الفوائد الدراري في ترجمة الإمام البخاري

الثالث: مناقب أهل الحديث

          البَابُ الثَّالثُ / فيما وردَ في أهلِ الحديثِ، ومنهم البُخاري السَّاعي سَعيَهم بالسَّير الحثيثِ.
          اعلمْ أنَّ جميعَ ما وردَ في أهلِ الحديثِ والأثرِ، وبيان تفضيلهم، وما قيل فيهم فيما غبَرَ وحضَرَ، ثابتٌ إن شاء الله تعالى للإمام البخاريِّ ☺ كما عُلم ممَّا مرَّ من ذكر بعض سيرته المرضية.
          فممَّا وردَ في ذلك ما رواه الترمذيُّ عن ابنِ مسعود ☺ قال: قال رسولُ الله صلعم : ((نضَّرَ الله امرأً سمِعَ مَقَالتي فحفِظَها ووعَاهَا وأدَّاهَا، فرُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هوَ أفقَهُ منهُ)).
          ورواهُ الشَّافعي والبيهقيُّ، وكذا رواهُ البزَّار بإسنادٍ حسنٍ، وابن حبَّان في ((صحيحه)) عن زيد بن ثابت ☺ ، وروي عن معاذ بن جبلٍ، والنُّعمان بن بشيرٍ، وأبي قِرْصَافَة، وأبي الدَّرداء، وغيرهم.
          ورواه الحاكمُ في ((مستدركه)) عن جُبير بن مُطْعم، وقال: صحيحٌ على شرط الشَّيخين.
          ورواه(1) أبو داود والترمذيُّ بلفظ: ((نضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ منَّا شيئاً، فبلَّغَه كمَا سمعَهُ، فرُبَّ مبَلَّغٍ أوْعَى مِن سامِعٍ)) قال الترمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ.
          وفي رواية صحيحةٍ للترمذيِّ أيضاً: ((نضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ مَقَالتِي فوعَاهَا، فأدَّاهَا كمَا سمِعَها)).
          وفي رواية له صحيحةٍ أيضاً: ((نضَّرَ اللهُ امرَأً سمِعَ منَّا حدِيثاً، فأدَّاهُ عنَّا كمَا سمعَهُ، فرُبَّ مبَلَّغٍ أوْعَى مِن سامِعٍ)).
          وفي أُخْرى له صحيحة: ((نضَّرَ اللهُ رجُلاً سمِعَ منَّا كلمَةً فبَلَّغَها كمَا سمِعَها، فرُبَّ مبَلَّغٍ أوْعَى مِن سامِعٍ)).
          وعن أبي سعيد الخدريِّ ☺ عن النبيِّ صلعم / أنه قال في حجَّة الوداع: ((نضَّرَ اللهُ امرأً سمِعَ مَقَالتِي فوعَاهَا، فرُبَّ حامِلِ فقْهٍ ليسَ بفَقِيه)).
          قال ابن حجرٍ المكِّي في ((شرح الأربعين)): وليس في قوله: ((فوَعَاها فأدَّاها كما سمِعَها)) منعٌ لروايَةِ الحديثِ بالمعنى بشروطِهِ، خلافاً لمن زعمَهُ؛ لأنَّ المراد: أدى حُكْمَها لا لَفْظَها؛ بدليل قوله في آخر الحديث: ((فربَّ حامل فقهٍ غير فقيه، وربَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه))؛ إذ الفقه اسم للمعنى، لا للفظِ، انتهى.
          وقوله في الحديث: ((فربَّ حامل فقه...)) إلخ.
          ربَّ: حرف عند جمهورِ البصريين، خلافاً للكوفيين، والأخفش في أحدِ قوليه، واختارَهُ الرَّضي في دعواهم اسميَّتَه مستدلِّين بأنه أخبر عنه في قوله:
إِنْ يَقْتُلوكَ فإنَّ قَتْلَكَ لمْ يَكُنْ                     عَاراً عَلَيْكَ ورُبَّ قَتْلٍ عَارُ
          وردَّهُ في ((المغني)) بأن (عار) خبر لمحذوفٍ، والجملة صفة لمجرور (ربَّ)، وبأنه خبر للمجرور بها؛ إذ هو في موضعِ مبتدأ، ولها صدرُ الكلام.
          وليس معناها التَّقليل دائماً، خلافاً للأكثرين، ولا التَّكثير دائماً، خلافاً لابن درستويه وجماعة، ولا التَّقليل في أكثرِ الأوقات، خلافاً لقومٍ، ولا التَّكثير في موضعِ المباهاةِ والافتخارِ دون غيره، خلافاً لفرقة، ولا الإثبات دون تقليلٍ أو تكثيرٍ بحسب الوضْعِ، وإنما ذلك مستفادٌ من السِّياق، خلافاً لآخرين.
          واختار في ((المغني)) أنها تردُ للتَّكثير كثيراً، وللتَّقليل قليلاً، وهو في ذلك تابعٌ لابن مالك في ((تسهيله)) حيث قال فيه: وليست اسماً، خلافاً للكوفيين والأخفش في أحد قوليه، بل هي حرفُ تكثير وفاقاً لسيبويه، والتَّقليل بها نادر.
