الناظر الصحيح على الجامع الصحيح

حديث: نحن الآخرون السابقون

          238- 239- (لَا يَبُولَنَّ): بفتحِ اللَّامِ.
          (الَّذِي لَا يَجْرِي): صفةٌ مبيِّنةٌ لـــ(الدَّائِمِ)، والمراد منه: الرَّاكدُ، وقيل: للاحترازِ عن راكدٍ يَجري بعضُه؛ كالبِرَكِ.
          وقال البيضاويُّ: («الَّذِي لَا يَجْرِي»: صفةٌ ثانيةٌ تؤكِّدُ الأُولى). /
          (ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ): قال الطِّيبيُّ نقلًا عن القاضي ناصرِ الدين: («ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ»: عطفٌ على الصِّلةِ، وترتيبُ الحكمِ على ذلكَ يُشعِرُ بأنَّ الموجِبَ للمنعِ أنَّهُ يتنجَّسُ به، فلا يجوزُ الاغتسالُ به، وتخصيصُه بـــ«الدَّائِمِ» يُفْهَمُ منه: أنَّ الجاريَ لا يتنجَّسُ إلَّا بالتَّغييرِ.
          أقول: لعلَّه امتنع من العطف على «يَبُوْلَنَّ»، وارتكب هذا التَّعسُّفَ؛ للاختلافِ بينَ الإنشائيِّ والإخباريِّ، والمعنى عليه أظهرُ، فيكونُ «ثُمَّ» مثلَ الواو في: «لا تأكلِ السَّمكَ وتشربَ اللَّبنَ»، عطف الاسم على الفعلِ على تأويلِ الاسمِ، أي: لا يكنْ منكَ أكلُ السَّمكِ وشربُ اللَّبنِ، أي: لا تجمعْ بينَهما؛ لأنَّ الاغتسالَ في الماءِ الدَّائمِ وحدَه غيرُ منهيٍّ عنه، أو مثلَ الفاءِ في قولِه تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه:81]، أي: لا يكنْ مِنْ أحدٍ البولُ في الماءِ الموصوفِ ثُمَّ الاغتسالُ فيه؛ فـــ«ثُمَّ» استبعاديَّةٌ، أي: بعيدٌ مِنَ العاقلِ الجمعُ بينَ هذينِ الأمرينِ.
          فإن قلتَ: عَلامَ تعتَمد في نصب «يَغْتَسِلُ» حتَّى يتمشَّى لك هذا المعنى؟
          قلتُ: إذا قَوِيَ المعنى لا يضرُّ الرَّفعُ؛ لأنَّه حينئذٍ مِنْ بابِ «أحضُرُ الوغى»)، ثُمَّ / نَقَلَ كلامَ النَّوويِّ، وكلامَ ابنِ مالكٍ الآتي.
          وقال الشَّيخُ المالكيُّ في «الشَّواهدِ»: (يجوزُ في «يَغْتَسِلَُْ» الجزمُ عطفًا على «يَبُولَنَّ»؛ لأنَّه مجزومُ الموضعِ بـــ«لَا» الَّتي للنَّهيِ، ولكنَّه بُنِيَ على الفتحِ لتوكيدِه بالنُّونِ، ويجوزُ فيه الرَّفعُ على تقديرِ: ثمَّ هو يغتسلُ فيه، والنَّصبُ على إضمارِ «أَنْ» وإعطاءِ «ثُمَّ» حكمَ واوِ الجمعِ، ونظيرُه في جوازِ الأوجهِ الثلاثةِ التِّلاوةُ في قولِه تعالى: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} [النساء:100] فإنَّه قُرِئَ بالجَزْمِ _وهو الَّذي قرأَ به السَّبعةُ_ وبالرَّفعِ والنَّصبِ على الشُّذوذِ).
          وقال الشَّيخُ محيي الدِّينِ النَّوويُّ(1): (الرِّوايةُ بالرَّفعِ...، ولا يجوزُ النَّصبُ لأنَّه يقتضي أنَّ المنهيَّ عنه الجمعُ بينهما دونَ إفرادِ أحدِهما، وهذا لم يقلْهُ أحدٌ؛ بلِ البولُ فيه منهيٌّ عنه، سواءٌ أرادَ الاغتسالَ فيه أو منه، أو لا).
