هدى الساري لمقدمة فتح الباري

مناسبة الترتيب المذكور بالأبواب المذكورة

          ذكرُ مناسبَةِ الترتيبِ المذكورِ بالأبوابِ المذكورَةِ مُلَخَّصَاً من كلامِ شَيْخِنَا، شيخُ الإسلامِ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ البُلْقِيْنِيِّ تغمَّدهُ اللهُ برحمتهِ:
          قالَ ☺: بدأَ البُخَارِيُّ بقولهِ: كيفَ بِدْءُ الوَحْيِّ؟. ولم يقلْ كِتَابُ الوَحي، ولا كِتَابُ بِدْءِ الوَحي؛ لأنَّ بِدءَ الوحيِّ من بعضِ ما يشتملُ عليهِ الوَحي.
          قلتُ: ويظهرُ لِي أنَّهُ إنما عَرَّاهُ من بابٍ؛ لأنَّ كُلَّ بابٍ يأتي بعدَهُ ينقسمُ منهُ فَهُوَ أُمُّ الأبوابِ فلا يكونُ قَسيماً لهَا، قَالَ: وقدَّمَهُ لأنهُ منبعُ الخيراتِ، وبه قامَتْ الشرائِعُ، وجَاءتْ الرِّسالاتُ، ومنهُ عُرِفَ الإِيْمَانُ والعلومُ، وكانَ أَوَّلُهُ إلى النَّبِيِّ صلعم بِمَا يَقتضي الإِيْمَانَ من القِرَاءَةِ والربوبيةِ وخلقِ الإنسانِ، فذكرَ بعدَ كِتَابِ الإِيْمَانِ، وكانَ الإِيْمَانُ أشرفَ العلومِ فَعَقَّبَهُ بكِتَابِ العلمِ، وبعدَ العلمِ يكونُ العملُ، وأفضلُ الأَعْمَالِ البَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ ولا يتوصلُ إِليها إِلَّا بالطهارةِ، فَقَالَ: كِتَابُ [294/ب] الطَّهَارَةِ، فذكرَ أَنْوَاعها وأَجْنَاسَهَا، وَمَا يصنعُ مَنْ لم يجدْ ماءً ولا تُراباً إلى غيرِ ذلك مِمَّا يشتركُ فيهِ الرِّجَالُ والنِّسَاءُ، وَمَا تنفردُ به النِّسَاءُ، ثم كِتَابُ الصَّلَاةِ وأنواعُهَا، ثم كِتَابُ الزَّكَاةِ على النسبةِ ما جَاءَ في حديثِ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ».
          واختلفَتْ النُّسَخُ في الصومِ والحَجِّ أَيُّهُمَا قبلَ الآخَرِ، وكذا اختلفَتْ الروايةُ في الحَدِيْثِ، وترجمَ عَنْ الحَجِّ بكِتَابِ المَنَاسِكِ ليعمَّ الحَجَّ والعُمْرَةِ وَمَا يتعلقُ بِهِمَا، وكانَ في الغالبِ من يَحُجُّ يجتازُ بالمدينَةِ الشريفَةِ، فذكرَ ما يتعلقُ بزيارَةِ النَّبِيِّ صلعم، وَمَا يتعلقُ بِحَرَمِ المَدَيْنَةِ.
          قلتُ: ظهرَ لِي أن يُقَالَ في تعقيبهِ الزَّكَاةَ بِالحَجِّ: إِنَّ الأَعْمَالَ لما كانَتْ بدنِيَّةً مَحْضَةً وماليَّةً مَحضَةً وبدنيةً مَاليَّةً مَعاً رتَّبها كذلكَ فذكرَ الصَّلَاةَ ثم الزَّكَاةَ ثم الحَجَّ، ولما كانَ الصِّيَامُ هو الركنُ الخامِسُ المذكورُ في حديثِ ابْنِ عُمَرَ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» عَقَّبَ بذكرهِ، وإنما أخَّرَهُ لأنهُ من المتروكِ، والتَّرْكُ وإنْ كانَ عَملاً أيضاً، لكنَّهُ عملُ النَّفْسِ لا عَمَلَ الجَّسَدِ فَلهذا أخَّرَهُ، وإلا لَوْ كانَ اعتمدَ على الترتيبِ الذي في حديثِ ابْنِ عُمَرَ لَقَدَّمَ الصِّيَامَ على الحَجِّ؛ لأنَّ ابْنَ عُمَرَ أنكرَ على مَنْ رَوَى عنهُ الحديثَ بتقديمِ الحَجِّ على الصِّيَامِ، وهو وإنْ كانَ وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ من طريقٍ أُخْرَى كذلكَ فَذَاكَ محمولٌ على أن الرَّاوِي رَوَى عنهُ بِالمعنى، ولم يبلغْهُ نَهْيَهُ عَنْ ذلِكَ، واللهُ أعلمُ.