          واختار ابنُ الحاجبِ في ((كافيته)) / أنها للتَّقليل، قال الجامِي: وهذا أصلها، ثم تستعملُ في معنى التَّكثير كالحقيقةِ، وفي التَّقليل كالمجازِ المحتاجِ إلى قرينة، انتهى.
          وقوله: ((نَضَر)) بفتح النون والضاد المعجمة الخفيفة(2)، ورجَّحه بعضُهم، وجرى عليه الرُّوياني في ((بحره)).
          وروي بتشديد الضاد، بل قال النَّووي: وهو الكثيرُ من النُّضْرة، وهي الحسنُ والرَّونق، والمعنى: خصَّه الله بالبُهْجة والسُّرور؛ لأنَّه سعَى في نضارَةِ العلمِ وتجديدِ السنَّة فجازاهُ رسولُ الله صلعم من دعائهِ له بما يُناسبُ حاله في المعاملَةِ، ولأنَّ من حفظَ ما سمعَهُ وأدَّاه كما سمعَه من غير تغيير، كأنه جعلَ المعنى غضًّا طريًّا.
          وقال بعضهم: معنى الحديث: أوصله الله تعالى إلى نضرة الجنَّة، وهو نعيمها، قال الله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}[المطففين:24].
          وقال بعضٌ آخر: ليس هذا من الحُسْن في الوجهِ، وإنما معناه: حسَّنَ الله وجهَهُ في الناس؛ أي: جاهَهُ وقدرَهُ فيهم، فهو مثل قوله صلعم : ((اطلبُوا الخيرَ _وفي روايةٍ: الحوائجَ_من حسانِ الوجوه))، يعني: من وجوهِ الناس، وذوِي الأقدارِ.
          وردَّه ابنُ حجر المكي بأنه بعيدٌ، مخالفٌ للظَّاهر من غير حاملٍ عليه، قال: وليس نظير حديث: ((اطلبُوا الحوائج)) لذكرهِ الوجوهَ فيه المحتمل؛ لأن يرادَ بها جمع وجْهٍ من الوجاهَةِ، وهي التَّقدم وعلو القدر.
          وحكى ابنُ العربي عن ابن بشْكُوال أنه بالصاد المهملة، وهو شاذٌّ، انتهى.
          وعلى الصاد المهملة، فهو بتخفيفها، وفي رواية: ((أنضر)) بهمزة أوله، وبالضاد المعجمة.
          واعلمْ أنَّه وردَ حديث: ((اطلبُوا الخيرَ عندَ حسانِ الوجوهِ)) برواياتٍ مختلفةٍ من طرقٍ كثيرةٍ، عن أنس، وجابر، وعائشة، وابن عباس، وغيرهم، وهي وإنْ كانت ضعيفة، فليس الحديث بموضوع، بل هو مشهور، قد يكتسبُ الحسن لغيره، لتعدُّد طُرُقه، وقد استوفينَاهَا وألفاظه برواياته وما قيل فيه قديماً وحديثاً من نظمهِ في ((كشف الخفاء ومزيل الإلباس))، وقد قلتُ في ذلك متشبِّهاً بهم:
يا مَنْ سَبَى بالحُسْنِ كُلَّ فَقِيهِ                     واستُجمِعَتْ عُلْيَا المَكَارمِ فيهِ
جُدْ لي بخَيْرٍ فهُوَ خيرٌ قدْ أَتَى                     فيهِ حدِيثٌ صَالحٌ نَرْويهِ
مَا أنَّ معْنَاهُ اطْلُبُوا مِنْ خَيْرِكُم                     الخيرَ أَعْنِي من حِسَانِ وُجُوهِ
          وقيل: خصَّ الفقهَ بالذكرِ دون العلم؛ للإشعار بأن الحامل له ليس بعارٍ من العلم؛ إذ الفقه / : العلمُ بدقائق العلوم المستنبَطَةِ من الأقيسةِ، ولو قال: غيرُ عالم، لزمَ جهله، انتهى.
          وما ذكرَهُ في معنَى الفقهِ خلافُ الراجحِ المشهورِ من أنه العلمُ مطلقاً فقهاً كان أو لا؛ فقد قالوا: الفقه لغةً: الفهمُ مطلقاً، وقيل: فهمُ ما دقَّ من المعنى، واصطلاحاً: العلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّة العمليَّة، المكتسب منْ أدلَّتها التفصيليَّةِ.
          ولا يختص إشعار الحديث بما ذكر على القيلِ، بل يبقَى الإشعار المذكور، وإن حمل الفقه على المشهور، وإن أوهمَه كلامُ بعضهم على أنَّ قوله: ((غير عالم)) مساوٍ لقوله: ((ليس بفقيهٍ))، فتدبر(3).
