التنويه والإشادة بمقام رواية ابن سعادة

التنقلات التي طرأت على هذه النسخة ومصيرها

          التَّنَقُّلاتُ الَّتِي طَرَأَتْ عَلَى هَذِهِ النُّسْخَةِ وَمَصِيرُهَا
          قَدْ عَلِمْتَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهَا بِخَطِّ أَبِي عِمْرَانَ مُوسَى بْنِ سَعَادَةَ، انْتَسَخَهَا أَوَاخِرَ الْقَرْنِ الْخَامِسِ، ثُمَّ صَارَتْ فِي جُمْلَةِ دَوَاوِينِهِ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ سَعَادَةَ، ثُمَّ فِي أَوَّلِ الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَرَ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْعَرَبِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْفَاسِيُّ فِي «الْمِرْآةِ» أَنَّهَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُحَبَّسَةِ عَلَى خِزَانَة الْقُرَوِيِّينَ بِفَاسَ. /
          وَقَدْ يَذْهَبُ النَّظَرُ طَوِيلاً، وَيَتَّسِعُ الْفِكْرُ مَبِيتًا وَمَقِيلاً، فِي تَنَقُّلاَتِهَا فِي مُدَّةِ نَحْوِ أَرْبَعِ مِئَةِ سَنَةٍ مِنْ وَفَاةِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ سَعَادَةَ الَّتِي كَانَتْ سَنَةَ 556 إِلَى أَنْ اعْتَبَرَهَا صَاحِبُ «الْمِرْآةِ» مِنْ أَحْبَاسِ خِزَانَةِ كُتُبِ جَامِعِ الْقُرَوِيِّينَ بِفَاسَ، وَفِي: مَنْ أَخْرَجَهَا مِنَ الأَنْدَلُسِ وَأَدْخَلَهَا لِلْمَغْرِبِ، وَمَنْ حَبَّسَهَا، وَمَا طَرَأَ عَلَيْهَا خِلاَلَ ذَلِكَ؟
          وَيَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمُجَلَّدُ الأَوَّلُ مِنْهَا لأَوْضَحَ لَنَا كَثِيرًا مِنَ الْمُبْهَمَاتِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، لأَنَّ فِي الْغَالِبِ يُوجَدُ عَلَى ظَهْرِهِ [اسْمُ] المُحبِّسِ الأَوَّلِ أَوْ [اسْمُ] الرَّاحِلِ بِهَا إِلَى الْمَغْرِبِ، وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدُ فَيَظْهَرُ لِي أَنْ أَضَعَ بَيْنَ يَدَي الْقَارِئِ فِي ذَلِكَ مَا حَضَرَ وَخَطَرَ، وَلَهُ أَنْ يُرَجِّحَ مَا اقْتَضَتْهُ نَتِيجَةُ الْبَحْثِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسُسِهِ الْمَرْضِيَّةِ.
          مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَوَّلاً أَنَّ هَذِهِ النُّسْخَةَ السَّعَادِيَّةَ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْكُتُبِ الَّتِي بَقِيَتْ بِيَدِ الإِصْبَانِ مُنْذُ اسْتِيلاَئِهِمْ عَلَى مُدُنِ الأَنْدَلُسِ الْكُبْرَى، فَلَمَّا وَفَدَ مَلِكُهُمْ سَانْجَةُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَلِكِ الْمَغْرِبِ وَبَرِّ الْعَدْوَةِ السُّلْطَانِ الْمَنْصُورِ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الْحَقِّ الْمَرِينِيِّ(1)، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ بِأَحْوَازِ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ فَتَطَارَحَا عَلَيْهِ، قَابِلاً لِسَائِرِ شُرُوطِهِ، رَاضِيًا بِعِزِّ الإِسْلاَمِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ سَنَةَ 684هِجْرِيَّةً = 1285مِيلاَدِيَّةً.
          قَالَ الْوَلِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ(2) فِي ص210 ج7 مِنَ «الْعِبَرِ»: وَسَأَلَ مِنْهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْعَث مِنْ كُتِبِ الْعِلْمِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى مُنْذُ اسْتِيلاَئِهِمْ عَلَى مُدُنِ الإِسْلاَمِ، فَاسْتَكْثَرَ مِنْ أَصْنَافِهَا فِي ثَلاَثَةَ عَشَرَ حِمْلاً بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، فَوَقَفَهَا السُّلْطَانُ بالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَسَّسَهَا بِفَاسَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ. انْتَهَى.
          وَعِبَارَةُ ابْنُ أَبِي زَرْعٍ فِي «الْقِرْطَاسِ» ص264 طَبْعَةِ / فَاسَ الأُولَى مَعْنًى مَا نَصُّهُ: وَلَمَّا صَرَفَهُ إِلَى بِلاَدِهِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِمَا يَجِدُهُ فِي بِلاَدِهِ بِأَيْدِي النَّصَارَى وَالْيَهُودِ مِنْ كُتِبِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَاحِفِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مِنْهَا بِثَلاَثَةَ عَشَرَ حِمْلاً، فِيهَا جُمْلَةٌ مِنَ الْكُتُبِ كَكِتَابِ اللهِ الْعَزِيزِ وَتَفْسِيرِهِ لابْنِ عَطِيَّةَ وَالثَّعَالِبِيِّ، وَمِنْهَا كُتُبُ الْحَدِيثِ وَشُرُوحُهَا كَـ «التَّهْذِيبِ» وَ«الاسْتِذْكَارِ»، وَكُتُبُ الأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالأَدَبِ وَغَيْرِهَا، فَأَمَرَ بِهَا ☼ فَحُمِلَتْ إِلَى مَدِينَةِ فَاسَ، فَحَبَّسَهَا عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ بالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَ بَنَاهَا نَفَعَهُ اللهُ بِقَصْدِهِ. انْتَهَى مِنْهُ.
          وَقَدْ كَانَتْ وُضِعَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ بالْمَدْرَسَةِ الْمَرِينِيَّةِ، ثُمَّ ضُمَّتْ كُتُبُهَا وَكُتُبُ غَيْرِهَا مِنَ الْمَدَارِسِ الْفَاسِيَّةِ إِلَى خِزَانَةِ الْقُرَوِيِّينَ، بِدَلِيلِ وُجُودِ كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي عَلَى أَوَّلِهَا عَقْدُ تَحْبِيسِهَا عَلَى خَزَائِنِ جَوَامِعِ بِلاَد الأَنْدَلُسِ وَمَدَارِسِ فَاسَ بِمَكْتَبَةِ الْقُرَوِيِّينَ صَارَتْ تُعَدُّ مِنْ كُتُبِهَا.
          وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ النُّسْخَةُ السَّعَادِيَّةُ مِنْ جُمْلَةِ الْكُتُبِ الَّتِي اسْتَلَمَهَا يَعْقُوبُ الْمَرِينِيُّ مِنْ سَانْجَة مَلِكِ الإِصْبَانِ وَأَدْخَلَهَا لِفَاسَ، فَبَقِيَتْ فِي خَزَائِنِهِ إِلَى أَنْ أُلْحِقَتْ بالْكُتُبِ الْمُحَبَّسَةِ عَلَى خِزَانَةِ جَامِعِ الْقُرَوِيِّينَ، وَلاَ يَشُكُّ الْمُتَأَمِّلُ أَنَّ هَذَا الاحْتِمَالَ لا يُسْتَبْعَدُ خُطُورُهُ كَثِيرًا.
          وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ ثَانِيًا أَنْ يَكُونَ دُخُولُ النُّسْخَةِ السَّعَادِيَّةِ لِلْمَغْرِبِ ثُمَّ لِخِزَانَةِ الْقُرَوِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ أَوْلاَدِ ابْنِ حَيُّونَ الصَّدَفِيِّينَ الَّذِينَ وَرَدُوا مِنَ الأَنْدَلُسِ لِفَاسَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الصَّدَفِيَّ كَانَتْ لَهُ مُصَاهَرَةٌ لِمُوسَى بْنِ سَعَادَةَ فَأَخَذَ ابْنَتَهُ، فَقَدْ وَقَعَ فِي رِسَالَةٍ كَتَبَهَا / أَبُو عَلِيٍّ الصَّدَفِيُّ لأَبِي مُحَمَّدٍ الرِّكْلِيِّ(3) مَقْدَمَهُ مِنَ الْمَشْرِقِ [كَمَا فِي «مُعْجَمِ أَصْحَابِ أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ»] : وَإِنْ تَفَضَّلْتَ بِمُجَاوَبَتِي فَإِلَى دَانِيَةَ يُدْفَعُ إِلَى بَنِي سَعَادَةَ، وَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ بَلَنْسِيَّةَ جَبَرَهَا اللهُ، تَصَاهَرْتُ الآنَ إِلَيْهِمْ لِمَعْنَى لا يُمْكِنُنِي ذِكْرَهُ، وَبِمَا عَلِمْتَهُ مِنْ مُوصِلِ كِتَابِي، وَذَلِكَ إِنِّي قَدِمْتُ دَانِيَةَ بِإِثْرِ مَا جَرَى عَلَيَّ فِي الْبَحْرِ مِنَ(4) الْغَرَقِ، فَبَالَغَ الْقَوْمُ فِي إِكْرَامِي لِمَعْرِفَةٍ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدِهِمْ بالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَقَدَّرَ اللهُ هَذَا الأَمْرَ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الأَبَّارِ فِي «مُعْجَمِ أَصْحَابِ الصَّدَفِيِّ»: وَلَمْ أَسْمَعْ لَهُ بِعَقِبٍ مِنْ بِنْتِ أَبِي عِمْرَانَ هَذَا سِوَى ابْنَةٍ سَمَّاهَا فَاطِمَةَ، أَوْصَى بِهَا إِلَيْهِ، وَعَوَّلَ فِي تَنْفِيذِ عُهُودِهِ كُلِّهَا عَلَيْهِ، فَقَامَ بِهَا بَعْدَ مَمَاتِهِ قِيَامَهُ بِشُؤونِهَا حَالَ حَيَاتِهِ، وَكَانَ مِنْ كَلاَمِهِ عِنْدَ وَدَاعِهَا (يَعْنِي لَمَّا أَرَادَ حُضُورَ الْمَعْرَكَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتُشْهِدَ ☼): سُنُّوا بِهَا سُنَّةَ الاحْتِرَامِ، وَلاَ تَجْمَعُوا لَهَا بَيْنَ الْيُتْمِ وَالْفِطَامَ؛ فَمَا لَبِثَتْ أَنْ وَرِثَتْ زَهَادَةَ أَبِيهَا، وَأَعْجَبَتْ لَمَّا أَنْجَبَتْ وِلاَدَةَ بَنِيهَا.
          حَدَّثَنِي بِهَذَا وَمَعْنَاهُ مِنْ خَبَرِهَا الْخَطِيبُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَزْدِيُّ، وَهِيَ جَدَّتُهُ أُمُّ أَبِيهِ. انْتَهَى.
          وَقَدْ تَرْجَمَهَا ابْنُ الأَبَّارِ فِي «تَكْمِلَةِ الصِّلَةِ» ص747 فَقَالَ: خَدِيجَةُ بِنْتُ أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ، نَشَأَتْ صَالِحَةً زَاهِدَةً، تَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَتَذْكُرُ كَثِيرًا مِنَ الْحَدِيثِ وَتَكْتُبُ وَتُطَالِعُ، تَزَوَّجَهَا صَاحِبُ الصَّلاَةِ بِمُرْسِيَّةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى ابْنُ بَرْطَلَةَ(5)، فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَغَيْرَهُ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ التِّسْعِينَ وَخَمْسِ مِئَةٍ، وَقَدْ نَيَّفَتْ عَلَى الثَّمَانِينَ. انْتَهَى مِنْهُ.
          وَالْعَجَبُ أَنَّهُ فِي كِتَابِ «التَّكْمِلَةِ» سَمَّاهَا خَدِيجَةَ، وَفِي / «مُعْجَمِ أَصْحَابِ الصَّدَفِيِّ» ص 179 سَمَّاهَا فَاطِمَةَ، وَزَوْجُهَا الَّذِي ذَكَرَهُ بابْنِ بَرْطَلَةَ مِنْ أَهْلِ مُرْسِيَّةَ، وَصَاحِبُ الصَّلاَةِ بِمَسْجِدِهَا الْجَامِعِ. تَرْجَمَهُ ابْنُ الأَبَّارِ ص226 مِنْ «مُعْجَمِ أَصْحَابِ الصَّدَفِيِّ»، وَقَالَ: تُوُفِّيَ 563.
