مشارق الأنوار على صحاح الآثار

منهج تصنيف الكتاب

          ولمَّا أجمَع عَزمي على التَّفرُّغ له وقتاً من نهاري وليلي، وأن أَقسِمَ له حَظَّاً من تكاليفي وشُغلي، رأيتُ تَرتِيبَ تلك الكَلماتِ
          على حرُوفِ المُعجَم أيسَر للنَّاظر وأقرَب للطَّالبِ، فإذا وقَف قارِئ كتابٍ منها على كَلمةٍ مُشكِلةٍ، أو لَفظةٍ مُهمَلةٍ؛ فزِع إلى الحرفِ الَّذي في أوَّلها إن كان صحيحاً، وإن كان من حرُوف الزَّوائدِ أو العِلَل ترَكَه وطلَب الصَّحيحَ، وإنْ أشكَلَ وكان مُهمَلاً طلَب صُورَته في سائر الأبوابِ الَّتي تُشبِهه حتَّى يقَعَ هنالك.
          فبدَأتُ بحَرفِ الألفِ وختَمتُ بالياءِ على تَرتيبِ حرُوفِ المُعجَم عندنا، ورتَّبتُ ثاني الكَلِمة وثالثها من ذلك الحرفِ على ذلك التَّرتيب، رغبةً في التَّسهيل للرَّاغب والتَّقريبِ / .
          وبدَأتُ في أوَّل كلِّ حَرفٍ بالألفاظِ الواقِعَة في المُتونِ المُطابقة لبابه على التَّرتيب المَضمُون، فتَولَّينا إتقان ضَبطِها بحيثُ لا يَلحَقها تصحِيفٌ يُظلِمها ولا يبقَى بها إهمالٌ يُبهِمها.
          فإن كان الحرفُ ممَّا اختَلَفت فيه الرِّواياتُ نبَّهنا على ذلك، وأشَرنا إلى الأرجَحِ والصَّوابِ هنالك، بحُكمِ ما يوجَد في حديثٍ آخر رافعٍ للاختِلاف، مُزيحٍ للإشكالِ، مُريحٍ من حيرَةِ الإبْهامِ والإهْمالِ، أو يكونُ هو المَعرُوفَ في كلامِ العَربِ، أو الأشهرَ، أو الأليقَ بمَساق الكلام والأظهَرَ، أو نصَّ من سبَقنا من جَهابِذَة العُلماء وقدوة الأئمَّة على المُخطئ والمُصحَّف فيه، وأدْرَكناه بتَحقيقِ النَّظرِ وكَثرةِ البَحثِ على ما نتقَبَّله من مَناهِجِهم ونَقتَفيه.
          وترجَمنا فصلاً في كلِّ حَرفٍ على ما وقَع فيها من أسماءِ أماكِنَ من الأرضِ وبلادٍ يُشكِل تَقيِيدها، ويقلُّ مُتقِنُ أسامِيها ومُجِيدُها، ويقَعُ فيها لكَثيرٍ من الرُّواة تَصحِيفٌ يَسمُج، ونبَّهنا معها على شرْحِ أشْباهِها من ذلك الشَّرحِ.
          ثمَّ نَعطِف على ما وقَع في المُتونِ في ذلك الحرفِ بما وقَع في الإسناد من النَّصِّ على مُشكِل الأسماءِ والألقابِ، ومُبهَم الكُنى والأنساب، وربَّما وقَع منه مَن جرى ذكرُه في المَتنِ فأضَفْناه إلى شَكلِه من ذلك الفنِّ.
          ولم نتتبَّع ما وقَع في هذه الكتُب من مُشكلِ اسم مَن لم يجرِ في الكتاب إلا كُنيَتُه أو نسَبُه، وكُنية مَن لم يُذكَر في الكتاب إلَّا اسمُه أو لقَبه؛ إذ ذلك خارجٌ عن غرَضِ هذا التَّأليفِ ورَغبةِ السَّائلِ، وبحرٌ عميقٌ لا يكاد يُخرَج منه إلى ساحلٍ، وفي هذا الباب كتُبٌ جامعةٌ كثيرةٌ، وتصانيفُ مَبسُوطة ومُقتَضبة شَهِيرة.