          وقد نظم بعضُهم هذا الحديث عاقداً له بقوله:
مَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الحدِيْثِ فَإنَّهُ                     ذو نُضْرةٍ في وجْهِهِ نُورٌ سَطَعْ
إِنَّ النَّبيَّ دَعَا بنُضْرَةِ وجْهِ مَنْ                     أَدَّى الحدِيثَ كمَا تحَمَّلَ واستَمَعْ
          ويحتملُ الحديثُ أن يكون إخبَاراً من النبيِّ صلعم بنضرَةِ وجهِ أهل الحديث، وقد عقدَهُ بعضُهم على وجه يحتَمِلُ الدُّعاءَ والإخبارَ، حيث قال:
انظرْ لحفَّاظِ أنْبَاءِ النَّبيِّ تَجِدْ                     مَا لا نظيْرَ لهُ مِنْ نُضْرةِ النَّظَرِ
هَذِي الرِّياضُ لكُمْ قدْ زُخْرِفَتْ كَرَماً                      مِنْ رَبِّكُم فارْتَعُوا في مُلْكِ مُقْتَدِرِ
وبَادِرُوا وابْذُرُوا فيْهَا بِذَارَ تُقًى                     تَجْنُوا بدَارِ بَقَاءٍ أطْيَبَ الثَّمَرِ
واستَمْطِرُوا رحْمَةَ اللهِ الكَرِيمِ عَلى                      رُوْحِ البُخَارِي راوِيْ أرْجَح الأثَرِ
          ومما ينسبُ للجلال السُّيوطي مبيناً فيه سرَّ نضَارةِ وجوهِ أهل الحديث، وقد أجادَ حيث أفاد:
أهْلُ الحَدِيثِ لهُمْ مَفَاخِرُ ظاهرَة                     وهُمُ نجُومٌ في البرِيَّةِ زَاهِرَة
في كلِّ عَصْرٍ قدْ ثَوَوا تَلْقَاهُمُ                     حَقًّا لأَعْدَاءِ الشَّرِيعَةِ قاهِرَة
بالنُّورِ قدْ مُلِئتْ حُشاشَةُ صَدْرِهم                     فَلِذَا وجُوهُهُم تَرَاهَا ناضِرَة /
          وممَّا وردَ من الأحاديثِ الدَّالة على فضلِ أهلِ الحديثِ ما رواه الطَّبراني في ((الأوسط)) عن ابن عبَّاس ☻ قال: قال رسولُ الله صلعم : ((اللَّهمَّ ارحَمْ خُلَفَائي)) قلنا: يا رسولَ الله! ومن خلفَاؤكَ؟ قال: ((الذين يَرْوونَ أحادِيثِي ويُعَلِّمونَها الناسَ)).
          ولا يخفَى أنَّ أداءَ السُّنن وتعليمها للمسلمين نصيحة لهم، وهي من وظائفِ الأنبياءِ والمرسلين ╫ أجمعين، فمَن قامَ بذلك، كان خليفةً لمن يبلغ عنه، وكما أنَّ الأنبياء ‰ لم يهملوا أعداءهُم من النَّصيحة، كذلك لا يليقُ ولا ينبغِي لطالبِ الحديثِ وناقلِ السنَّة أن يمنحَهَا أصدقاءَه فقط، ويمنعَها من أعدائهِ، فعلى العالم بالسنَّة أن يجعلَ أكبرَ همِّه وأعظمَه نشرهَا وتبليغها للناسِ، فقد أمرَ النبيُّ صلعم بالتبليغِ عنه، حيث قال فيما رواه البُخاري وأحمد والترمذيُّ عن ابنِ عمر[و] ☻ مرفوعاً: ((بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثُوا عن بَنِي إسرائيلَ ولا حرَجَ، ومَنْ كذَبَ عليَّ متَعَمِّداً، فليَتَبوَّأْ مقْعَدَهُ مِن النَّار)).
          قال المُظْهِري: أي: بلِّغوا عنِّي أحاديثي، ولو كانت قليلة. وقال البيضاويُّ: قال في الحديث: ولو آية، ولم يقل ولو حديثاً؛ لأنَّ الأمرَ بتبليغِ الحديثِ يفهمُ منه بالطَّريق الأولى؛ فإنَّ الآيات مع شُهْرتها وانتشارِهَا وكثرةِ حملتها، تكفَّلَ الله تعالى بحفظِهَا وصونِهَا عن الضَّياع والتَّحريف، فإذا أمرَ بتبليغِهَا، وهي بهذه المثابةِ، فالحديثُ / أولى.
          وقال الإمامُ مالكٌ ⌂ : بلغني أنَّ العلماءَ يُسألون يوم القيامة عن تبليغِهِم العلم كما يُسأل الأنبياء ╫ .
          وقال سفيان الثَّوري: لا أعلمُ علماً أفضلَ من طلبِ الحديث لمَن أرادَ به وجْهَ الله تعالى؛ فإن الناس يحتاجونَ إليه، حتى في طعامِهِم وشرابهم، فهو أفضلُ من التَّطوع بالصَّلاة والصوم؛ لأنَّه فرضُ كفايةٍ ولأنَّ نفعَه متعدٍّ(4).
          ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عَمرو بن العاص ☻ : أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((العلمُ ثلاثةٌ: آيةٌ محكمَةٌ، أو سنَّةٌ قائمةٌ، أو فريضَةٌ عادِلةٌ، وما سِوى ذلك، فهو فضْلٌ)).
          قال في ((شرح المشكاة)): التعريفُ في العلمِ للعهدِ، وهو ما عُلِمَ من الشَّارع، وهو العلمُ النافعُ في الدين، وحينئذٍ فالعلمُ في الحديث مطلقٌ، فينبغِي تقييدُهُ بما يُفْهم منه المقصُود، فيقال: علم الشَّريعة معرفةُ ثلاثة أشياء: آيةٌ... إلخ، قال: والمرادُ بالآيةِ المحكمَةِ: كتاب الله تعالى، وما يتوقَّف عليه.