          وهذهِ التَّرَاجِمُ كُلُّهَا فيها معاملةُ العَبْدِ مع الْخَالِقِ، وبعدَهَا معاملَةُ العَبْدِ مع الخلقِ، فَقَالَ: كِتَابُ البيوعِ. وذكرَ تراجِمَ بيوعِ الأعيانِ ثم بيعُ دينٍ على وجهٍ مخصوصٍ، وهو السَّلَمُ، وكانَ البيعُ قد يقعُ قَهْرِيَّاً فذكرَ الشُّفْعَةَ الَّتي هِيَ بيعٌ قَهْرِيٌّ، ولمَّا تَمَّ الكلامُ على بيوعِ العينِ والدَّيْنِ الاختيارِيِّ والقَهْرِيِّ، وكانَ ذَلكَ قد يقعُ فيهِ غُبْنٌ من أحدِ الجانبينِ إما في ابتداءِ العقدِ أو في مجلسِ العقدِ، وكانَ في البيوعِ ما يقعُ على دَيْنَيْنِ لا يجبُ فيهما قبضٌ في المجلسِ، ولا تعيينُ أَحَدِهِمَا، وهو الحوالَةُ فذكَرَهَا، وكانتْ الحوالَةُ فِيها انتقالُ الدَّينِ من ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ أَرْدَفَهَا بِمَا يَقتضي ضَمَّ ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ أو ضمِّ شيءٍ يُحْفَظُ بهِ العَلَقَةُ، وهو الكفالَةُ والضمانُ، وكانَ الضمانُ شُرِعَ للحفظِ فذكَرَ / الوكالَةَ الَّتي هِيَ حِفْظٌ للمالِ، وكانت الوكالَةُ فيها تُوْكَلُ على آَدَمِيٍّ فأردَفَهَا بِمَا فيهِ التَّوَكُّلُ على اللهِ، فَقَالَ: كِتَابُ الحَرْثِ والمُزَارَعَةِ، وذكرَ فِيها مُتَعَلَّقاتِ الْأَرْضِ، والمواتِ، والغَرْسِ، والشربِ، وتوابعِ ذلِكَ، وكانَ في كثيرٍ من ذلكَ يقعُ الإِرْفَاقُ فعقبَهُ بكِتَابِ الاسْتقرَاضِ لما فيهِ من الفَضْلِ والإرفاقِ، ثم ذكرَ العَبْدَ راعٍ في مالِ سَيِّدِهِ ولا يعملُ إِلَّا بإذنِهِ للإعلامِ بمعاملةِ الأَرِقَّاءِ، فلما [295/أ] تمتْ المعاملاتُ كانَ لا بُدَّ أن يقعَ فِيْهَا من منازعاتٍ فذكرَ الأشخاصَ، والملازمَةَ، والالتقاطَ، وكانُ الالتقاطُ وضعُ اليَدِ بالأمانَةِ الشرعِيَّةِ فذكرَ بعدَهُ وضعَ اليَدِ تَعَدِّيَاً، وهو المظالمُ، والغَصْبُ، وعَقَّبَهُ بِمَا قد يظنُّ فيه غصبٌ ظاهِرٌ، وهو حَقٌّ شَرْعِيٌّ، فذكرَ وضعَ الخشبِ في جدارِ الجارِ، وصبَّ الخمرِ في الطريقِ، والجُلُوْسُ في الأَفْنِيَةِ، والآبارُ في الطريقِ، وذكرَ في ذلكَ الحقوقَ المشتركَةَ، وقد يقعُ في الاشتراكِ نُهْبَى فترجَمَ النُّهْبَى بغيرِ إذنِ صَاحِبِهِ.
