الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة

فصل في فضل الكتابين

          فصل في فضل الكتابين
          ويتضمن فضيلة مصنفيهما
          اتفق الأئمة النقاد، وجهابذة الضبط والإسناد، أهل الرواية والدراية في جميع الأعصار وكافة الأمصار: على صحة البخاري ومسلم، وتواتر عند الكل إمامة مُصنِّفيهما وأمانتهما وتقدمهما في هذا الشأن، وتأهلهما لما انتصبا له، ووفاؤهما بما التزما وادَّعياه من الصحيح المجرد، وأنَّهما من أول من صنَّف فيه كتابيهما، وأنَّهما أصح الكتب بعد القرآن.
          وممن نقل الإجماع على ذلك: / ابن الصلاح والنووي وغيرهما، والأمة في إجماعها(1) معصومة من الخطأ، ولذلك قال إمام الحرمين عبدالملك بن عبد الله بن يوسف الجويني فيما نقله النووي عنه: لو حلف إنسان [بطلاق](2) امرأته أنَّ ما في كتاب البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلعم ، لما ألزمته بالطلاق(3) ولا حنثته، لإجماع المسلمين على صحتهما.
          وحكى ابنُ الصلاح عن أبي نصر السِّجْزِيِّ نحو ذلك في «صحيح البخاري» خاصة.
          قلتُ: وهذا مُتقرر على قواعد العلماء إجماعًا، أنَّ من حلف على صحة أمر وهو يظن صحته، ولم ينكشف بطلانه لا(4) يحنث، لأنَّ الأصل بقاء الزوجية، ولا تبطل لمجرد(5) الاحتمال المرجوح.
          قال ابن الصلاح: ولقائلٍ أن يقول: لا يحنث ولو لم يُجمع المسلمون على صحتهما للشك في الحنث.
          وقال كثيرون: تستحب الرجعة لمن حلف بالطلاق على المظنونات احتياطًا لاحتمال الحنث، وأمَّا الصحيحان فاحتمال فيهما في غاية الضعف فلا تستحب له الرجعة، لضعف احتمال موجبها.
          قال ابن الصلاح: وقد كنت أميل إلى أنَّ ما اتفقا عليه فهو مظنون وأحسبه مذهبًا قويًا، وقد بان لي الآن أنَّه ليس كذلك، وأنَّ الصواب أنه يفيد العلم.
          واختار المحققون: أنَّ ما اتفقا عليه يفيد الظنَّ وهو الوجوب، والعمل بالظن واجبٌ، نقله النووي عنهم وارتضاه، وعلى الجملة فإنَّ فيهما أحاديث متواترة والمتواتر يفيد العلم القطعي، وأحاديث تفيد(6) الظنَّ الراجح وهو مظنَّة الوجوب، وأحاديث يسيرة استُدركت عليهما لانحطاطها عن درجة ما التزماه، وذلك مثل أن يرفع الحديث بعضُ الرواة ويَقِفه الأكثرون، أو يسنده(7) ويرسلوه(8)، أو يختص بزيادة ولا يوافقوه، أو يُخرجا عمن اختُلف في توثيقه، ومنهم ما حمل على الوهم منهما أو من النَقَلة عنهما تارةً في المتن وتارةً في الإسناد، وقد اعتذر الحفاظ المُتقِنون عنهما في جميع ذلك، وَرَدُّوا على المستدرك، وبيَّنوا وجه الصواب وأزاحوا الارتياب، / وعرفوا بعد الجواب عن كل حديث منها على حِدَتِهِ(9) إن لم يكن في شيء من ذلك ما هو مردود بطريق قطعيٍّ ولا إجماعي يعارض به الإجماع القطعي أو السكوتي الحاصل في صحتهما وتلقيهما بالقبول، وكثير من ذلك دخل في المتابعات والشواهد لم يكن أصولًا.
          وقد تقرر أنَّهما لا يخرجان إلا ما لا علَّة له، أو له علَّة غير مؤثرة عندهما؛ وإذا تعارض قولهما وقول الغير رُجِّحا، لما عُلم من تقدُّمهما وتغليظهما في شروطهما، وأما الأوهام على تقديرها فذلك ما لا يمكن الاحتراز عنه، ولا تصح دعوى العصمة منه، فإن صح عنهما شيء من ذلك فهو ما لا نسبَةَ له إلى ما علم منهما من الحفظ والتيقظ والضبط والإتقان الذي لا ينكره إلا جاهل بالعلوم النقلية، أو ساعٍ في هدم القواعد الكلية، وليسا سواءً من سعى في تسليم الإجماع ومن يعارضه بسيِّئ الطباع والله الموفق.