          قال: لأنَّ المُحْكَمة هي الَّتي أحكمتْ عبارتها، بأن حُفظتْ من الاحتمالِ والاشتباه، فكانت أمَّ الكتاب، فتُحمل المتشابهات عليها وترد إليها، ولا يتمُّ ذلك إلا للماهرِ في علمِ التَّفسير والتَّأويلِ، الحائز لمقدِّمات يفتقرُ إليها من الأصلين وأقسام العربيَّة، ويحتمل أن يرادَ بالآية المحكمة ما لم يُنسخْ؛ لأنها محكمةٌ لبقاء حكمها وعدم نسخهِ.
          قال: والمرادُ بقيام السنَّة: ثباتها ودوامُها بالمحافظةِ عليها، مِن قامَتْ السذُوق: إذا نفقَتْ؛ / لأنها إذا حوفظ عليها، كانت كالشيء النَّافق الذي تميلُ إليه الرَّغبات، ويتنافسُ فيه المخلصُون بالطَّلبات.
          ودوامُها بحفظِ أسانيدها؛ من معرفةِ أسماء الرِّجال، والجرحِ والتَّعديل، ومعرفة الأقسام؛ من الصَّحيح والحسنِ والضَّعيف، المتفرعِ عنها أنواع كثيرة، وما يتصلُ بها من المتمِّمات من علم الاصطلاح، أو بحفظِ متونها من التَّغييرِ والتَّبديل بالإتقانِ، وتفهُّم معَانيها، واستنباطِ العلوم منها؛ لأنَّ جُلَّها بل كُلَّها من جوامعِ كلمِهِ صلعم التي اختَصَّ بها، لا سيَّما مثل هذا.
          والمرادُ بالفريضَةِ العادلةِ: المستقيمة المستنبطة من الكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ.
          والمرادُ بما سوى ذلك: المعدودُ من الفضل بمعنى الزائد: ما لا دخلَ له في أصولِ علوم الدين، بل ربما يستعاذُ منه، كقوله ◙ في حديثٍ رواه أبو داود، والنَّسائي، والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً: ((اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بك من قلبٍ لا يخشَعُ، ومِن دعاءٍ لا يسمَعُ، ومِن نفْسٍ لا تشبَعُ، ومِن علْمٍ لا ينفَعُ، أعوذُ بك منْ هؤلاء الأرْبَعِ)).
          ومنها ما رواه ابنُ عدي من طرق كثيرةٍ كلها ضعيفة، لكن بتعددها يتقوَّى الحديثُ فيصيرُ حسناً لغيرهِ ـ كما جزمَ به العلائي ـ عن أسامة بن زيد ☻ ، عن النبي صلعم أنه قال: ((يحمِلُ هذا العلمَ مِن كلِّ خلَفٍ عدُولُهُ، ينْفُون عنه تحريفَ الغَالينَ، وانتحَالَ المبْطِلينَ، وتَأْويلَ الجَاهِلينَ)).
          فقوله: ((ينفونَ عنه تحريفَ الغَالينَ))؛ أي: تغيير المتجَاوزين الحدَّ، مِن غَلا الأمرُ غلواً: جاوزَ حدَّه، كما في ((القاموس)) وغيره، فالغالين: بالغين المعجمة واللام الخفيفة، لا بالضاد السَّاقطة واللام الشَّديدة، كما قد يحرفُ بذلك. / وقوله: ((وانتحال)) بالحاء المهملة؛ أي: ادِّعاء المبْطِلين ما ليسَ لهم.
          وقوله: ((خَلَف)) بفتح الخاء المعجمة واللام وبالفاء لا بالقاف، كما قد يتوهم، أي: من يخلف غيره.
          و((عُدُولُه)) بضم العين، جمع عَدْل؛ بفتحها، فاعل (يحمل)، والمراد به: عدل الرواية.
          وفي تخصيصِ حملة السنَّة والحديث بهذه المنقبة العليَّة تعظيم هذه الأمَّة المحمَّدية وبيان جلالة قدر أهلِ الحديث وعلوِّ مرتبتهِم في العالمين؛ لأنهم الحافظون مشارعَ الشريعةِ ومتونَ الرواياتِ من تحريف المحرِّفين، وتأويلِ الجهلة القاصِرين، وزيغِ المبطلين.
          قال النوويُّ في أوائل ((تهذيب الأسماء واللغات)): هذا إخبارٌ منه صلعم بصيانة هذا العلمِ، وحفظهِ، وعدالةِ ناقليه، وأن الله تعالى يوفِّق له في كلِّ عصرٍ خلفاً من العُدول يحملونه وينفونَ عنه التَّحريف فلا يضيعُ، وفي هذا تصريحٌ بعدالَةِ حامليهِ في كلِّ عصرٍ، وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلامِ النُّبوَّة، ولا يضر كون بعضِ الفسَّاق يعرف شيئاً من علمِ الحديث فإنَّ الحديث إنما هو إخبارٌ بأن العُدُول يحملونه لا أنَّ غيرهُم لا يعرف شيئاً منه، انتهى.
