كشف الالتباس عما أورده الإمام البخاري على بعض الناس

حد الأخرس إذا قذف بإشارة أو كتابة

          6 - وقال في (كتاب الطلاق): (قَالَ بَعْضُ النَّاسِ) قال الكرماني: يريد الحنفية. وهذا غير مستبعد؛ لأنَّه مذهبهم، فإنَّهم قالوا: (لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ) على الأخرس؛ لأنَّه لا اعتبار لقذفه ولا لعانَ عليه.
          قال في ((الهداية)): قَذْفُ الأخرس لا يتعلق به اللِّعان؛ لأنَّه يتعلق بالصريح كحد القاذِفِ. ثم قال: ولا يُحد بالإشارة في القذف؛ لانعدام القذف صريحًا. اهـ.
          وقال: (ثُمَّ زَعَمَ) هذا القائلُ (أَنَّ الطَّلَاقَ) إذا كان (بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ) بيده (أَوْ إِيمَاءٍ) برأسه (جَائِزٌ). فأقام ذلك مُقَامَ الكلام. وهذا تحكُّم منه وفرق بلا افتراق، وتخصيص بلا اختصاص، ولذا قال: (وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ). /
          وأُجِيب بأنَّ القذف بالإشارة ليس كأداة الصريح(1) بل فيه شبهة، والحدودُ تدرأ بالشبهات، واللِّعانُ لا بدَّ فيه من أن يأتي بلفظ الشهادة، حتى لو قال: أحلِفُ مكان: أشهدُ لا يجوز. وإشارتُهُ لا تكون شهادة. وكذا إذا كانت هي خرساءَ، فإنَّ قَذْفَها لا يُوجِبُ الحد؛ لاحتمال أنَّها تُصدِّقُهُ لو كانت تنطق.
          ثم قال: (فَإِنْ قَالَ) هذا القائل: (الْقَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِكَلَامٍ، قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِكَلَامٍ)، وحيث صحَّ الطلاق بالإشارة فالقذف مثله، (وَإلَّا) أي: وإن لم تُعتَبر الإشارة والكتابة واشتُرِطَ(2) العبارة (بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ).
          وأجيب بأنَّ الفرق بينهما ظاهر، حيث إنَّ القذف واللعان يُدرَآنِ بالشبهات فلا حاجة إلى إثباته. والكتابةُ والإشارةُ فيها شبهةُ، بخلاف الطلاق، فإنَّ أصل مشروعيته الحاجةُ إلى حَلِّ عُقدة النكاح، فكما أنَّ الناطق ربما يَحتاج لحَلِّ(3) عُقدةِ النكاح، فكذلك الأخرس. فأُقيمت إشارته مُقَامَ النطق.
          قال في ((الهداية)): وطلاقُ الأخرس واقع بالإشارة؛ لأنَّها صارت معهودة، فأُقِيمَتْ مُقام العبارة دَفْعًا للحاجة.
          قال: (وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ) أي: حكمُهُ حكمُ القذف، فيجب أن يَبطُلَ لعدم الكلام، مع أنَّهم قالوا بصحته وقد علمتَ الفرق بينهما بأنَّ الأول يَسقُط بالشبهة، والطلاقُ والعَتاق ليسا كذلك.
          (وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ) _أي: هو مثلُ الأخرس_ مع أنَّهم قالوا: إذا أُشيرَ إليه حتى فَهِم أو كُتِبَ له فَعَلِمَ فإنَّه (يُلَاعِنُ).
          والفرق بينه وبين الأخرَسِ ظاهر؛ لأنَّه إذا فَهِمَ المطلوبَ منه تأتَّى منه المشروطُ باللعان من الإتيان بلفظ الشهادة، بخلاف الأخرس. /
          (وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ) الرجلٌ لامرأتِه: (أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ) أي: بيَّن ما أراده (بأَصَابِعِهِ تَبِينُ) أي: تَطْلُقُ (مِنْهُ) امرأته، أي: يَظهرُ [منه](4) ما نواه بلفظ الطلاق بحسب ما أشار بأصابعه، فإنْ أشار بثلاثِ أصابع بانَتْ بثلاثٍ وإنْ بأقلَّ طَلَقَتْ بحسبها.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) النخعي: (الْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ) الطلاق.
          (وَقَالَ حَمَّادُ) بن سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة: (الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ إِنْ قَالَ) أي: أشار (بِرَأْسِهِ) عمَّا سُئل عنه (جَازَ)، أي: نَفَذَ ما أشار به، وأُقِيمَت الإشارةُ مُقام العبارة. قال بعضهم: وكأنَّ البخاريَّ أراد إلزامَ الكوفيين بقول شيخهم.
          وأُجِيبَ بأنَّه لا إلزام في ذلك؛ لأنَّ الكوفيين قائلون بأنَّ إشارةَ الأخرسِ المعهودة قائمةٌ مُقام العبارة، إلَّا فيما يَسقُط بالشُّبْهَة.


[1] في (ب) و(ط): كالصريح.
[2] في (ط): واشترطت.
[3] في (ط): إلى حلِّ.
[4] زيادة من (ط).