مصباح القاري لجامع البخاري

كتاب التوحيد و الرد على الجهمية

          ♫
          ░░97▒▒ كِتابُ التَّوحِيد وَالردِّ علَى الجَهمِيَّة
          وفي بعضها: ((ورد الجهميَّة)) بالإضافة إلى المفعول، وهم منسـ [ـو]بون إلى جهمِ بن صفوان المقتول بمرو في زمان هشام بن عبد الملك، وهو مقدم الطَّائفة القائلة بأنَّ لا قدرة للعبدِ أصلاً وهم الجبريَّة وهم من المرجئة.
          قلت: عبارتهُ في التعريف بمذهبِ الجهمية قاصرةً؛ لأنَّهم يقولون: أنَّ الله تعالى جسمٌ، وأن عملَه حادثٌ بحسبِ الحوادث، وأنَّه لا يعلمها قبل حدوثها، ويقولون: أنَّه في كلِّ شيء ولا يخلو / من شيءٍ حتى يقولوا: هو هاهنا، كذا نقله عنه البيهقي في ((الأسماء والصفات)) قبيل باب: ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] وينكرونَ اختصاص الحقِّ سبحانه بصفاتٍ دون صفاتِ المخلوق، ويصرِّحون بالتَّشبيه والحلول والاتحاد، لا سيما المتأخِّرون منهم، قالوا: إنَّ العبد يتَّصف بصفات ذات الحقِّ، والحقُّ يتصفُ بصفاتِ المخلوق كلها، وينكرون تنزيهَ الله تعالى، ويصرفون الألفاظ الشرعيَّة عن ظواهرها، ويقولون: معنى القدر إجبارُ العباد على أفعالهم، وأن لا كَسْبَ لهم ومذهبهم يجمعُ الاعتزال والجبر، ويقولون: إيمانهم كإيمانِ الملائكة والنبيين، ولا يشترطونَ في الإيمان شهادة اللسانِ ولا الإقرار بنبوَّةٍ، ولا تأدية فريضةٍ.
          وقد تضمَّنت الترجمة بكتاب التوحيد: أنَّ الله واحدٌ، وأنه ليس بجسمٍ؛ لأن الجسم يؤلَّف من جُزأين فأكثر، وفي نفسِ التِّرجمةِ ردٌّ على الجهمية، ومذهب البخاري وغيره تكفيرُ الجهميَّةِ، فقد قالَ ابن مُبارك: إنا لنحكي كلامَ اليهودِ والنصارى، ولا نستطيعُ أن نحكيَ كلام الجهميَّة، يقولون: إنَّ الله هاهنا وأشارَ إلى الأرض.
          وقال البخاريُّ: نظرتُ في كتاب اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيتُ قوماً أضلَّ في كفرهم من الجهميَّة، وإني لأستجهلُ من لا يكفِّرهم إلا أن لا يعرف كُفْرهم، وقال: مَا أنا لي؛ أي: ما أفرق صلَّيت خلف الجهمي والرافضي، أم صلَّيت خلفَ اليهودي والنصرانيِّ، نقلهُ عنه البغوي في ((شرح السنة)).
          رجعنا إلى كلام الكرماني قال ☼: لمَّا فرغَ البخاري من أصول الفقه شرعَ في مسائل الكلام وما يتعلَّق بها، وختم كتابهُ بالتوحيد إرادةً لختمِ الكتاب بالأشراف وختامه مسكٌ، ثمَّ إنه قدم التوحيد على غيره؛ لأنه أصل الأصول وهو معنى كلمة الشَّهادة التي هي شهادةُ الإسلام قالوا: صفات الله قسمان: صفاتُ النقائضِ وأشرفها نفي الشريك، وهو التَّوحيدُ في الإلهيَّة، وهو وإن كانَ أوَّلَ الواجباتِ لكنَّه آخرُ ما تنحلُّ إليه المقاصِدُ، وصِفاتُ الإكرام: وهي صفاتُ الكمالِ ردُّوها إلى سبعِ صِفات: وهي الحياةُ والإرادةُ والعِلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، والبواقي من صفات الرحمة والخلق ونحوها بتمامها راجعٌ إليها لا يخرج عنها.
          قال: وختمَ البخاري ☼ بصفةِ الكلام؛ لأنَّه مدار الوحيِ، وبه تثبتُ الشَّرائع، ولهذا افتتحَ الكتابَ بـ((بدء الوحِي)) والانتهاءُ إلى ما منه الابتداءُ وخُتِم ذلك ببيَانِ أنَّ كلام بنِي آدَم يُوزن؛ لأنَّه من صِفاتهِم، وأرادَ أن يكونَ آخر كلامهِ تسبيحاً وتحميداً، كما ذكر ((حديث الأعمال بالنية)) في أوَّل كلامه إرادةً لبيان إخلاصهِ فيه، ففيه الإشعارُ بما كان عليه مؤلِّفه ☺ في حالتيه أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، جزاه الله خيراً. انتهى كلام الكرماني بتهذيبٍ هذَّبته بتوفيقِ الله تعالى.