          وأجاب غيرُه بأن اللام في (العلم) للعهد؛ أي: العلم النَّافع، وبأنه دعاء لا إخبار بأنه يحمله العُدول، واعتُرض بأنَّه بعيدٌ لفظاً ومعنى.
          وأُجيب _أيضاً_بأن ما يعرفُه الفسَّاق من العلمِ ليس بعلمٍ حقيقيٍّ لعدم عملهم به، / كما أشارَ إلى ذلك الإمامُ الشَّافعي ☺ بقوله:
ولا العِلْمُ إلَّا مَعَ التُّقَى                     ولَا العَقْلُ إلَّا معَ الأَدَبِ
          وكما صرَّح بنظيرهِ السَّعد التَّفتَازاني في قول ((التلخيص)): وقد ينزَّلُ العالمُ منزلةَ الجاهلِ.
          قال: لعدمِ جريهِ على مُوجب علمه، فإن من لا يجرِي على مقتضَى العلمِ هو والجاهل سواء، كما يقال للعالم التَّارك الصَّلاةَ: الصلاةُ واجبةٌ؛ لأن موجبَ العلمِ العملُ، وللسَّائل العارف بما بين يديكَ: ما هو؟ هو كتاب؛ لأن موجبَ العلمِ ترك السُّؤال ومثله: {هِيَ عَصَايَ}[طه:18] في جواب: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}[طه:17] ونظائره كثيرةٌ بحسب كثرةِ مُوجبات العلم.
          قال صاحب ((المفتاح)): وإن شئتَ فعليكَ بكلامِ ربِّ العزَّة تعالى، انتهى.
          والأولى فيه أن يقال: وقد يُسَاقُ المعلومُ مسَاقَ غيره، ومِن ثمَّ عبَّر عنه(5) بعضهم بأنه سوقُ المعلوم مسَاقَ المجهولِ، أو مساقَ غيرهِ؛ لأنَّ التعبيرَ الأوَّل لا يخلو من نوعِ سوءِ أدبٍ في القرآنِ العزيزِ، فتدبر.
          تنبيه: في هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّ هذه الأمَّة كما تحفظُ متن الحديثِ تحفظُ إسنادَهُ وتبحثُ عدالةَ رجالهِ وحفظَهِم وغير ذلك، وهو منقبَةٌ لها وفضيلةُ وخصيصَةٌ اختصَّتْ به عن سائرِ الأمم.
          ففي ((المواهب اللدنية)) للقسطَلاني في مبحث: خصائص هذه الأمَّة المحمَّدية ما نصُّه.
          ومنها: أنهم أوتوا الإسنادَ، وهو خصيصةٌ فاضلةٌ من خصائصِ هذه الأمَّة، وسنَّةٌ بالغَةٌ من السنن المؤكَّدة روينا من / طريق أبي العباس الدغولي قال: سمعتُ محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إنَّ الله تعالى قد أكرمَ هذه الأمَّة وشرَّفها وفضَّلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلِّها قديمها وحديثهِا إسناد، إنما هو صُحُفٌ في أيديهم، وقد خلطُوا بكتبِهِم من الأخبارِ التي أخذوها عن غيرِ الثِّقات.
          وهذه الأمَّة الشريفة زادها الله شرفاً بنبيها صلعم إنما تنصُّ الحديثَ عن الثِّقة المعروف في زمانهِ بالصِّدق والعَدَالة عن مثلهِ حتى تتنَاهى أخبَارُهم، ثمَّ يبحثونَ أشدَّ البحثِ حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسةً لمن فوقَه ممَّن كان أقصرَ مجالسةً، ثم يكتبون الحديثَ من عشرين وجهاً فأكثرُ حتى يهذبوه من الغلطِ والزَّلل، ويضبطُوا حروفَهُ ويعدُّوه عدًّا، وهذا من فضل الله تعالى على هذه الأمَّة، فنستودعُ الله تعالى شكرَ هذه النِّعمة وغيرها من نعمهِ تعالى.
          وقال أبو حاتم الرَّازي: لم يكن في أمةٍ من الأُمَم منذ خلق الله تعالى آدمَ أمناءَ يحفظون آثار الرسلِ إلا في هذه الأمَّة، انتهى.
          وفي حاشيتهَا لشيخ مشايخنا الشيخ علي الشبرامَلِّسِي ما نصُّه: أخرج الحاكمُ وأبو نُعيم وابن عساكر عن علي ☺ أنه ╕ ، قال: ((إذا كتبتُم الحديث _أي: عني_فاكتبُوه بإسنادهِ، فإنْ يك حقًّا كنتُم شُركاءَ في الأجْرِ لمنْ رواهُ من الرِّجالِ، وإنْ يكُ باطِلاً كان وزرُهُ عليهِ)) / أي: إثمُه على من تعمَّد الكذبَ؛ لأنَّ كتابةَ الحديثِ بلا سندِ فيه خلطٌ للصَّحيح بالضعيف، بل وبالموضوعِ، فيقعُ الزللُ، وينسِبُ للرسولِ ما لم يقلْ، وإذا كتبَه بإسنادِهِ برئ الكاتب من عهدتِهِ.
          قال الإمامُ الشَّافعي ⌂ : الذي يطلبُ الحديث بلا سنَدٍ كحاطِبِ ليلٍ يحملُ الحطبَ وفيه أفعَى وهو لا يدري.