          وَلَمَّا تَكَلَّمَ الأَمِيرُ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ الأَحْمَرِ(6) فِي «تَارِيخِهِ» لِبُيُوتَاتِ فَاسَ عَلَى بَيْتِ بَنِي الغُمَارِيِّ، فَقَالَ: مِنْ غُمَارَةَ، وَغُمَارَةُ مِنَ الْبَرْبَرِ، وَبَيْتُهُمْ بَيْتُ ثَرْوَةٍ، وَلَهُمْ زُقَاقٌ بِفَاسَ يُقَالُ لَهُ فِي الْقَدِيمِ: دَرْبُ الْغُمَارِيِّ بِإِزَاءِ جَامِعِ الْقُرَوِيِّينَ، وَيُقَالُ لَهُ فِي هَذَا الْعَهْدِ: دَرْبُ ابْنِ حَيُّونَ، قَالَ: وَنُسِبَ الدَّرْبُ الْمَذْكُورُ لابْنِ حَيُّونَ الَّذِي حَبَّسَ الرِّقَاعَ عَلَى جَامِعِ الْقُرَوِيِّينَ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ أَنْدَلُسِيٌّ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْعَلاَّمَةِ الْمُدَرِّسِ الْحَافِظِ الْمُحَدِّثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فِيرُّه الصَّدَفِيِّ شَيْخِ الْقَاضِي عِيَاضٍ. انْتَهَى.
          وَدَرْبُ ابْنِ حَيُّونَ عَنْ يَسَارِ الْمَارِّ مِنْ زُقَاقِ الرمان لِبَابِ عَجِيسَةَ(7). انْتَهَى.
          وَمِمَّا يُقَرِّبُ الشِّقَّةَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْحَافِظَ الصَّدَفِيَّ هُوَ حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فِيرُّه بْنِ حَيُّونَ، فَلَعَلَّ هَذَا الْفَرْعَ الْحَيُّونِيَّ الَّذِي كَانَ بِفَاسَ نُسِبَ إِلَى جَدِّ الصَّدَفِيِّ الثَّالِثِ.
          فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ النُّسْخَةَ السَّعَادِيَّةَ كَانَتْ بَقِيَتْ بِيَدِ بِنْتِ أَبِي عَلِيٍّ الصَّدَفِيِّ، لأَنَّهَا بِخَطِّ جَدِّهَا لأُمِّهَا مُوسَى بْنِ سَعَادَةَ وَمُصَحَّحَةٌ عَلَى وَالِدِهَا، وَخَطُّهُ مُكَرَّرٌ فِيهَا، فَبَقِيَتْ بِيَدِهَا إِلَى أَنْ وَرِثَهَا مِنْهَا أَبْنَاؤُهَا الَّذِينَ دَخَلُوا لِفَاسَ باسْمِ أَوْلاَدِ ابْنِ حَيُّونَ الصَّدَفِيِّينَ بَعْدَ إِجْلاَءِ الإِصْبَانِ لَهُمْ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ ذَخَائِرِهِمْ، فَكَمَا حَبَّسُوا الرِّبَاعَ حَبَّسُوا الْكُتُبَ، وَمِنْهَا هَذِهِ النُّسْخَةُ، عَلَى خِزَانَةِ الْقُرَوِيِّينَ.
          وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ، إِذْ لا يُمْكِنُنَا الْجَزْمُ بِأَحَدِ الاحْتِمَالَيْنِ، وَلَوْ وُجِدَ الْمُجَلَّدُ الأَوَّلُ مِنْهَا لأَزَالَ عَنَّا غِيَابَاتِ الشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ. /
          وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ أَصْبَحَتْ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي عَشَر هَذِهِ النُّسْخَةُ السَّعَادِيَّةُ تُعَدُّ مِنْ أَحْبَاسِ خِزَانَةِ الْقُرَوِيِّينَ بِفَاسَ كَمَا شَهِدَ بِهِ صَاحِبُ «الْمِرْآةِ» وَالْهِلاَلِيُّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ كَمَا سَبَقَ عَنْ فِهْرِسَتِهِ.