          ثم إنَّ الصحيح عند نُقَّاد علم(10) الأثر أنَّ «صحيح البخاري» أصح الكتابين وأكثرهما فوائد، وأنَّ مصنفه أجلُّ الرجلين، وقد أخذ عنه مسلم ورجع إليه هو وغيره من جِلَّة مصنفي أمهات كتب الحديث، وصاروا أتباعًا(11).
          وقد اختص مسلم بأنَّه إذا خرَّج حديثًا جمع طرقه كلها بأسانيده المسددة(12) المتعدِّدة وألفاظه المختلفة، في مكان واحد، فيسهل على الناقل منه نقله؛ فقد غلط كثيرون في النقل من البخاري، حيث ادعوا انفراد مسلم بأحاديث لم يروها في «صحيح البخاري»، وقد بحثوا عنها في مظانها السابقة إلى أفهامهم، وقد ذكرها في موضع آخر أو مواضع.
          واعلم أنَّ البخاري ومسلمًا لم يدَّعيا استيعاب الصحيح كله، ولا ادعاه أحدٌ لهما(13)، وقد روينا عن البخاري أنَّه خرَّج كتابه من مئة ألف حديث صحاح، وعنه(14) قال: ما أدخلت في كتابي إلا ما صح، وتركت من الصحاح حتى لا يطول الكتاب.
          (15) وعن مسلم أنَّه قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه.
          وعنه قال: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمئة ألف حديث مسموعة. /
          وقد قسَّم المحدثون الصحيح أقسامًا أعلاها: ما اتفق عليه البخاري ومسلم(16)، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما على شرط مسلم، ثم الصحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما.
          قال الشيخ محيي الدين النَّووي: والصواب أنَّه لم يَفُتْ الأصول الخمسة إلا اليسير يعني من الصحيح وهي الصحيحان، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي.
          فصل
          ولد البخاري سنة أربع وتسعين(17) ومئة ببخارى، وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بَرْدَزَبه(18) الجعفي.
          أسلم جده المغيرة على يد اليمان الجعفي والي بُخارى، فنسب إليه؛ ولإسماعيل والد(19) الجعفي رواية، وقد ذكره ولده(20) في «تاريخه الكبير»، وذكره ابن حبان في «الثقات»(21)، وكان فاضلًا، رُوي أنَّه قال عند موته: لا أعلم في مالي حرامًا ولا شبهة.
          ومات ومحمد صغير، وعَمِي بصره في صغره، فرأت أمه إبراهيم الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فقال: يا هذه قد ردَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك فأصبح بصيرًا، وكان مولعًا بتحفُّظ الحديث وحفظ(22) في حال تعلُّمه القرآن؛ وحج في حجر أمِّه وأخيه أحمد فرجعا، وأقام بمكة مجاورًا، وهي(23) أول رحلة وذلك سنة عشر ومائتين.
          ثم رحل بعدها إلى جميع الآفاق، ولقي الرجال، وأدرك العلوم، وساعده الوقت، وبارك الله في ساعات عمره، وعَلَت همته، فصنَّف كتاب: «قضايا الصحابة والتابعين» وهو ابن ثماني عشرة سنة.
          ثم صنَّف كتاب: «التاريخ الكبير» في مسجد النبي صلعم ، وصنَّف «الأدب المفرد»، و«رفع اليدين في الصلاة»، و«برّ الوالدين»، والتاريخين: الأوسط والصغير، وكتاب الضعفاء، والتفسير للكتاب، وكتاب الأشربة، وكتاب الهبة، وكتاب العلل، وكتاب الكنى، وغيرها.
          وصنَّف «الجامع الصحيح» بعد تَرَوِّيهِ في علوم الحديث، وكان ابتداءُ تصنيفه وترصيف أبوابه بالمسجد الحرام، روينا عنه قال: خرَّجته من ستمئة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلتُه حجةً فيما بيني وبين الله تعالى.
          وعنه قال: ما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى، / وصليت ركعتين، وتيقنت صحته.
          وعنه أنَّه حوَّل تراجمه بين قبر النبي صلعم ومنبره، وصلى لكل ترجمة ركعتين، ولما فرغ منه عرضه على مشايخه: كعلي بن المَدِيني، ويحيى بن مَعِين، وأحمد بن حنبل وغيرهم، فشهدوا له بالصحة.
          قال الحاكم أبو أحمد: وكل من عمل بعده فإنَّما أخذ من كتابه، كمسلم طرق أكثر كتابه(24) وتجلد فيه حق الجلادة، حيث لم ينسبه إليه. وجملة من سمعه منه ما رويناه عن الفِرَبْرِي قال: سمعه منه تسعون ألفًا لم يبق من يرويه غيري.