          وقال سفيان الثَّوري: السَّند سلاحُ المؤمن، فإذا لم يكنْ معكَ سلاح فبِمَ تقاتل، وقال عبد الله بنُ المبارك: طالِبُ العلمِ بلا سنَدٍ كراقِي السَّطح بلا سلم، وفي هذا الخبرِ ردٌّ على من كرهِ كتابةَ الحديثِ من السَّلف، والنَّهيُ عنه في خبرٍ آخرَ منسوخٌ أو مؤولٌ؛ أي: بحملهِ على الزَّمن النَّبوي مخافةَ الاشتباهِ بالقرآنِ.
          وفيه بيانُ جلالة قدْرِ المحدِّثين وعلو مرتبتهم، كيف وعلمُ الرواية أقوى أركانِ الدين، وأوثق عرَى اليقين، لا يرغبُ في نشرهِ إلَّا كل صادقٍ تقي، ولا يزهدُ في نصرهِ إلا كل منافقٍ شقي.
          قال ابن القطَّان: ليس في الدنيا مبتدعٌ إلا وهو يبغضُ أهل الحديث.
          وقال الطُّوسي: قربُ الأسانيد قربٌ إلى الله تعالى.
          وقال الحاكمُ: لولا كثرة مواظبة طائفة المحدِّثين على حفظِ الأسانيد لدرس مَنَار الإسلام، ولتمكَّن أهلُ الإلحاد والمبتدعةِ من قلبِ الأسانيد والوضع، انتهى.
          وقدَّمنا أول الباب الثاني زيادة على ما ذكره فليراجع.
          ومِن الأحاديثِ الدَّالة على شرفِ الحديثِ وأهلهِ أيضاً ما رواه ابنُ ماجه عن أبي سعيد الخدريِّ ☺ أنه قال: سيأتيْكُم أقوامٌ يطلبونَ العلمَ، فإذا رأيتُمُوهم فقولوا لهم: مرْحباً بوصيَّة رسولِ الله صلعم وأفتُوهُم، وقد نظمَه بعضهم عاقداً له بقوله:
لقَدْ أوْصَى النَّبيُّ الصَّحْبَ يَوْماً                     بقَوْمٍ يَسْأَلونَ العِلْمَ عنْهُ /
إِذَا جَاءوهُم أَنْ يُكْرِمُوهُم                     ويُنْبُئوهُم بمَا سَمِعُوهُ منْهُ
فمَنْ طَلَبَ الحدَيْثَ فجَلَّ قدْراً                     ولَا يُدْركْ لَهُ كُنْهٌ فكُنْهُ
          ومنها ما رواه الشِّيرازي عن أبي الدَّرداء، وابنُ الجوزي في ((العلل)) عن النُّعمان بن بشير ☺ مرفوعاً قال: قال رسولُ الله صلعم : ((يُوزَنُ يومَ القيَامَةِ مدَادُ العلمَاءِ ودَمُ الشُّهدَاءِ فيرجَحُ مِدادُ العُلمَاءِ عَلى دَمِ الشُّهداءِ)) وقد عقدَهُ بعضُهم فقال:
يَا طَالِبِي عِلْم النَّبيِّ محمَّدٍ                     مَا أنتُمُ وسِوَاكُمُ بِسَواءِ
فمِدادُ مَا تجْرِي بهِ أَقْلامُكُم                     أَزْكَى وأَرْجَحُ مِن دَمِ الشُّهدَاءِ
          ومنها ما رواه الترمذيُّ وابن حبَّان في ((صحيحهما)) عن عبد الله بن مسعودٍ ☺ أنَّه قال: قال رسولُ الله صلعم : ((إنَّ أوْلى الناسِ بي يومَ القيامَةِ أكثرُهُم علَيَّ صَلاةً)).
          قال ابن حبَّان: في هذا الحديثِ بيانٌ صحيحٌ على أنَّ أولى النَّاسِ برسولِ الله صلعم يوم القيامَةِ أصحابُ الحديثِ؛ إذْ ليسَ من هذهِ الأمَّة قومٌ أكثرَ صلاةً عليه منهم.
          وقال غيرُهُ: المخصوصُ بهذا الحديثِ نقلَةُ الأخبارِ الذين يكتبونَ الأحادِيثَ ويذبُّون عنها الكذبَ آناءَ اللَّيلِ وأطرافَ النَّهارِ.
          وورد في حديثٍ سندُه حسنٌ غريبٌ كما في ((الجوهر المنظم)) أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((مَنْ صلَّى عليَّ في كلِّ يومٍ مائة مرَّة قَضَى الله لهُ مائة حاجةٍ سبعينَ لآخرتِهِ وثلاثينَ لدُنْيَاه))، ومن الأحاديثِ الدَّالة على فضْلِهم ما رواه الطَّبراني في ((معجمه الكبير)) عن أنس قال: قال رسولُ الله صلعم : ((إذَا كانَ يومُ القيامةِ يجيءُ أصحابُ الحديثِ ومعَهُم المحابرُ ولحبرِهِم خلوفٌ يفوحُ فيقولُ الله ╡ لهم: أنتُم أصحابُ الحديثِ طَالما كنتُمْ تصلُّون على النَّبيِّ صلعم انطلقُوا بهمْ إلى الجنَّة)).
