تراجم البخاري

المقدمة

          ♫
          الحمدُ للهِ على جَزيلِ نَعمائِهِ، حَمْداً علا أقطار أرضه وسمائِهِ، وصلَّى اللهُ على أشرفِ أنبيائِهِ وأكرم ِأصفيائِهِ، محمدٍ وآلهِ وأَهْلِ ولائِهِ وبَعْدُ:
          فإنَّ الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري سبق بوضع كتابه «الجامع الصحيح»(1)، الذي أجمعَ على صحَّته الأئمةُ منْ أهلِ التَّعديلِ والتَّجريحِ، وضَمَّنَ تراجمَ بعضَ الأبوابِ ما يَبْعُدُ فَهْمُهُ من حديثِ ذلك الباب؛ ووقع [في](2) ذلك بعض التباس على كثيرٍ منَ النَّاسِ، فبعضهم مُصَوِّبَاً له ومُتَعَجِّبَاً منْ حُسْنِ فهمِهِ. وبعضٌ نَسَبَهُ إلى التَّقصير في فهمِهِ وعلمِهِ، وهؤلاءِ ما أنصفوه؛ لأنَّهم لم يعرفوه، وبعضٌ قال: لمْ يُبَيّضِ الكتابَ. وهو قولٌ مردودٌ؛ فإنَّهُ أَسْمَعَ الكتابَ مراراً على طريقةِ أَهْلِ هذا الشَّأن، وأخذه عنه الأئمةُ الأكابر من البلدان، وبعضٌ قال: جاء ذلكَ منْ تَحريفِ النُّسَّاخِ، وهو قولٌ مردودٌ؛ فإنَّه لم يزلْ مرويَّاً منْ أئمةِ الحديثِ على شرطهم مِن تصحيحهم له وضبطهم، والحقُّ أنَّه ☼ سَلَكَ في استنباطِ حُكْمِ التَّرْجَمَةِ منَ الحديث طُرُقاً عِدَّةً:
          فتارةً يختصرُ الحديثَ المُتَضِمِّنَ حكم ترجمة الباب، ويُحِيْلُ فَهْمَ ذلك على منْ يعرفه منْ أهلِ الحديث: كحديثِ أبي سَلَمَةَ في إنشادِ الشِّعرِ في المسجدِ(3)؛ فإنَّ الحديث الذي أورده ليسَ فيه تصريحٌ بالمسجدِ لكنَّهُ جاءَ مُصَرَّحَاً به في روايةٍ أخرى، فاكتفى بالإشارةِ في الحديث، إحالةً على معرفة أهله.
          وتارةً كون حكم الترجمة أَوْلَى منْ حُكمِ نصِّ الحديث: كحديثِ ابن عمر في باب: (إذا وَقَفَ في الطَّوافِ)(4)؛ لأنَّ النَّبي صلعم وَالَى بين الطَّواف والصَّلاة، ولمْ يُفرِّقْ بينهما مع اختلاف نوعي العبادة، فَلَأنْ لا يفرِّق بين أشواطِ الطَّواف بالوقوفِ ونحوه مع اتِّحاد النَّوع أَوْلَى.
          وتارةً يكونُ حُكْمُ الترجمةِ مفهوماً من الحديث، ولكن بطريقٍ خفيٍّ وفهمٍ دقيقٍ، كما فُهِمَ (أنَّ الأَعْمَالَ مِنَ الإِيمَانِ) منْ قولِ عائشةَ: (وكَانَ(5) أَحَبُّ الدِّينِ إليهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ)(6)، وجهُ فَهْمِهِ أَنَّ (أَحَبَّ) أفعلُ تفضيل يقتضي محبوباً دونه، ولا يكونُ الدِّين محبوباً وأحبَّ منه إلاَّ باعتبارِ الأعمالِ؛ لأنَّ اعتقادَ الإيمانِ ليس فيه محبوبٌ آخر وأحب؛ لأنَّ اعتقادَ غير الإيمان كفرٌ، ونحو ذلك من عادته في تراجمه.
          وقد استخرتُ اللهَ تعالى في هذا المختصرِ مُشيراً بهِ إلى ما يمكنُ من ذكرِ مناسبةِ تلك الأحاديث لتلك التراجم، وحكمةِ استنباطه لأحكامِ التراجمِ مِنْهَا، فإنْ يكن ذلك قصده فبتوفيقِ اللهِ تعالى، وإنْ لم يكنْ فَمَبْلَغُ نفسٍ عذرُها فلا جنح.


[1] الحَاقِب: الذي احتاج إلى الخلاء فلم يتبرَّز، فانحصر غائطه. المرجع السابق، الموضع السابق (1/402).
[2] وقال الحافظ ابن حجر: في إسناده محمد بن إبراهيم الشامي وهو ضعيفٌ، وقد تفرد به مرفوعاً، وخُولِفَ فيه فروى البيهقي من حديث عبادة بن الصامت أنَّه سأل رسولَ الله صلعم عن ذلك فقال: «ذلك فعل أهل الكتابين» وإسناده ضعيفٌ أيضاً، وكأنَّه أراد أنَّه لم يصحّ فيه شيءٌ، وروينا في المحامليات بإسنادٍ حسنٍ عن جبير بن نفير قال: (كان أصحاب رسول الله صلعم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعضٍ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا ومِنْكَ). فتح الباري (2/575).
[3] كتاب الصلاة، باب: الشِّعرِ في المسجد (453) عن أبي سلمة ☺،والرواية الأخرى المُشار إليها أخرجها في كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة صلوات الله عليهم (3212) عن سعيد بن المسيَّب قال: مرَّ عمر في المسجد ... .
[4] كتاب الحج، باب: إذا وَقَفَ في الطَّواف، باب (68)، ولم يذكر حديثاً مرفوعاً، وإنما ساق كلاماً لعطاء، وقال عَقِبَهُ: ويُذْكَرُ نحوه عن ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر ♥.
[5] ونقل ابن حجر عبارة ابن المنير فقال: ...ووجهه أنَّه لما جاز للأب بالاتفاق أنْ يأكل من مال ولده إذا احتاج إليه فلأنْ يسترجع ما وهبه له بطريق الأَوْلَى. فتح الباري (5/261).
[6] قال الحافظ ابن حجر: لما أقرَّ النَّبيُّ صلعم عقيلاً على تصرفه فيما كان لأخويه علي وجعفر وللنَّبيِّ صلعم من الدور والرباع بالبيع وغيره، ولم يغيِّر النبيُّ صلعم ذلك ولا انتزعها ممن هي في يده لما ظفرَ، كان في ذلك دلالة على تقرير من بيده دار أو أرض إذا أسلم وهي في يده بطريق الأَوْلَى. فتح الباري (6/211).