          وَلاَ زَالَتْ هُنَاكَ إِلَى أَنِ اسْتَعَارَهَا أَوَاخِرَ الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ السُّلْطَانُ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ(8) مِنْ خِزَانَةِ الْقُرَوِيِّينَ حَسْبَمَا اسْتَفَدْتُ ذَلِكَ مِنْ مَكْتُوبٍ كُنْتُ وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ وَزِيرِهِ مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ يُخَاطِبُ فِيهِ قَاضِي فَاسَ لِحِينِهِ الْعَلاَّمَةَ أَبَا عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَلَوِيَّ، فَأُخْرِجَتْ مِنَ الْقُرَوِيِّينَ عَلَى طَرِيقِ الاسْتِعَارَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلاَ زَالَتْ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ عِنْدَ وَلَدِهِ السُّلْطَانِ الطَّيِّبِ الذِّكْرِ أَبِي عَلِيٍّ مَوْلاَي الْحَسَنِ(9) عَلَى طَرِيقِ الإِعَارَةِ، يَصَاحِبَانِهَا فِي أَسْفَارِهِمَا إِذَا سَافَرَا، وَيُدْخِلاَنِهَا إِلَى مَكْتَبَتَيْهِمَا إِذَا حَضَرَا، وَكَانَ لَهَا شَأْنٌ عِنْدَهُمَا يُذْكَرُ، فَاتَّخَذُوا لَهَا صُنْدُوقًا مُغَشًّى مُزَخْرَفًا تَحْمِلُهُ دَابَّةٌ فَارِهَةٌ مَهُولَةٌ فِي مَنْظَرِهَا وَقُوَّتِهَا، تَكُونُ أَمَامَ مَحَفَّةِ الْمَلِكِ فِي أَسْفَارِهِ.
          وَاحْتِرَامُ الْمَلِكَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِـ «الصَّحِيحِ» وَتَيَمُّنُهُمَا بِهِ لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ عَقِيدَةٌ مَوْرُوثَةٌ وَقَاعِدَةٌ جَارِيَةٌ مِنْ لَدُنِّ جَدِّهِمُ السُّلْطَانِ فَخْرِ مُلُوكِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ أَبِي الأَمْلاَكِ الْمَوْلَى إِسْمَاعِيلَ ابْنِ الشَّرِيفِ(10) الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ لِـ «الصَّحِيحِ» أَكْبَرُ وَقْعٍ، وَحَلَّفَ فِيهِ الْعَبِيدَ الَّذِينَ اتَّخَذَهُمْ لَهُ جَيْشًا وَبِطَانَةً وَعُمْدَةً، وَعَصَى الْمِلْكِ، وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيْدٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلعم وَشَرْعِهِ الْمَجْمُوعِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، فَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ نَفْعَلُهُ، وَكُلُّ / مَا نَهَى عَنْهُ نَتْرُكُهُ، وَعَلَيْهِ نُقَاتِلُ، فَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ بالاحْتِفَاظِ بِتِلْكَ النُّسْخَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهَا حَالَ رُكُوبِهِمْ، وَيُقَدِّمُونَهَا أَمَامَ حُرُوبِهِمْ، كَتَابُوتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلاَ زَالَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
          وَمِنْ ثُمَّ سُمُّوا: عَبِيْدَ الْبُخَارِيِّ، وَعُرِفَ عَقِبُهُمْ بالْبَوَاخِرِ إِلَى الآنَ.
          وَمِمَّنْ شَاهَدَ هَذِهِ النُّسْخَةَ السَّعَادِيَّةَ فِي الْمَكْتَبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ بِفَاسَ أَوَاخِرَ الْقَرْنِ الْمُنْصَرِمِ شَيْخُنَا وَخَالُنَا الإِمَامُ أَبُو الْمَوَاهِبِ جَعْفَرُ بْنُ إِدْرِيسَ الْكَتَّانِيُّ(11)، قَالَ فِي فِهْرِسِتِهِ عَقِبِ كَلاَمِ الْهِلاَلِيِّ السَّابِقِ: قُلْتُ: وَهِيَ الآنَ فِي قُبَّةِ النَّصْرِ بِفَاسَ الْجَدِيدِ، رَأَيْتُهَا هُنَاكَ لَمَّا عُيِّنَّا لِتَصَفُّحِ كُتِبِ السُّلْطَانِ هُنَاكَ، لَكِنَّهُ ضَاعَ مِنْهَا سِفْرٌ وَجُعِلَ آخَرُ بَدَلَهُ. انْتَهَى مِنْهَا.
