مشارق الأنوار على صحاح الآثار

الدافع لتصنيف الكتاب

          وقد وقَع من ذلك في هذه الأمَّهاتِ ما سنُوقِف عليه، ونشيرُ في مَظَانِّه إليه، وهي الطَّريقةُ السَّليمةُ، ومذاهبُ الأئمَّة القويمة. فأمَّا الجَسارَةُ فخَسارَةٌ، فكثيراً ما رأينا من نبَّه بالخطأ على الصَّوابِ فعكَس الباب، ومن ذهَب مَذهَب الإصلاحِ والتَّغيير فقد سلَك كلَّ مَسلكٍ في الخطأِ، ودلَّاه رأيُه بغُرورٍ.
          وقد وقَفتُ على عجائبَ في الوجهَين، وسَننبِّه من ذلك على ما ترى فيه العِبرَ، ونتَحقَّقُ من تحقيقه أنَّ الصَّوابَ مع من وقَف وأحْجَم، لا مع من صمَّم وجسَر.
          وتَتأمَّل في هذه الفُصول ما تكلَّمنا عليه، وتكلَّم عليه الأشياخُ والحفَّاظُ، فيما أصلَحه أبو عبدِ الله بنُ وضَّاحٍ في «المُوطَّأ» على يحيى بنِ يحيى فيمن تقدَّم، وعلى ما أصلَحه القاضي أبو الوليدِ الكِنانيُّ على هذه الكتُب فيمن تأخَّر، وإظهارَ الحُجَج على الغلَط في كثيرٍ من ذلك الإصلاحِ، وبيانَ صحَّة الرِّواية في ذلك من الأحاديثِ الصِّحاحِ.
          وكما وجَدنا مُعظماً من حفَّاظِ المتأخِّرين المَغارِبة أصلاً، البَغداديين نزُلاً، قد روَى حديثَ جُلَيبِيبٍ وقولَ المرأة: «أجُلَيْبِيبٌ إِنِيهِ!» فقيَّده (أَلجُلَيبِيبٍ الابنَةُ!) لما كان الحديثُ في خِطبَة ابنة هذه المَرأةِ، وهي قائِلَةُ هذا الكَلام، ولم ينفَهِم لمن لم يَعرِف معنى «إِنِيهِ»، وإلحاقَ بعضِ العَربِ هذه الزيادةَ الأسماءَ في الاستفهام عند الإنكار؛ ظنَّ أنَّه مُصحَّف من الابنة.
          وكذلك فعَل في حَديثِ جُوَيرِيَة، وشكِّ يحيى بنِ يحيى في سَماعه اسمها في حَديثِه وقوله: (أحسِبُه قال: جُوَيرِيَةَ _أو الْبَتَّةَ_ ابنَةَ الحارِثِ) فقيَّده (أو أَلِيته) بفَتحِ الهمزَةِ وكَسرِ اللَّامِ بعدها يَاء باثنتين تحتها مخفَّفة، وظنَّه اسماً، وأنَّ شَكَّ يحيى بنُ يحيى إنَّما هو في تَغيِير الاسم لا في / إثباته أو سُقوطه، ويحيى إنَّما شكَّ هل سمِعَ في الحديثِ زِيادَة اسمِ جُوَيرِية أو إنَّما سَمِع ابنة الحارث فقط، ثمَّ نفى الشَّكَّ عن نَفسِه بعد قوله: (أحسِبُه قال: جُوَيرِية، فقال: أو الْبتَّة) أي: إنِّي أُحقِّق أنَّه قالها، ومثل هذا في حديث يحيى بنِ يحيى كثيرٌ، وسَنذكُر منه في مَوضِعه إن شاء الله.
          وكذلك روَى حديثَ إدامِ أهلِ الجنَّة: «بَالَامٌ» [خ¦6520] فقال: (باللَّأَى) يعني: الثَّورَ.
          وهكذا وجَدتُ معظماً من شيُوخنا قد أصلَح في كتابه من مُسلمٍ في حديث أمِّ زَرعٍ من رِوايَته عن الحُلوانيِّ عن موسى بنِ إسماعيلَ عن سَعيدِ بنِ سلمَةَ في قوله: «وعَقْرُ جارتِها» فأصلَحه (وعُبْرُ جارَتِها) بالباء وضَمِّ العين اتِّباعاً لما رواه فيه ابنُ الأنباريِّ، وفسَّره بالاعتبار أو بالاستعبار على ما سَنذكُره؛ إذ لم ينفَهِم له ذلك في (عَقْر)، والمعنيان بيِّنان في (عَقْر)؛ إذ هو بمعنى الحيرَة والدَّهَش، وقد يكون بمعنى الهلاك، وكلُّه بمعنَى قوله في الرِّواية المَشهُورة: «وغَيْظُ جارَتِها» [خ¦5189]، وسنبيِّنه في موضعه إن شاء الله بأشبَعَ من هذا في أمثلةٍ كثيرةٍ نَذكُرها في مواضِعِها، إلَّا قصَّة جُلَيبِيبٍ، فهذا اللَّفظ ليس في شيءٍ من هذه الأصُولِ.
