شرح الأحاديث الأولى من صحيح البخاري

حديث: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة

          الحديث الرابع:
          (موسى بن إسماعيل): / سَمِيَّا نبيَّيْنِ.
          (التُّبوذَكيُّ(1)): بضمِّ التاء المثناة الفوقانيَّة ثمَّ موحَّدة تحتانيَّة وذال معجمة مفتوحة، منسوب إلى موضع، وقيل: من تتبُّع ما في بطن الدَّجاج.
          (عَوَانَةَ): بفتح المهملة والنُّون، واسمه وضَّاح.
          (أبي عَائِشةَ): لا يُعرَف اسمه.
          (سَعِيد بن جُبَيْر): بالمثنَّاة التَّحتانيَّة، وأبوه بضمِّ الجيم، وفتح الموحَّدة التحتانيَّة، وسكون المثنَّاة تحتُ، وراء مهملة، وهو تابعيٌّ جليل، قتله الحجَّاج ظلمًا، نُقِلَ أنَّه لمَّا سقط رأسه؛ هلَّل ثلاثًا، يفصح بها.
          (ابن عبَّاس): ترجمان القرآن، دعا له النَّبيُّ صلعم فقال: «اللَّهمَّ؛ علِّمه الكتاب»، وفي رواية: «فقِّهْه في الدين»، تولَّد بثلاثٍ قبل الهجرة، وليس صحابيٌّ أكثر عنه رواية للفتوى وإن كان أبو هريرة أكثرَهم حديثًا.
          (في قوله): أي: في شأن نزوله ومعناه.
          (تعالى): وعند الأصيليِّ: (╡).
          (يُعَالِج): في «القاموس»: يزاول، والنوويُّ وابن حجر: المعالجة: المحاولة للشيء، والمشقَّة في تحصيله.
          (مِن التنزيل): أي: لأجل القرآن، أو إنزاله عليه، فـ(مِن) تعليليَّة كما قيل.
          (شدَّةً): مفعول به أو مُطلَق؛ أي: معالجةً شديدةً، وهذه الشدَّةُ لثقل الوحي، على ما مرَّ، كذا قرَّروه.
          وأقول: لعلَّ مناسبة ذكرها في بيان الآية الإشارةُ إلى أنَّه صلعم مع هذه الشدَّة كلَّف على نفسه أمرًا آخر شديدًا اهتمامًا، فخفَّف الله عنه، أو أنَّ الشدَّة منشأٌ لخوف الفوت الموجب للتَّحريك، فإنَّ البشر إذا سمع شيئًا عند غاية تأثُّره عن شيء؛ يفوت عنه غالبًا، ويحتمل أن يكون المراد بـ(الشدَّة) هنا مشقَّة ارتكبها، فإنَّه / صلعم التزم الفهم والحفظ والتكلُّم فيما هو كزمان واحد مرارًا متعاقبة، وهو صعب بالوجدان، فالجملة الثانية مبيِّنة للأولى، وعلَّة لها، يؤيِّده ما في «مسلم» وسيجيء في (التفسير): (كان ممَّا يحرِّك به شفتيه)، «فيشتدُّ عليه» بالفاء التفريعيَّة؛ فتدبَّره، فإنَّه معنًى صحيحٌ إن شاء الله، والله أعلم.
          (وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ) وفي بعض النُّسخ وفي «مسلم»: (به)؛ أي: كان رسول الله كثيرًا ما يفعل ذلك، قاله النوويُّ، وصوَّبه ابن حجر، ووجهه: بأنَّ (مِن) إذا وقع بعدها (ما)؛ فهي بمعنى (ربَّما)، ونقله ابن هشام في «المغني» عن جماعة من النحاة، وعليه قول سيبويه: أنَّهم ممَّا يحذفون، لكنَّ الظاهر عنده أنَّ (مِن) في مثله ابتدائيَّة صلةٌ لمحذوف؛ أي: كأنَّهم خلقوا مِن الحذف مبالغة، وقيل: (ما) بمعنى (مَن)؛ فتدبَّره، وقيل: (مِن) ابتدائية؛ أي: العلاج مبدؤه التَّحريك، ورُدَّ بعدم تقدُّم ذكر العلاج في رواية مسلم والمصنِّفِ في (التفسير)، وبتقدُّم الشدَّة على الحركة؛ فتأمَّل.
          وأقول: لا يتعدَّ أن يكون المعنى: وكان المُنزَّل؛ أي: ممَّا يحرِّك الرَّسول به... إلخ، وهو يجري في روايات «الصَّحيحين».
          وحذف ضمير الصلة مع الجارِّ شائع، مع أنَّه قد ثبت على ما مرَّ على أنَّه يجوز أن يكون القرآن محرِّكًا بمعنى أنَّه باعث، فلا حاجة إلى تقدير، ولعلَّه وجهُ صحيحٌ، والله أعلم.
          (شفتيه): ولسانه أيضًا كما ثبت في القرآن وآيات التَّفسير، إلَّا أنَّه اكتفى بأحدهما على طريقة: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81]، أو لأنَّ تحريكَهما بالقرآن مستلزمٌ لتحريك الآخر غالبًا، أو لأنَّ الثاني مِن الواضح / المعلوم.
          أقول: وأختار ذلك؛ لأنَّه هو المدرك بالبصر، سيَّما مع البعد وغاية الإسرار، وكأنَّه أراد الحكاية، وهي إنَّما تستحسن أو تصحُّ في الشفتين، والله أعلم.


[1] في هامش الأصل: (القسطلاني: بدل «التَّبوذكي»: المِنْقَري، قال: بكسر الميم وإسكان النون وفتح القاف؛ نسبةً إلى منقر بن عبيد، انتهى المقصود، فانظر هل له نسبتان؟).