          وَلاَ زَالَتْ هُنَاكَ كُلَّ أَيَّامِ الدَّوْلَةِ الْعَزِيزِيَّةِ(12) وَالْحَفِيظِيَّةِ(13)، وَفِي آخِر مُدَّةِ الْمَوْلَى عَبْدِ الْحَفِيظِ شَاهَدَهَا فِي الْمَكْتَبَةِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّذِينَ دَخَلُوهَا بِقَصْدِ تَصَفُّحِ كُتُبِهَا وَجَعْلِ بَرْنَامَجٍ لَهَا.
          وَمِمَّنْ شَاهَدَهَا إِذْ ذَاكَ هُنَاكَ، وَنَقَلَ لَنَا مِنْهَا صُورَةَ إِجَازَةِ الصَّدَفِيِّ لابْنِ سَعَادَةَ ابْنُ خَالِنَا الْعَالِمُ الْفَاضِلُ أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفرٍ الْكَتَّانِيُّ(14)، وَلاَ زَالَتْ هُنَاكَ إِلَى أَنْ خَرَجَ الْمَوْلَى عَبْدُ الْحَفِيظِ مِنْ فَاسَ فَأَخْرَجَهَا مَعَهُ لِلرِّبَاطِ فِي غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الْمَخْزَنِ وَغَيْرِهِ، وَلَمَّا فَارَقَ الرِّبَاطَ أَصْحَبَهَا أَيْضًا مَعَهُ فِي جُمْلَةِ مَا صَحِبَ، وَلَمَّا مَرَّ مِنْ طَنْجَةَ بَقِيَتْ بَيْنَ كُتُبِهِ، فَأُتِيَ بِهَا لِلرِّبَاطِ لِلْمَكْتَبَة الْعُلْيَا، فَصِينَتْ وَحُفِظَتْ، وَقَدْ مَثُلَتِ الآنَ لِلطَّبْعِ عَلَى الْفَرْعِ الْفُوتُوغْرَافِيِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهَا بِهِمَّةِ رِجَالِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ الآثَارَ قَدْرَهَا، وَيَعْرِفُونَ قِيمَتَهَا التَّارِيخِيَّةِ، وَيَعْرِفُونَ كَيْفَ يُخَلِّدُونَ ذِكْرَهَا، وَقَدْ كُنْتُ أَعْظَمَ سَاعٍ فِي / ذَلِكَ، وَمُنَشِّطَهُ لِعَمَلِهِ، تَقَبَّلَ اللهُ.


[1] هُوَ المَنْصُورُ المَرِينِيُّ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الحَقِّ بْنِ مُحْيُو بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَمَامَةَ المَرِينِيُّ الزَّنَاتِيُّ، أَبُو يُوسُفَ، السُّلْطَانُ المَنْصُورُ باللهِ (607 - 685هـ = 1210 - 1286م) سَيِّدُ بَنِي مَرِينٍ عَلَى الإِطْلاَقِ.
[2] هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، ابْنُ خَلْدُونَ، أَبُو زَيْدٍ، وَلِيُّ الدِّينِ الحَضْرَمِيُّ الإِشْبِيلِيُّ (732 - 808هـ = 1332 - 1406م) الفَيْلَسُوفُ المُؤَرِّخُ، العَالِمُ الاجْتِمَاعِيُّ البَحَّاثَةُ، اشْتَهَرَ بِكِتَابِهِ «العِبَرُ وَدِيوَانُ المُبْتَدَإِ وَالخَبَرِ فِي تَارِيخِ العَرَبِ وَالعَجَمِ وَالبَرْبَرِ»طُبِعَ فِي سَبْعَةِ مُجَلَّدَاتٍ، أَوَّلُهَا «المُقَدِّمَةُ»، وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ أُصُولِ عِلْمِ الاجْتِمَاعِ.
