شرح النووي على صحيح البخاري

باب الجهاد من الإيمان

          قال البخاريُّ ⌂ :
          ░26▒ بَابٌ: الجِهَادُ مِنَ الإِيمَانِ (1)


[1] جاء في حاشية الأصل (ز): ((الجهاد ذروة سنام الإسلام وقبته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، والجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.
وجهاد النفس أربع مراتب أيضًا:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل لا ينجيه.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه لمن لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينجيه علمه من عذاب الله تعالى.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله تعالى وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله تعالى.
وإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان، إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: بعده الصبر، قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة: 24] فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
وأما جهاد الكفار والمنافقين فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
وأما جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع فثلاث مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)).
ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة، قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} [البقرة: 218] وكما أن الإيمان فرض على كل أحد ففرض عليه هجرتان في كل وقت: هجرة إلى الله ╡ بالإخلاص والتوحيد والإنابة والتوكل والخوف والرجاء والمحبة والتوبة، وهجرة إلى رسوله صلعم بالمتابعة والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله صلعم فهجرته إلى الله تعالى ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله، وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد.
وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة إذا حصل منهم مقصوده)).
وقال: ((جهاد أعداء الله تعالى في الخارج فرع على جهاد العبد نفسه في ذات الله تعالى، كما قال النبي صلعم: ((المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله)) فجهاد النفس مقدم على جهاد العدو في الخارج، وأصل له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه ويحاربها في الله تعالى لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، وكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله تعالى، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج.)).
وقال: ((المؤمنون مأمورون أن يجاهدوا في الله تعالى حق جهاده، وحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله تعالى، فيكون كله لله وبالله تعالى لا لنفسه ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده، ومعصية أمره، وارتكاب نهيه، فإنه يعد الأماني ويمني الغرور، ويعد الفقر ويأمر بالفحشاء، وينهى عن الهدى والتقى والعفة والصبر، وأخلاق الإيمان كلها، فجاهده بتكذيب وعده، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان، وعدة يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله؛ لتكون كلمة الله هي العليا.
ولم يصب من قال: إن الأمر بالجهاد من الله حق جهاده منسوخ، لظنه أنه تضمن الأمر بما لا يطاق، فحق جهاده: هو ما يطيقه كل عبد في نفسه، وذلك يختلف باختلاف أحوال المكلفين في القدرة والعجز والعلم والجهل، فحق الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيء، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء،))