          أما مشايخه الذين كتب عنهم: روى محمد بن حاتم عنه قال: كتبتُ عن ألف وثمانين نفسًا، ما(25) فيهم إلا صاحب حديث، وجملتهم خمس طبقات: الأولى: مَنْ حدَّث عن التابعين وهم أهل الثلاثيات، ثم تناقص العدد بعدهم رجلًا رجلًا.
          وقد أثنى عليه مشايخه وأقرانه والآخذون عنه بما يطول شرحه، واتسقت له المبشرات من الأثبات الثقات، وصار حفظه، وأمانته، وعدالته، وديانته، معلومًا غير موهوم.
          توفي [ليلة](26) عيد الفطر سنة ست وخمسين ومئتين، عن اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر(27) يومًا؛ وخلَّف ولدًا ذكرًا.
          روي عن عبد الواحد بن آدم الطوسي قال: رأيت النبي صلعم في النوم ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع، فسلمت عليه فرد عليَّ السلام، فقلت: ما وقوفك هنا يا رسول الله؟ فقال: أنتظر محمد بن إسماعيل. فبلغني موته بعد أيام، فسألت: فإذا هي الساعة التي رأيت فيها النبي صلعم ، وكان موته بخرتنك قرية من قرى سمرقند.
          وأما مسلم:
          فهو أبو الحسين(28) مسلم بن الحجاج بن مسلم، القشيري نسبًا، النيسابوري بلدًا، أحد حفاظ الدنيا المشار إليهم، وأهل الأمانات في الرواية والدراية المتفق / عليهم.
          رحل إلى الآفاق وأدرك الرجال، وبعض الطبقة الثانية من مشايخ البخاري، وله التصانيف العديدة المفيدة، منها كتابه(29) الصحيح الذي أبان عن قوة حفظه وتضلعه في هذا الشأن، فإنَّه جاء فيه بصناعات في الأسانيد، واحترازات عن التدليس والكذب، وتلخيص الطرق، قلَّ من يتطلع عليها ويهتدي إليها، نبَّه عليها الشراح المتقنون، والحذاق المعتنون، وأعقبه ذلك ذكرًا جميلًا وثناءً حسنًا نبيلًا إلى يوم الدين.
          ومنها كتاب: «المسند الكبير» على أسماء الرجال، وكتاب «الجامع الكبير» على الأبواب، وكتاب «العلل»، وكتاب «أوهام المحدثين»، وكتاب «التمييز»، وكتاب «من ليس له إلا راو واحد»، وكتاب «طبقات التابعين»، وكتاب «المخضرمين» وغيرها.
          وشمائله وثناءُ الأئمة عليه باب واسع يحتمل كراريس.
          توفي⌂ عشية الأحد، ودُفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب، سنة إحدى وستين ومائتين عن خمس وخمسين سنة، ودفن بنيسابور، رضي الله عنه ورحمه أمين(30). /


[1] في (ص) : «اجتماعها».
[2] زيادة من (ص).
[3] في (ص) : «الطلاق».
[4] في (ص) : «لم».
[5] في (ص) : «ولا يبطل بمجرد».
[6] في (ص) : «يفيد».
[7] في (ص) : «يسندوه».
[8] في (ص) : «أو يرسلوه».
[9] في (ص) : «حدثه».
[10] في (ص) نقص: «علم».
[11] في (ص) زيادة: «له».
[12] في (ص) نقص: «المسددة».
[13] في (ص) : «ولا ادعاه لهما أحد».
[14] في (ص) نقص: « خرج كتابه من مائة ألف حديث صحاح، وعنه».
[15] في (ص) زيادة: «وعنه قال: خرجت كتابي من مائة ألف حديث صحاح».
[16] في (ص) : «ما اتفقا». ونقص: «البخاري ومسلم».
[17] في (ص) : «سبعين».
[18] في (ص) : «يردويه».
[19] في (ص) : «ولد».
[20] في (ص) : «ذكر مولده».
[21] في (ص) : «ابن حيان». ونقص: «في الثقات».
[22] في (ص) : «حفظه».
[23] في (ص) : «مجاورا بمكة وهو».
[24] في (ص) : «في كتابة».
[25] في (ص) نقص: «ما».
[26] ما بين معقوفتين زيادة من (ص).
[27] في (ص) : «أشهر».
[28] في (ص) : «الحسن».
[29] في (ص) : «الجامع الصحيح».
[30] في (ص) نقص: «آمين».