النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح

حديث: رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر

          3573- وقع فيه في حديث أنس ☺ قوله: حَتَّى تَوَضَّؤُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمُ.
          وهذا تركيب غريب من غرائب الاستعمال الفصيح في العربية، قد أهمل بيانه ((صاحب لسان)) العرب وصاحب ((القاموس)) وصاحب ((تاج العروس)) وابن الأثير في ((النهاية)) وابن مالك في ((مشكل الجامع الصحيح))، وكتب عليه بعض شُرَّاح الصَّحيحين ما لا تطمئنُّ له نفس اللَّبيب.
          والمراد من هذا التركيب بيان اكتفاء جميع الناس بالوضوء حتى لم يحرم منه أحد، فالمراد الإحاطة والوسع. فالمراد بـــ(آخرهم) من جاء آخر القوم رائمًا الوضوء من ذلك الماء، وهو من أبطأ في المجيء؛ / لأنَّ شأن المقتَّرة المضيَّقة أن يكتفي منها من يتناولها ابتداءً وجاء مسرعًا، وأنَّ من أبطأ لم ينل منها شيئًا أو نال ما لا يغنيه، وبعكسه الشيء الغزير الذي هو أكثر من حاجة القوم.
          فقوله: (توضؤوا من عند آخرهم) (من) فيه للابتداء، جُعِل آخر القوم كأنَّه مبدأ للوضوء؛ أي: توضأ جميعهم من الماء الذي هو عند آخرهم؛ أي: أنَّ المتوضئ آخرًا من القوم قد بقي لديه من الماء ما لو رام جميع القوم أن يتوضؤوا منه أيضًا لكفاهم.
          فالمراد من هذا التركيب لازم معناه، وليس المراد صريحه؛ إذ لا معنى لِتَوَضُّؤِ المتوضِّئين الأولين متوضِّئين من عند آخرهم، كيف وهو آخرهم. فالكلام كناية تلويحية رمزية؛ لأنَّها اشتملت على كثرة الوسائط مع خفاء، وهي أيضًا غير مراد منها ملزوم المعنى الكنائي، بل أريد اللازم فقط. وبذلك تعيَّن أنَّه لا يلزم تقدم المعنى الصريح في ظاهره.
          وقد توهم بعض الشارحين أنَّ (من) هنا بمعنى إلى وأن كلمة (عند) مقحمة، وإنَّما ألجأهم إلى ذلك عدم استقامة المعنى الصريح، وغفلتهم عن كون المقصود الكناية.