعيًا وعاد بأمرٍ للعوائد خارقِ
وفُهِّمتَ إخبارَ الذِّراع بسُمِّهِ                     وحنَّ إليكَ الجذعُ حنَّة وامقِ
سموتَ بأصلٍ ظاهر السِّنْخِ ثابت                     وقعتَ بفرعٍ في المكارم باسقِ
وصوَّركَ الرحمنُ أحسنَ صورةٍ                     تنزه أخلاق الورى في حدائقِ
ويشتدُّ كربُ الخَلق يومَ مَعادِهم                     ويُقلقهم زلزال تلك المَضائقِ
وأُخرى حَيارى يطلبون وسيلةً                     إلى ربهم في الفَصل بين الخلائقِ
أولو العزم جاؤوا واحدًا بعد واحدٍ                     وكلٌّ حكَّى عن نفسه وصفَ وابقِ /
إلى أن تَناهى في الدَّلالة أَمرهُمْ                     إليكَ ففازوا بالشَّفيع الموافقِ
فَتقدُمُ عن علمٍ وعن ثقةٍ إلى                     مقامٍ بعلياكَ الجليلةِ لائقِ
وتسجدُ تحتَ العرش مبتهلًا إلى                     إلهك في استفتاح تلك المغالقِ
يُجيبكَ قُلْ تُسْمَعْ وسَلْ تُعطَ وابذل                     الشفاعة تقبل في مطيع وآبقِ
وهذا جوابٌ بالمحبَّةِ شاهد                     علاه لغير الحِبِّ غير مُوافقِ
          إلى قوله:
قَصدتُك أرجو الفَضلَ يا خير مُعتقٍ                     تقدمت في نجواي أكرم عاتقِ
أجزني بإيجازِ الشفاعةِ في غدٍ                     وجُدْ لي بطَيفٍ من خيالك طارقِ
فبي ظَمأٌ بَرَّحْ ورؤياكَ بَردُهُ                     فعطفًا على قلبٍ يحبكَ خافقِ
عليكَ سلامُ الله ما لاحَ بارقٌ                     وجلَّا ضياءُ الصبحِ ظُلمةَ غاسقِ
          والله أعلم.
          أما الكلام على الذرِّية فسيأتي في الوقف، وأما الكلام على الزوجات الطاهرات فسيأتي في النكاح إن شاء الله.
          وافق الفراغ من هذا المجلد يوم العشرين من رجب الفّردْ سنة اثنين وعشرين وثمان مئة، أحسن الله تَقَضِّيها بمنزلي بالتعديل، كتبه علي بن الصَّيرفي الشافعي حامدًا مصليًا مسلمًا إلى يوم الدين.


[1] المراسيل لأبي داود (131).
[2] أخرجه أبو داود (832) وأحمد (19110).
[3] التفسير القيم (1/465).
[4] التفسير القيم (2/89).
[5] التفسير القيم (1/465).
[6] المحرر الوجيز (4/547).
[7] أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (131).
[8] الحديث أخرجه مسلم (673) من حديث أبي مسعود الأنصاري.