          وروى الترمذيُّ في ((جامعه)) وقال: حسنٌ صحيحٌ(6) عن قرَّة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((إذَا فسَدَ أهلُ الشَّامِ فلا خيرَ فيكُمْ لا تزَالُ طائفَةٌ مِن أمَّتي منصُورينَ لا يضرُّهُم مَن خَذَلهُم حتَّى تقومَ السَّاعة)).
          قال البُخاريُّ: قال عليُّ بن المدِيني: همْ أصحابُ الحديثِ.
          ووردَ هذا الحديث بروايات أُخَر.
          وقال ابنُ عساكر: ليهنَ أهل الحديث فإنَّ الله تعالى قد آثرهُم بهذهِ البُشرى وأتمَّ عليهم نعمَهُ بهذِهِ الفضيلةِ الكُبْرى فإنَّهم أولى النَّاس بنبيِّهم؛ لأنهم / يخلِّدون ذكرَهُ في طُرُوسهم ويجدِّدون الصَّلاة والتَّسليم عليه في معظَمِ الأوقاتِ لا سيَّما في مجالس(7) مُذاكرتهم وتحديثِهِم ودروسِهِم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقةُ النَّاجية(8).
          وقال محمَّد بنُ عبد الله بن بشر: رأيتُ النبيَّ صلعم في المنام فقلتُ له: مَن الفرقة النَّاجية من ثلاث وسبعين فرقة؟ قال: أنتمْ يا أصحابَ الحديثِ جعلَنَا الله تعالى منهم وحشَرَنا في زمرتِهِم.
          وقال الخليلُ بنُ أحمد / : إن لم يكنْ أهلُ القرآنِ وأهلُ الحديثِ أولياء الله تعالى فليسَ لله في الأرضِ ولي.
          وقال يزيدُ بنُ هارون: إذا لم يكنْ أصحابُ الحديث الأبدال فلا أدرِي مَن هُم.
          وقال ابنُ حجر المكِّي(9) في ((فتاويه الحديثية)) قال يزيدُ بنُ هارون: الأبدالُ هم أهلُ العلم _أي: النافع_الذي هو علمُ الظَّاهر والباطنِ لا علم الظَّاهر وحدَهُ.
          وقال الإمامُ أحمدُ: إن لم يكونوا هُم أصحاب الحديثِ فمَن هم.
          ومرادُه بأصحابِ الحديث من هو مثله ممَّن جمعَ بين علمَي الظَّاهر والباطن، وأحاطَ بالأحكام والحكم والمعارف كالأئمَّة الأربعة الشَّافعي ومالك وأبي حنيفةَ وأحمد ونظرائهِم، فإنَّ هؤلاء خيارُ الأبدَالِ والنُّجبَاء والأوتادِ.
          قال(10): فاحذرْ أن تُسيءَ الظنَّ بأحد من مثلِ أولئك، وأنْ يستوليَ عليكَ الشَّيطان، ومَن استولى عليه لم يهتدِ بنورِ المعرفةِ إلى أنَّ أئمَّة الفقهاء والمجتهدين لم يبلغوا تلك المراتب.
          وقد اتَّفقوا على أن الشَّافعي ☼ كان من الأوتادِ، وفي رواية: أنَّه تقطَّبَ قبلَ موتهِ، وكذلك جاء عن بعضِ تابعيهِ كالإمام النَّووي وغيره رضي الله عنهم أجمعين، انتهى.
          وقال ابنُ عيسى في قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}[النساء:69] قال: الصَّالحون أصحابُ الحديث.
          وقال الشَّافعي: إذا رأيتُ رجلاً من أصحابِ الحديث فكأني رأيتُ رجلاً من أصحابِ رسولِ الله صلعم .
          ونقل ابنُ ناصر الدِّين في ((إتحاف السامع)) أن سفيان الثَّوري قال: الملائكةُ حرَّاس السماء، وأصحابُ الحديث / حرَّاس الأرض.
          ونقل فيه أيضاً عن يزيد بن زُرَيع أنه قال: لكُلِّ دينٍ فرسَانٌ وفُرْسَان هذا الدين أصحاب الأسانيد.
          ونقل فيه عن كهْمَس الهمَدَاني أنه قال: من لم يتحقَّق أنَّ أهل الحديثِ حفظةُ الدين، فإنَّه يعد في ضعفاءِ المساكين الذين لا يدينونَ الله تعالى بدينٍ يقول الله ╡ لنبيِّه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}[الزمر:23]، ويقول رسولُ الله صلعم : حدَّثني جبريلُ عن الله ╡.
          ونقلَ فيه عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: إنَّ الله ╡ يدفعُ البلاء عن هذهِ الأمَّة برحلةِ أصحابِ الحديث.
          ونقل أنَّ صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعتُ أبي يقول: من يعظِّم أصحابَ الحديث يعظُم في عين رسولِ الله صلعم ، ومَن حقَّرَهُم سقطَ من عينِ رسولِ الله صلعم فإنَّ أصحابَ الحديثِ أحبابُ رسول الله صلعم ، انتهى.