          ثم ذكرَ بعدَ الحقوقِ المشتركَةِ العامَّةِ الاشتراكَ الخاصَّ، فذكرَ كِتَابَ الشَّرِكَةِ وتَفاريعَهَا، ولما أنْ كانَتْ هذه المعاملاتُ في مَصَالِحِ الخلقِ ذكرَ شَيئاً يتعلقُ بِمَصَالِحِ المعامَلَةِ، وهي الرهْنُ، وكانَ الرَّهْنُ يحتاجُ إلى فكِّ رَقَبَةٍ، وهو جائزٌ من جهةِ المرتهِنِ لازمٌ من جهَةِ الرَّاهِنِ أردفَهُ بالعتقِ الذي هو فكُ الرَّقَبَةِ، والْمُلْكُ الذي يترتبُ عليهِ جائزٌ من جهةِ السيدِ لازِمٌ من جهةِ العَبْدِ، فذكرَ متعلقاتَ العتقِ من التدبيرِ والولاءِ وأُمِّ الوَلَدِ والإِحْسَانِ إلى الرقيقِ وأحكامِهِمْ ومُكَاتَبَاتِهِمْ.
          ولمَّا كانَتْ الكِتَابةُ تَستدعي إِيتاءً بقولهِ تعالَى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور:33] فأردَفَهُ بكِتَابِ الهِبَةِ، وذكرَ مَعَهَا العُمْرَى والرُّقْبَى، ولما كانَتْ الهِبَةُ نقلُ مُلْكِ الرَّقَبَةِ بلا عِوَضٍ أردفَهُ بنقلِ المنفعةِ بلا عوضٍ، وهو العَارِيَّةُ والمَنِيْحَةُ، ولما تَمَّتْ المعاملاتُ وانتقالُ الْمُلْكِ على الوجوهِ السابِقَةِ، وكانَ ذلك قد يقعُ فيه تنازعٌ فيحتاجُ إلى الإشهادِ فَأَرْدَفَهُ بكِتَابِ الشهادَاتِ، ولما كانَتْ البيناتُ قد يقعُ فيها تعارضٌ تَرْجَمَ القُرْعَةَ في المُشكلاتِ، وكانَ ذلك التعارضُ قد يَقتضي صُلْحَاً، وقد يقعُ بلا تعارضٍ ترجمَ كِتَابَ الصُّلْحِ، ولما كانَ الصُّلْحُ قد يقعُ فيه الشرطُ عَقَّبَهُ بالشروطِ في المعاملاتِ، ولما كانتْ الشروطُ قد تكونُ في الحياةِ وبعدَ الوفاةِ تَرْجَمَ كِتَابَ الوَصِيَّةِ والوَقْفِ.