          فبحَسب هذه الإشْكَالات والإهمالاتِ في بعض الأمَّهات واتِّفاق بيان ما يَسمَح به الذِّهنُ ويقتَدِحُه الفِكرُ مع الأصحابِ في مجالس السَّماعِ والتَّفقُّهِ، ومَسِيس الحاجة إلى تحقيقِ ذلك ممَّا تكرَّرَ عليَّ السُّؤال في كتابٍ يجمَعُ شَوارِدَها، ويسدِّدُ مَقاصِدَها، ويبيِّنُ مُشكِل مَعناها، ويَنُصُّ اختلافَ الرِّواياتِ فيها، ويُظهِر أحقَّها بالحقِّ وأولاها.
          فنَظرتُ في ذلك فإذا جُمْعُ ما وقَع من ذلك في جماهيرِ تصانيف الحديثِ وأمَّهاتِ مَسانيدِه ومَنشُوراتِ أجزائه يطُولُ ويكثُرُ، وتتبُّع ذلك ممَّا يشقُّ ويعسُر، والاقتصار على تفاريقَ منها لا يرجع إلى ضبطٍ ولا يُحصَر.
          فأَجمَعتُ على تحصيل ما وقَع من ذلك في الأمَّهات الثَّلاثِ الجامعةِ لصحيح الآثار الَّتي أُجمِع على تَقدِيمها في الأعصار، وقبِلَها العلماءُ في سائر الأمصار، كُتُبُ الأئمَّة الثَّلاثة: «المُوطَّأ» لأبي عبدِ الله مالكِ بنِ أنسٍ المَدنيِّ، و«الجامع الصَّحيح» لأبي عبدِ الله محمَّد بنِ إسماعيلَ البُخاريِّ، و«المسند الصَّحيح» لأبي الحسينِ مُسلمِ بنِ الحجَّاجِ النَّيسابوريِّ.
          إذ هي أصولُ كلِّ أصلٍ، ومُنتهَى كلِّ عملٍ في هذا الباب وقولٍ، وقدوةُ مدَّعي كُلِّ قُوَّة بالله في / علمِ الأثر وحولٍ، وعليها مَدارُ أندِيَة السَّماع وبها عمارَتُها، وهي مَبادئ علُوم الآثارِ وغايَتُها، ومصاحفُ السُّنن ومُذاكرَتُها، وأحقُّ ما صُرِفت إليه العِنايةُ وشُغِلت به الهمَّةُ.
          ولم يُؤلَّف في هذا الشَّأنِ كتابٌ مُفرَد تقلَّد عُهدَةَ ما ذكَرناه على أحدِ هذه الكتُب أو غيرها، إلَّا ما صنعه الإمامُ أبو الحسَن عليُّ بنُ عمرَ الدَّارقُطنيُّ في «تَصحيفِ المُحدِّثين»، وأكثرُه ممَّا ليس في هذه الكتُب، وما صنَعه الإمامُ أبو سليمانَ الخَطَّابيُّ في جُزءٍ لَطيفٍ، وإلَّا نُكَتاً مُفتَرقة وقعَت أثناء شرُوحها لغير واحدٍ لو جُمِعَتْ لم تشفِ غليلاً، ولم تَبْلُغ من البُغيَة إلَّا قليلاً.
          فأمَّا ما جمَعه الشَّيخُ الحافظُ أبو عليٍّ الحسينُ بنُ محمَّدٍ الجَيَّانيُّ الغَسَّانيُّ شيخُنا ⌂ في كتابِه المسمَّى بـ: «تَقيِيد المُهمَل»، فإنَّه تقصَّى فيه أكثَر ما اشتَمَل عليه «الصَّحيحان»، وقيَّده أحسَن تقيِيدٍ وبيَّنه غايةَ البيانِ، وجوَّده نِهايةَ التَّجويدِ، لكن اقْتصَر على ما يتعلَّق بالأسماءِ والكُنى والأنسابِ وألقابِ الرِّجالِ، دون ما في المُتونِ من تَغييرٍ وتَصحيفٍ وإشكالٍ، وإن كان قد شذَّ عليه من الكِتابَين أسماء، واّْستدركتُ عليه فيما ذكَر أشياءَ، فالإحاطةُ بيَدِ مَن يعلَم ما في الأرض والسَّماءِ.