الوجه الصبيح في ختم الجامع الصحيح

كتابة الحديث بين الحظر والإباحة

          وقد كان السَّلف الكرام من الصَّحابة وصدر من التَّابعين أئمة الأنام لهم في الحفظ القَدم الرَّاسخ، والبناء الذي مجده شامخ، فمنعوا من كتابة السُّنة النَّبويَّة؛ لئلّا تركن النَّفس في حفظها إلى الدَّعة، وتنحطَّ عن المقامات العلية، مع ما ورد من قول خير البريَّة، صلعم بالبكرة والعشية: «لا تكتبوا عنِّي غير القرآن، ومن كتب عنِّي غير القرآن فليمحه»، فرأى أولئك المنع من كَتْبِ السُّنَّة والحديث النَّبويِّ، وأنَّه يتعيَّن على مَن كَتَبَ السُّنَّة والحديث النَّبويَّ(1) محــوه ومسحه، واستحسنوا أن يدأبوا(2) في تحصيلها حفظاً كما أخذوها منه صلعم سماعاً ولفظاً(3) .
          ولمَّا تنزَّلت الهمم بقدرة مَن في تصاريف أقداره(4) أنواع الحِكَم عن تلك المرتبة في الحفظ والاستحضار، وقلَّ الدَّأب والجهد في شريف ذلك الفخار، قال المحقِّقون من الأئمة الذين أتقن كلٌّ منهم من العلم فهمه: يجوز كَتْبُ السُّنَّة النَّبويّة بل يُسنُّ، بل قيل بالوجوب خشية أن يذهب العلم بذهاب حفظته منهم، فلا يرجع ولا يؤوب، وهذا القول هو الصَّحيح المختار، والنَّهي عن كتابة غير القرآن والأمر بمحو ما كُتِب من غيره محمولٌ على بعض الأوقات، أو على بعض الأسرار.
          على أنَّ الحديث تكلَّم فيه الأئمة / الكرام، وورد أيضاً الإذن فيه بقوله: «اكتبوا لأبي شاه..» [خ¦2434] الحديث، فهو إذنٌ في ذلك بالدَّوام وناسخٌ للنَّهي عنه؛ لأنَّه كان بيوم الفتح المبارك، وذلك كان من قبل ذلك، أو النَّهي عن كَتْبه مع القرآن في شيء واحد، أو النَّهي خشية الرُّكون إليه عن عَليِّ مقامِ الحفظ إلى مقام الدَّعة إلى المكتوب للتَّقاعد.
          وحَدَث في آخر عصر التَّابعين تدوين الأخبار، ورَقْمُ السُّنَّة النَّبويَّة وشريف(5) الآثار، لما انتشر العلماء في الأمصار، وخُشي على السُّنة النَّبويَّة من أعدائها أولي البدع على تعاقب الأعصار، وما كُتِب قرَّ وما لا يكتب فرَّ.
العلم صيدٌ والكتابة قيده                     قيِّد صيودكَ بالقيود الواثقة


[1] في (ن): «من كتب منها»، والمثبت من (ظ).
[2] في (ظ): «يذابوا»، والمثبت من (ن).
[3] قوله: «سماعاً ولفظاً» مثبت من (ن).
[4] قوله: «أقداره» مثبت من (ن).
[5] في (ن): «وتشريف».