          ولما انتهى ما يتعلقُ مع الْخَالِقِ في العباداتِ، ثم ما يتعلقُ بالمعاملاتِ مع الخَلْقِ أَردفها بمعاملةٍ جامعَةٍ بينَ معاملةِ الْخَالِقِ، وفيها نوعُ اكتسابٍ فترجَمَ كِتَابَ الجِهَادِ؛ إِذْ بِهِ يَحْصُلُ إعلاءُ كلمةِ اللهِ، وإذلالُ الكُفَّارِ بقتلِهم واسترقَاقِ نِسَائِهِمْ وصِبْيَانِهِمْ ومَجَانِيْنِهِمْ وعَبيدهم، وغنيمةِ أَمْوَالِهِمْ والعقارِ والمنقولِ، والتخييرِ في كَامِلِهِمْ، وبدأَ بفضلِ الجِهَادِ ثم ذكرَ ما يَقتضي أنَّ الْمُجَاهِدَ يَنبغي أن يَعُدَّ نفسَهُ في القَتلى فترجمَ بابَ التَّحَنُّطِ عِنْدَ القتالِ، وقريبٌ منهُ مَنْ ذَهَبَ لِيأتي بخبرِ العدوِّ، وهو الطليعَةُ، وكانَ الطليعَةُ يحتاجُ إلى ركوبِ الخيلِ فذكرَ أحوالَ الخيلِ ثم ذكرَ من الحيوانِ ما له خصوصيةٌ، وهو بغلَةُ النَّبِيِّ صلعم وناقَتُهُ، وكانَ الجِهَادُ في الغالبِ للرجالِ، وقد [295/ب] يكونُ النِّسَاءُ مَعهم تِبْعَاً فترجمَ أحوالَ النِّسَاءِ في الجِهَادِ، وذكرَ بَاقي ما يتعلقُ بالجِهَادِ، ومنها آلاتُ الْحَرْبِ وهَيئتها، والدُّعَاءُ قبلَ القتالِ، وكلُّ ذلكَ من آثارِ بِعثتهِ العامَّةِ فترجَمَ دعاءَ النَّبِيِّ صلعم النَّاسَ إلى الْإِسْلَامِ، وكانَ عَزْمُ الإمامِ على النَّاسِ في الجِهَادِ إِنَّمَا هُوَ / بحسبِ الطَّاقَةِ فترجمَ عَزْمَ الإمامِ على النَّاسِ فيما يطيقونَ وتوابعُ ذلك، وكانَتْ الاستعَانَةُ في الجِهَادِ تكونُ بِجُعْلٍ أو بغيرِ جُعْلٍ فترجمَ الجعائلَ، وكانَ الإمامُ يَنبغي أنْ يكونَ أَمَامَ القومِ فترجَمَ المبادرَةَ عِنْدَ الفَزَغِ، وكانَتْ المبادَرَةُ لا تمنعُ من التوكلِ، ولا سِيَّمَا في حقِّ مَن نُصِرَ بالرُّعْبِ، فذكرَهُ وذكرَ مُبادَرَتَهُ، على أنَّ تَعَاطِي الأسبابِ لا يقدحُ في التوكُّلِ فترجَمَ حَمْلَ الزادِ في الغَزْوِ، ثم ذكرَ آدابَ السَّفَرِ، وكانَ القادمونَ من الجِهَادِ قد تكونُ معهم الغنيمَةُ فترجمَ فَرْضَ الخُمْسِ، وكانَ ما يؤخذُ من الكفارَةِ تارةً يكونُ بالْحَرْبِ، ومَرَّةً بالْمُصَالَحَةِ فذكرَ كِتَابَ الجِّزْيَةِ وأحوالَ أهلِ الذِّمَّةِ، ثم ذكرَ تراجِمَ تتعلَّقُ بالموادَعَةِ، والعَهْدِ، والحَذَرِ من الغَدْرِ، ولما تَمَّتْ المعاملاتُ الثلاثُ، وكُلُّهَا من الوَحي المترجمِ عليهِ بدء الوَحي، فذكرَ بعدَ هذهِ المعامَلاتُ بِدءَ الخَلْقِ.
          قلتُ: ويَظْهَرُ لِي أنهُ إِنَّمَا ذكرَ بِدْءَ الخلقِ عَقِبَ كِتَابِ الجِّهَادِ؛ لمَّا أنْ كانَ الجِّهَادُ يشتملُ على إزهاقِ الأَنْفُسِ فأرادَ أن يذكرَ أن هذهِ المخلوقاتِ مُحْدَثَاتٌ، وأنَّ مَآلَهَا إلى الفناءِ، وأنَّهُ لا خلودَ لِأَحَدٍ، انتهى.