          وقد انتُقِد على الشَّيخِ أبي عَليٍّ في كتابه ذِكْرُ أشياءَ من ذلك لم تُذكَر في الكِتابَين بحالٍ، ولو أعطَى فيها التَّأليفَ حقَّه لاتَّسع كتابُه وطال، وفي ذِكْر البَعضِ قدحٌ في حُسنِ التَّأليفِ وغضٌّ، كترجمة الجزَّار والخزَّاز والخرَّاز، وذكَر من يُعرَف بذلك ممَّن في «الصَّحيحين»، وليس فيها من هذه الألقاب مذكوراً حقيقَةً غير يحيى بن الجزَّار، وأبو عامر الخزَّاز، ومَن عداهما فإنَّما فيهما ذكرُ اسمهِ أو كُنيتهِ دون نِسبَتِهِ بذلك، وكذلك ذكَر في الأسماء: بُور وثَور وثُوَب، وليس في «الصَّحيحين» من هذه الأسماء إلَّا ثور وحدَه! وغيرِ ذلك في أسماءٍ وكُنًى ذُكِرت فيه، وإنَّما ذكرنا هاتين التَّرجمتين مِثالاً لعشراتٍ مِثلها. /
          وذكَرنا في آخرِ كلِّ فَصلٍ من فُصُول كلِّ حرفٍ ما جاء فيه من تَصحيفٍ، ونبَّهنا فيه على الصَّوابِ والوجهِ المَعروفِ، ودعت الضَّرُورة عند ذِكْر ألفاظ المُتون وتقويمها إلى شَرحِ غريبها، وبيانِ شيءٍ من معانيها ومَفهُومها، دون تَقصٍّ لذلك ولا اتِّساعٍ، إلَّا عند الحاجة لغمُوضه، أو الحجَّةِ على خلافٍ يقَع هنالك في الرِّواية أو الشَّرحِ، ونِزاعٍ، إذ لم نضَع كتابنا هذا لشَرح لُغةٍ، وتفسير مَعانٍ، بل لتَقويمِ ألفاظٍ وإتقانٍ، وإذ قدِ اتَّسعنا بمِقدار ما تفضَّل الله به وأعان عليه في شَرحنا لكتاب «صحيح مسلم» المسمَّى بـــ: «الإكمال».
          وشذَّت عن أبواب الحرُوف نُكَتٌ مُهمَّة غرِيبَة لم تَضبِطها تراجمها؛ لكونها جملَ كلمات يضطرُّ القارئ إلى مَعرفةِ ترتيبها وصحَّة تَهذِيبها، إمَّا لما دخَلَها من التَّغييرِ والإبهامِ، والتَّقديمِ والتَّأخيرِ، أو أنَّه لا يُفهَم المراد بها إلَّا بعد تَقديمِ إعراب كلماتها، أو سُقوط بَعضِ ألفاظها، أو تَركه على جهة الاختصار ولا يُفهَم مراد الحديث إلَّا به، فأفْرَدنا لها في آخر الكِتاب ثلاثة أبوابٍ:
          أوَّلها: في الجُملِ الَّتي وقَع فيها التَّصحيفُ وطَمَس معناها التَّلفيفُ، إذ بيَّنا مُفرَداتِ ذلك في تراجِمِ الحرُوفِ.
          الباب الثَّاني: في تَقويمِ ضَبطِ جُمَلٍ في المُتُون والأسانيدِ، وتَصحيحِ إعرَابِها، وتحقيقِ هِجاء كِتَابها، وشَكلِ كَلِماتها، وتَبيِينِ التَّقديمِ والتَّأخيرِ اللَّاحقِ لها؛ ليَستَبينَ وجهُ صَوابها، ويَنفَتحَ للأفْهامِ مُغلَقُ أبوَابِها.
          الباب الثَّالث: في إلحاق ألفاظٍ سقَطت من أحاديثِ هذه الأمَّهاتِ، أو من بَعضِ الرِّواياتِ، أو بُتِرت اختصاراً، أو اقتصاراً على التَّقريبِ بطريق الحديثِ لأهلِ العِلْم به، لا يُفهَم مرادُ الحديث إلَّا بإلحاقها، ولا يستَقِل الكلامُ إلَّا باستِدْراكها.
          فإذا كَملَت بحَولِ الله هذه الأغراضُ، وصحَّت تلك الأمراضُ؛ رجَوتُ ألَّا يبقَى على طالبِ مَعرِفةِ الأصُولِ المَذكُورةِ إشكالٌ، وأنَّه يَستَغني بما يجِدُه في كتابنا هذا عن الرِّحلة لمتْقِني الرِّجالِ، بل يَكتَفي بالسَّماع على الشُّيوخِ إن كان من أهلِ السَّماعِ والرِّوايةِ، أو يقتَصِرَ على دَرسِ أصلٍ مُشهُور الصِّحَّة، أو يُصحِّحَ به كتابه، ويَعتَمِد فيما أشكَل عليه على ما هاهنا إن كان من طالبي التَّفقُّه والدِّرايةِ.