          قال الطِّيبيُّ في قولِه: (أمَّا النَّصبُ فلا يجوزُ): (فيه نظرٌ؛ لِمَا جاءَ في التَّنزيل: / {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} [البقرة:42]، والواو للجمع، [والمنهيُّ هنا الجمعُ] والإفرادُ، بخلافِ قولهم: لا تأكلِ السَّمكَ وتشربَ اللَّبنَ).
          وقال الكِرمانيُّ: (أقولُ: لا يقتضي الجمعَ؛ إذْ لا يريدُ بتشبيهه «ثُمَّ» بالواو المشابهةَ مِنْ جميعِ الوجوهِ، بل في جوازِ النَّصبِ بعدَه فقط، سلَّمنا، لكنْ لا يضرُّ، إذْ كونُ الجمعِ منهيًّا يُعلمُ مِنْ هنا، وكونُ الإفرادِ منهيًّا مِنْ دليلٍ آخرَ؛ كقولِه تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} [البقرة:42] على تقديرِ النَّصبِ) انتهى.
          واعلم أنَّ القرطبيَّ مَنَعَ النَّصبَ، فقال: (لا يجوزُ النَّصبُ؛ إذْ لا يُنصَب بإضمار «أَنْ» بعد «ثُمَّ»)، ثمَّ وهَّى الجزمَ الَّذي ادَّعى النَّوويُّ ظهورَه، فقال: (وبعضُ النَّاسِ قيَّدَه بالجزمِ على العطفِ على «يَبُولَنَّ»، وليس بشيءٍ؛ إذْ لو أراد ذلك؛ لقالَ: «ثمَّ لا يَغْتَسِلَنَّ»؛ لأنَّه إذْ ذاكَ عطفُ فعْلٍ على فعْلٍ، لا عطفُ جملةٍ على جملةٍ، وحينئذٍ يكونُ الأصلُ مساواةَ الفعلينِ في النهيِ عنهما، وتأكيدَهما بالنُّونِ المشدَّدةِ، فإنَّ المحلَّ الَّذي تواردَا عليه هو شيءٌ واحدٌ، وهو الماء، فعدولُه عن «ثُمَّ لَا يَغْتَسِلْ» دليلٌ على أنَّه لم يُردِ العطفَ، وإنَّما جاءَ «ثُمَّ يَغْتَسِلُ» على / التَّنبيهِ على مآلِ الحالِ، ومعناه: أنَّه إذا بالَ فيه قد يَحتاجُ إليه، فيمتنعُ عليه استعمالُه؛ لِمَا أوقعَ فيه مِنَ البولِ، وهذا مِثْلُ: «لَا يَضْرِبْ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْأَمَةِ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا» برفع «يُضَاجِعُهَا»، ولم يَرْوِهِ أحدٌ بالجزمِ؛ لأنَّ المفهومَ منه أنَّما نهاه عن ضربِها؛ لأنَّه يحتاجُ إلى مضاجعتِها في ثاني حالٍ، فتمتنعُ عليه بما أساءَ مِنْ معاشرتِها، ويَتَعذَّرُ عليه المقصودُ لأجْلِ الضَّرب، وتقديرُ اللَّفظِ: «ثُمَّ هو يُضَاجِعُهَا»، و«ثُمَّ هو يَغْتَسِلُ»).
          ورأيتُ في «المغني» للشَّيخِ جمالِ الدِّينِ ابنِ هشامٍ ⌂ ما لفظُه: (وإنَّما أرادَ ابنُ مالكٍ إعطاءَها حكمَها في النَّصبِ لا في المعيَّةِ أيضًا، ثمَّ ما أوردَهُ إنَّما جاءَ مِنْ قِبَلِ المفهومِ لا المنطوقِ، وقد قامَ دليلٌ [آخرُ] على عدمِ إرادَتِه، ونظيرُه: إجازةُ الزَّجَّاجِ والزَّمخشريِّ في: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} [البقرة:42] / كونَ {تَكْتُمُواْ} مجزومًا، وكونَه منصوبًا، مع أنَّ النَّصبَ معناهُ النَّهيُ عنِ الجمعِ) انتهى.
          وبخطِّ بعضِ الفضلاءِ على كلامِ «المغني»: (المعيَّةُ أَعَمُّ مِنَ النَّصبِ، وكلَّما(2) وُجِدَ النَّصبُ[17ب] وُجِدَ المعيَّةُ؛ فإذًا الجوابُ غيرُ مُخَلِّصٍ) انتهى.
          فائدةٌ: قرأَ الحسنُ البصريُّ: ▬ثُمَّ يُدْرِكَهُ↨ بالنَّصبِ، وقرأَ النَّخَعيُّ وطلحةُ ابنُ مُصَرِّفٍ بالرَّفْعِ. /


[1] في (أ): (النواوي).
[2] في (ب): (فكلما).