          ومن مناسبتِهِ ذِكْرُ الجنَّةِ والنَّارِ اللتينِ مآلُ الخَلْقِ إِليهِمَا، وناسبَ ذِكْرَ إبليسَ وجُنُوْدِهِ عَقِبَ صِفَةِ النَّارِ؛ لأنَّهُمْ أَهْلُهَا، ثم ذكرَ الجِّنَّ، ولما كانَ خلقُ الدَّوَابِ قبلَ خَلْقِ آَدَمَ عَقَّبَهُ بِخَلْقِ آَدَمَ، وترجَمَ الأَنْبِيَاءَ نَبِيَّاً نَبِيَّاً على الترتيبِ الذي يَعْتَقِدْهُ، وذكرَ فِيهم ذا القَرْنَيْنِ؛ لأنَّهُ عندَهُ نَبِيٌّ، وأنهُ قبلَ إِبْرَاهِيْمَ، ولهذا تَرْجَمَ بعدَ تَرجمتِهِ ذِكْرُ إِبْرَاهِيْمَ، وذكرَ ترجمَةَ أَيُّوْبَ بعدَ يُوْسُفَ لِمَا بَيْنَهُمَا من مناسبةِ الابتلاءِ، وذكرَ قولهُ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتي كانتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الْأَعْرَاف:163] بعد قِصَّةِ يُوْنُسَ؛ لأنَّ يُوْنُسَ الْتَقَمَهُ الحُوْتُ فكانَ ذلك بَلْوَى لهُ فصبَرَ فَنَجَا، وأولئكَ ابْتُلُوْا بحيتانٍ فَمنهُم من صبرَ فَنَجَا، ومِنهم من تَعَدَّى فَعُذِّبَ، وذكرَ لُقْمَانَ بعدَ سُلَيْمَانَ؛ إِمَّا لأنهُ عِنْدَهُ نَبِيٌّ، وإما لأنَّهُ من جملَةِ أَتْبَاعِ دَاوُدَ ◙، وذكرَ مَرْيَمَ؛ لأنَّهَا عندَهُ نبيَّةٌ، ثم ذكرَ بعدَ الأَنْبِيَاءِ أشياءَ من العَجَائِبِ الواقعَةِ في زَمَنِ بَني إِسْرَائِيْلَ.
          ثُمَّ ذكرَ الفضائلَ والمناقبَ المتعلقةَ بهذهِ الأمةِ، وأنهم لَيسوا بأنبياءَ مع ذلكَ، وبَدَأَ بِقُرَيْشٍ؛ لأنَّ بِلِسَانِهِم أُنْزِلَ الكِتَابُ، ولما ذكرَ أَسْلَمَ وغِفَارَاً ذكرَ قَريباً منهُ إِسْلَامَ أَبِي ذَرٍّ؛ لأنَّهُ أولُ مَنْ أَسْلَمَ من غِفَارٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أسماءَ النَّبِيِّ صلعم وشَمَائِلَهُ وعلاماتِ نُبُوَّتِهِ [296/أ] في الإسلامِ، ثم فضائلَ أَصْحَابِهِ، ولما كانَ المُسْلِمونَ الذين اتَّبَعُوْهُ وسَبَقُوْا إلى الإسلامِ هم المهاجرونَ والْأَنْصَارُ، والمهاجرونَ مُقَدَّمُوْنَ في السَّبْقِ تَرْجَمَ مناقبَ المهاجرينَ، ورَأْسَهُمْ أَبُوْ بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ، فذكرَهُمْ ثم أَتْبَعَهُمْ بمناقبِ الْأَنْصَارِ وفَضَائلهم، ثم شَرَعَ بعدَ ذِكْرِ مَناقِبِ الصَّحابَةِ في سياقِ سِيَرِهِمْ في إعلاءِ كلمةِ اللهِ تَعَالى مع نَبِيِّهِمْ، فذكرَ أولاً أشياءَ من أحوالِ الجَاهِلِيَّةِ قبلَ البِعْثَةِ ثم البِعْثَةُ الَّتي أَزَالَتْ الجَاهِلِيَّةَ، ثم ذكرَ أَذَى المُشركينَ لِلنَّبِيِّ صلعم وأصحَابِهِ، ثم ذكرَ أحوالَ النَّبِيِّ صلعم بِمَكَّةَ قبلَ الهجرةِ إلى الحبشَةِ، ثم الهجرةُ إلى الحبشَةِ، وأحوالُ الْإِسْرَاءِ وَغَيْرُ ذلكَ، ثم الهجرةُ إلى المدينةِ النَّبويةِ، ثم ساقَ الْمَغَازِي على ترتيبِ ما صَحَّ عندَهُ، وبدأَ بإسلامِ ابْنِ سَلَّامٍ تَفَاؤُلَاً بالسلامَةِ في الْمَغَازِي، ثم بعدَ إيرادِ الْمَغَازِي والسَّرَايَا ذكرَ الوفودَ، ثم حِجَّةَ الوداعِ، ثم مَرَضَ النَّبِيِّ صلعم ووفاتِهِ، وَمَا قُبِضَ صلعم إِلَّا وشَرِيْعَتُهُ كامِلَةٌ بيضاءُ نَقِيَّةٌ، وكِتَابُهُ قد كَمِلَ نُزُوْلُهُ، فأعقبَ ذلك بكِتَابِ التَّفْسِيْرِ، ثم ذكرَ عَقِبَ ذلكَ فضائلَ القرآنِ ومُتَعلقاتِهِ وآدابَ تِلَاوَتِهِ، وكانَ ما يتعلَّقُ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ من الْحِفْظِ والتَّفْسِيْرِ وتقريرِ الأحكامِ يحصلُ بهِ حفظُ الدينِ في الأقطارِ، واستمرارُ الأحكامِ على الأعصارِ، وبذلكَ تحصلُ الحياةُ المعتبرَةُ أعقبَ ذلك بِمَا يحصلُ بهِ النَّسْلُ والذُّرِّيَةُ الَّتي يقومُ مِنْهَا جيلٌ بعد جيلٍ / يحفظونَ أحوالَ التنزيلِ فَقَالَ: كِتَابَ النِّكَاحِ، ثم أعقبَهُ بالرَّضَاعِ لما فيهِ من متعلقاتِ التحريمِ بِهِ، ثم ذكرَ ما يحرُمُ من النِّسَاءِ وَمَا يَحِلُّ، ثم أردفَ ذلكَ بالمصاهَرَةِ، والنِّكَاحِ المُحَرَّمِ، والمكروهِ، والخطبةِ، والعقدِ، والصَّدَاقِ، والوَلي، وضربِ الدُّفِّ في النِّكَاحِ، والوليمَةِ، والشُّرُوْطِ في النِّكَاحِ، وبقيةِ أحوالِ الولِيمَةِ، ثم عِشْرَةِ النِّسَاءِ، ثم أَرْدَفَهُ بكِتَابِ الطَّلاقِ، ثم ذكرَ أنكحَةَ الكُفَّارِ، ولما كانَ الإيلاءُ في كِتَابِ اللهِ مَذْكُوْرَاً بعد نكاحِ المشركينَ ذكرَهُ البُخَارِيُّ عَقِبَهُ، ثم ذكرَ الظِّهَارَ، وهو فرقةٌ مؤقتةٌ، ثم ذكرَ اللِّعَانَ، وهو فرقةٌ مؤبَّدَةٌ، ثم ذكرَ العِدَدَ والمراجعَةَ، ثم ذكرَ حكمَ الوِطء من غيرِ عَقْدٍ، لما فرغَ من توابعِ العقدِ الصَّحِيْحِ، فَقَالَ: مهرُ البَغِيِّ والنِّكَاحُ الفَاسِدُ. ثم ذكرَ المُتْعَةَ، ولما انتهتْ الأحكامُ المتعلقَةُ بالنِّكَاحِ، وكانَ من أحكامِهِ أمرٌ يتعلقُ بالزوجِ تَعَلُّقَاً مُسْتَمِرَّاً، وهو النفقةُ ذَكَرَهَا.