[3] هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دُرَّيٍّ التُّجِيبِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ الرِّكْلِيُّ، مِنْ أَهْلِ سَرَقُسْطَةَ، وَرِكْلَةُ Ricla بَعْضُ أَعْمَالِهَا (000 - 513هـ = 000 - 1119م).
[4] فِي الأَصْلِ: «فِي».
[5] هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ الأَزْدِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، المَعْرُوفُ بابْنِ بَرْطَلَةَ (000 - 563هـ = 000 - 1167م) مِنْ أَهْلِ مُرْسِيَةَ وَصَاحِبُ الصَّلاَةِ بِمَسْجِدِهَا الجَامِعِ.
[6] هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الخَزْرَجِيُّ الأَنْصَارِيُّ النَّصْرِيُّ الغَرْنَاطِيُّ الفَاسِيُّ، أَبُو الوَلِيدِ، المَعْرُوفُ بابْنِ الأَحْمَرِ (000 - 807هـ = 000 - 1404م) وَكِتَابُهُ هُوَ «مَشَاهِيرُ بُيُوتَاتِ فَاسَ» طُبِعَ بالرَّبَاطِ سَنَةَ 1972م، وَفِي مُقَدِّمَةِ المُحَقِّقِ أَنَّ نِسْبَةَ الكِتَابِ كَلِّهِ لابْنِ الأَحْمَرِ لاَ تَصِحُّ، لأَنَّ فِيِه تَوَارِيخُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وَفَاتِهِ.
[7] باب عجيسة، ويقال: باب الجيسة، تحذف العين لكثرة الاستعمال، موضع على مشارف مدينة فاس بالقرب من حصن البستيون، انظر: العبر لابن خلدون 7/35، وصبح الأعشى 5/182، وحديقة الأزهار ص 105.
[8] هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِشَامِ ابْنِ الشَّرِيفِ، الحَسَنِيُّ اليَنْبُوعِيُّ السِّجِلْمَاسِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللهِ (000 - 1290هـ = 000 - 1873م) مِنْ سَلاَطِينِ دَوْلَةِ الأَشْرَافِ العَلَوِيِّينَ السِّجِلْمَاسِيِّينَ فِي المَغْرِبِ الأَقْصَى.
[9] هُوَ الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِشَامِ ابْنِ الشَّرِيفِ، الحَسَنِيُّ اليَنْبُوعِيُّ السِّجِلْمَاسِيُّ، أَبُو عَلِيٍّ (1247 - 1311هـ = 1831 - 1894م) مِنْ سَلاَطِينِ دَوْلَةِ الأَشْرَافِ العَلَوِيِّينَ السِّجِلْمَاسِيِّينَ فِي المَغْرِبِ الأَقْصَى.
[10] هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّرِيفِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّرِيفِ المَرَّاكُشِيُّ الحَسَنِيُّ العَلَوِيُّ الطَّالِبِيُّ، أَبُو النَّصْرِ، المُظَفَّرُ باللهِ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (1056 - 1139هـ = 1645 - 1727م).
[11] هُوَ جَعْفَرُ بْنُ إِدْرِيسَ الحَسَنِيُّ الكَتَّانِيُّ المَالِكِيُّ الفَاسِيُّ، أَبُو المَوَاهِبِ (1246 - 1323هـ = 1830 - 1950م).
[12] أَيْ أَيَّامِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الحَسَنِيِّ العَلَوِيِّ، أَبِي فَارِسٍ (1298 - 1363هـ = 1881 - 1944م) سُلْطَانِ مَرَّاكُشَ وَابْنِ سُلْطَانِهَا.
[13] أَيْ أَيَّامِ عَبْدِ الحَفِيظِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الحَسَنِيِّ العَلَوِيِّ، أَبِي المَوَاهِبِ (1280 - 1356هـ = 1863 - 1937م) مِنْ سَلاَطِينِ الدَّوْلَةِ العَلَوِيَّةِ فِي المَغْرِبِ الأَقْصَى.
[14] هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ إِدْرِيسَ الكَتَّانِيُّ الفَاسِيُّ (1297 - 1334هـ = 1880 - 1916م).