          واعلم أنَّ التَّوحيد هو أول الواجباتِ على المكلَّفين، ويجبُ التَّعبير عنه بكلمتي الشَّهادتين، وهما: لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله، وإن تلفَّظ بهما بصيغةِ الشَّهادة فهو أكملُ، وهاتان الشَّهادتان أحسنُ العباراتِ عن التَّوحيد وأصحها وأجمعها لمعاني التَّوحيد، لا يمكن لأحدٍ أنْ يأتِي بأحسنَ منها. / ولا يصحُّ شيءٌ من الأعمالِ إلا بعدهما، وهما يشتملانِ جميعَ شُعَبِ الإيمان، وهي بضعٌ وسبعون شعبة، وقد ترجمَ الإمامُ الغزالي عليهما عقيدة تامَّة في كتابه ((قواعد العقائد من الإخاء)).
          وقد أكثرَ العُلماء من تصنيفِ العقائد المجرَّدة المشتملةِ على العقليَّات والسَّمعيات والمبدوء والمنتهى، فبعضهم يجعلُها مجرَّدةً عن الأدلَّة والخلاف كالغزالي، لكنَّه ألحقَ ذلك في فصلٍ آخر وبعضهم يمزجها بأدلَّةٍ مختصرةٍ وخلاف قليل، وبعضهم يبسُطُ ويذكرُ بعض الفِرَق المخالِفَة، وهي ثنتان وسبعون كلٌّ منهم قد انفردَ بشيء من البِدعِ المخالفة لما عليه الطَّائفة الثالثة والسبعون، وهم أهلُ السُّنَّة والجماعة بينهم اختلافٌ أيضاً، وهم ثلاث فرق:
          فرق الأشعريَّة والحنفيَّة والحنابلة، فالخلافُ بين الأشعريَّة والحنفية في نحو اثني عشر مسألةً أكثرها يكون الخلاف فيها لطيفاً لا خلافاً محققاً، وليس في شيءٍ منها ما يوجب تبديعاً ولا تفسيقاً، وأمَّا خلافُ الحنابلة فأضعفه ما كان في الكلام الرَّبَّاني، وهو قولهم: بالحرفِ والصَّوت، فإنَّه يُفضِي إلى التَّشبيه والتَّجسيم، ثمَّ اتَّخذ بعضهم بذلك إلى الحلول والاتِّحاد خصوصاً إذا كان من الطَّائفة المتصوِّفة فإن المتصوِّفَة منهم الأشعريُّ والحنفي والمعتزلي، فالأشعريُّ والحنفي لا يغلوان في التَّوحيد، والحنبلي يغلو بحشو، والمعتزلي يغلو، وقد كثُرَت عباراتُ الصوفية في التَّوحيد بعباراتٍ مفردة.
          وقد نقل القُشيري في رسالته من ذلك مقالاتٍ كثيرةٍ، فبعضهم تكلَّم في توحيدِ الذَّات، وبعضهم في توحيد الصِّفَات، وبعضهم في الأفعال، ومن المتصوِّفَة من يكون معتزليًّا أو حنفيًّا أو حنبليًّا، فتكلَّمَ في التوحيد على أصلِ عقيدته، ويتكلَّمُ الأشعريُّ على أصلِ عقيدته فيختلفان، وقد يتكلَّمُ الحشويُ في العقائد فيظهر حشوه، وقد يصرِّح بالحلول وقد يصرِّح بالاتحاد ويتديَّن به، ويرى أنه حقٌّ والحقيقةُ كابن عربيٍّ وأتباعه، وله في ذلك سلفٌ كالحلاج وغيره.
          لكنَّه زاد عليهم بأنه نظرَ في مذاهبِ جميعِ الفرق الإسلامية، وحتَّى اليهود والنصارى والمجوس والفلاسفة القُدَماء، ورأى [أنهم] كلهم مصيبين ولفَّق لنفسه من مذاهبِ الجميع مذهباً انتهى فيه إلى التصريح بمسائل كفريات وقواعد فلسفيات وعويصات الحادثات فتبع الفلاسفة في القول بقدم العالَمِ، وفي إنكارهِم العِلم بالجبريات وإنكارهم بعثَ الأجساد، وفي إنكارهم حقيقة الجنَّة والنَّار والعذاب الجسماني، وقال: بإيمانِ فِرعون وغيره من المجتسرين، بل قال: بعدمِ وجود حقيقةِ الكُفر وأنَّ من عبدَ صنماً أو حجراً أو شجراً أو شمساً أو قمراً أو غير ذلك فما عبدَ إلا الله، وبالجملة فمذهبهُ أفلح مذاهبِ الملحدين الكـافرين، عصمنا الله منهم أجمعين.