          ولما انقضَتْ النَّفقاتُ، وهي من المأكولاتِ غَالباً أردَفَ كِتَابَ الأطعمَةِ، وأحكامَهَا، وآدَابَهَا، ثم كانَ من الأطعمَةِ ما هو خاصٌّ فذكرَ الْعَقِيْقَةَ، وكانَ ذلكَ مما يحتاجُ فيهِ إلى ذبحٍ فذكرَ الذبائِحَ، وكانَ من المذبوحِ ما يُصَادُ فذكرَ أحكامَ الصيدِ، وكانَ من الذبحِ ما يُذْبَحُ في العامِ مَرَّةً فَقَالَ: كِتَابُ الأَضَاحِي، وكانَتْ المآكلُ تَعَقَّبَهَا المشاربَ، فَقَالَ: كِتَابُ الأَشْرِبَةِ، وكانتْ المأكولاتِ [296/ب] والمشروباتِ قد يحصلُ مِنْهَا في البَدَنِ ما يحتاجُ إلى طبيبٍ فَقَالَ: كِتَابُ الطِّبِّ، وذكرَ تَعَلُّقَاتِ المرضِ، وثوابَ المَرْضَى، وَمَا يجوزُ أَنْ يُتَدَاوَى بِهِ، وَمَا يجوزُ من الرُّقَى، وَمَا يُكْرَهُ مِنْهَا ويَحْرُمُ، ولما انْقَضَى الكلامُ على المأكولاتِ والمشروبَاتِ، وَمَا يزيلُ الدَّاءَ المتولِّدَ مِنْهَا أردَفَ بكِتَابِ اللِّبَاسِ والزِّيْنَةِ، وأحكامِ ذلِكَ، والطِّيْبِ، وأنواعِهِ، وكانَ كثيرٌ مِنْهَا يتعلقُ بآدابٍ في النَّفْسِ فَأَرْدَفَهَا بكِتَابِ الأدبِ، والبِرِّ، والصِّلَةِ، والاستئذانِ، ولما كانَ السَّلاَمُ والاستئذانُ سَبَبَاً لفتحِ الأبوابِ السُّفْلِيَّةِ أَرْدَفَهَا بالدَّعواتِ الَّتي هِيَ فتحُ الأبوابِ العُلْوِيَّةِ.
          ولما كانَ الدُّعَاءُ سببَ المغفرَةِ ذكرَ الاسْتِغْفَارَ، ولما كانَ الاسْتِغْفَارَ سَبَبَاً لهدمِ الذُّنُوْبِ قَالَ: بابُ التَّوْبَةِ، ثم ذكرَ الأذكارَ الموقتَةَ وَغَيْرَهَا، والاستعاذَةَ، ولما كانَ الذكرُ والدعاءُ سَبباً للاتِّعَاظِ ذكرَ المواعِظَ والزهدَ، وكَثيراً من أحوالِ يومِ القِيَامَةِ، ثم ذكرَ ما يبيِّنُ أن الأمورَ كُلَّهَا بتصريفِ الله تعالى فَقَالَ: كِتَابُ القَدَرِ، وذكرَ أحوالَهُ، ولما كانَ القَدَرُ قد تُحَالُ عليهِ الأشياءُ المنذورَةٌ قَالَ: كِتَابُ النَّذْرِ، وكانَ النذرُ فيهِ كَفَّارَةٌ فأضافَ إليهِ الأيْمَانَ، وكانَتْ الأيْمَانُ والنُّذُوْرُ تحتاجُ إلى الكَفَّارَةِ فَقَالَ: كِتَابُ الكفارَةِ، ولما تَمَّتْ أحوالُ النَّاسِ في الحياةِ الدُّنْيَا ذكرَ أَحوالَهُمْ بعدَ الموتِ فَقَالَ: كِتَابُ الفرائضِ فذكرَ أَحْكَامَهُ، ولما تَمَّتْ الأحوالُ بغيرِ جِنَايَةٍ ذكرَ الجناياتِ الواقعَةِ بينَ النَّاسِ فَقَالَ: كِتَابُ الحدودِ، وذكرَ في آخرِهِ أحوالَ المرتدينَ، ولما كانَ المرتَدُّ قد لا يَكْفُرُ إذا كانَ مُكْرَهَاً قَالَ: كِتَابُ الإكراهِ، وكانَ المُكْرَهُ قد يضمرُ في نفسِهِ حيلةً دافِعَةً فذكرَ الحيلَ، وَمَا يحلُّ مِنْهَا، وَمَا يَحْرُمُ.
          ولما كانَتْ الحِيَلُ فيها ارتكابُ ما يَخْفَى أدرفَهُ بتعبيرِ الرُّؤْيَا؛ لأنها مِمَّا يَخْفَى، وإن ظهرَ للمُعَبِّرِ، وقالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الْإِسْرَاء:60] فأعقبَ ذلك بقولهِ: كِتَابُ الفِتَنِ، وكانَ من الفتنِ ما يرجعُ فيهِ إلى الحُكَّامِ فَهُمْ الذين يَسْعُوْنَ في تسكينِ الفِتْنَةِ غَالباً فَقال: كِتَابُ الأحكامِ، وذكرَ أحوالَ الأمراءِ والقُضَاةِ، ولما كانَتْ الإمَامَةُ والحُكْمُ قد يَتَمَنَّاهَا قومٌ أَرْدَفَ ذلكَ بكِتَابِ التَّمَنِّي، ولما كانَ مَدَارُ حُكْمِ الحُكَّامِ في الغالِبِ على أخبارِ الآحادِ قَالَ: ما جَاءَ في إجازَةِ خبرِ الْوَاحِدِ الصَّدُوْقِ، ولما كانَتْ الأحكامُ كُلُّهَا / تحتاجُ إلى الكِتَابَةِ والسنَّةِ، قَالَ: الاعتصامُ بالكِتَابِ والسنَّةِ، وذكرَ أحكامَ الاستنباطِ من الكِتَابِ والسُّنَّةِ والاجتهادِ، وكراهيَةِ الاخْتِلَافِ، وكانَ أصلُ العِصْمَةِ أَوَّلَاً وآخَرَاً هو توحيدُ اللهِ فختمَ بكِتَابِ التوحيدِ، وكانَ آخرُ الأمورِ الَّتي يظهرُ بِهَا المفلحَ من الخاسِرِ ثِقْلُ الموازينِ وخِفَّتُهَا فجعلَهُ آخرَ تراجمِ كِتَابِهِ، فَقَالَ: بابُ قولِ اللهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِيْنَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] وأنَّ أعمالَ بَنِي آَدَمَ تُوْزَنُ فَبَدَأَ بحديثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وختمَ بأنَّ أعمالَ بَنِي آَدَمَ تُوْزَنُ، [297/أ] وأشارَ بِذَلكَ إلى أنَّهُ إِنَّمَا يثقلُ مِنْهَا ما كانَ بالنيةِ الخالصَةِ للهِ تَعالى، وهو حديثُ: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» فقولُهُ: كلمتَانِ، فيهِ ترغيبٌ وتخفيفٌ، وقولهُ: حَبِيْبتانِ، فيهِ حَثٌّ على ذِكْرِهِمَا لمحبَّةِ الرَّحْمَنِ إِيَّاهُمَا، وقولُهُ: خَفْيْفَتَانِ، فيهِ حَثٌّ بِالنِّسْبَةِ إلى ما يتعلقُ بالعمَلِ، وقولُهُ: ثَقِيْلَتَانِ، فيهِ إظهارُ ثَوَابِهِمَا، وجاءَ الترتيبُ بِهَذَا الحديثِ على أسلوبٍ عظيمٍ، وهو أَنَّ حُبَّ الرَّبِّ سَابِقٌ، وذكرَ العَبْدِ وخِفَّةُ الذِّكْرِ على لسانِهِ تَالٍ، وبعدُ ذلك ثوابُ هَاتينِ الكلمتينِ إلى يومِ القِيَامَةِ، وهَاتَانِ الكلمتانِ مَعْنَاهُمَا جَاءَ في ختامِ دُعَاءِ أهلِ الجِّنَانِ لقولِهِ تَعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يُوْنُس:10] انتهى كلامُ الشَّيْخِ مُلَخَّصَاً، ولقد أَبْدَى فيهِ عجائِبَ ولطائِفَ جَزَاهُ اللهُ خَيْرَاً بِمَنِّهِ. /