          وقال الأوزاعيُّ: عليك بالأثرِ وإن رفضَك الناس، وإيَّاك وآراء الرِّجال وإنْ زخرفُوه لك بالقولِ فإنَّ الأمرَ ينجلِي وأنت على طريقٍ مستقيمٍ.
          وقال الشَّعبي: هلكتُم حين تركتُم الآثار وأخذْتُم بغيرها.
          ولله درُّ بعضهم حيث قال:
جَزَى اللهُ أصْحابَ الحدِيثِ مثُوبةً                     وبَوَّأَهُمْ في الخُلدِ أعْلى المنَازِلِ
فَلَولا اعتِنَاءهُمْ بالحَديثِ وحفْظِهِ                      ونفيُهُمُ عنْهُ صُروفَ الأبَاطِلِ
وإنْفاقُهُم أعْمارَهُمْ في طِلابِهِ                     وبحثِهِمُ عَنهُ بجِدٍّ مُواصِلِ /
لمَا كانَ يَدْري مَنْ غَدا مُتفَقِّهاً                     صَحيحَ حَديثٍ منِ سَقيمٍ وباطِلِ
ولم يَستَبِنْ ما كانَ في الذِّكْرِ مُجمَلاً                     ولمْ يَدْرِ فَرْضاً مِنْ عُمُوم النَّوافِلِ
وقَدْ بَذَلُوا فيهِ نُفوساً نفيسَةً                     وبَاعُوا بحَظٍّ آجِلٍ كُلَّ عاجِلِ
فحبُّهُمُ فَرْضٌ علَى كُلِّ مُسلِمٍ                     وليْسَ يُعادِيهمْ سِوَى كُلِّ جاهِلِ
          وقال أبو بكر بنُ الأنباري: قد ذكر الخليلُ بن أحمد في مجلسه:
مَا ماتَ مَنْ كانَ مَذْكُوراً روايَتُهُ                     قدْ مَاتَ قَومٌ وهُمْ في النَّاسِ أَحْياءُ
وعَاشَ قَومٌ ولمْ تُذْكَر مآثِرُهُم                     فَمَا تَذَكُّرهُم والقَومُ أَحْياءُ
          وقال أبو محمَّد هبةُ الله بنُ الحسن الشِّيرازي:
علَيكَ بأَصْحَابِ الحدِيثِ فإنَّهُم                      عَلى منْهَجٍ للدِّينِ مَا زَالَ مَعْلَماً
ومَا النُّورُ إلَّا في الحدِيثِ وأهْلِهِ                     إذَا مَا دَجَا اللَّيلُ البَهِيمُ وأظْلَمَا
وأَعْلى البَرَايا مَنْ إلى السُّنَن اعتَرَى                     وأَغْوَى البَرَايا مَنْ إلى البِدعِ انْتَمَى
ومَنْ تَرَكَ الآثَارَ قدْ ضَلَّ سَعْيُه                     وهَلْ يترُكُ الآثَارَ مَنْ كَانَ مُسْلِماً
          وقال عبدُ الله بنُ أحمد بن تمام:
أهْلُ الحدِيثِ إذَا عُدُّو لهُمْ شَرَفٌ                     بنِسْبَةِ مِنْ رَسُولِ اللهِ تَتَّصِلُ
حازُوا مِنَ الشَّرَفِ الأعْلَى مَآثِرَهُ                     وقَدْ زَكا لهُمُ الإخْلاصُ والعَمَلُ
مَا آثرُوا غيْرَ آثارِ النَّبيِّ هٌدًى                     وعَنْ طَريقِ الهُدَى يَوْماً فَما عَدَلُوا
          ولله درُّ أبي طاهرٍ أحمد بنِ محمَّد السِّلَفِي حيثُ قال:
إنَّ عِلْمَ الحدِيثِ عِلْمُ رِجَالٍ                     تَرَكُوا الابتِدَاعَ للاتِّبَاعِ
فإِذَا اللَّيلُ جَنَّهُم كتَبُوهُ                     وإِذَا أَصْبَحُوا غَدَوا للسَّمَاعِ /
فلَهُم في المَعَادِ خَيرُ مَقَامٍ                     شَارَكُوا الأنْبِياءَ في الاتِّبَاعِ
          ولله درُّ إمامنا الشَّافعي ☺ وأرضاهُ حيث قال:
كلُّ العُلومِ سِوَى القُرْآنِ مَشْغَلَة                     إلَّا الحَدِيثَ وإلَّا الفِقْهَ في الدِّينِ
كلاهُمَا وَحْيُ رَبِّ النَّاسِ أهْلُهُما                     يومَ القِيامَةِ في صَفِّ النَّبْيين (11)
          وما أحسنَ قول أبي بكر حُميد القُرطبي ☼:
نورُ الحدِيثِ مُبِينٌ فادْنُ واقتَبِس                     واحْدُ الرِّكابَ لهُ نحْو الرِّضَى النَّدَسِ(12)
واطلُبْهُ بالصِّينِ فهْوَ العِلْمُ إنْ رُفِعَتْ                     أعْلامُه برَباهَا يا ابْنَ أنْدَلُسِ
فَلا تُضِعْ في سِوَى تَقْييدِ شَاردِهِ                     عُمْراً يفْوتُكَ بينَ اللَّحْظِ والنَّفَسِ
وخَلِّ سمْعَكَ عنْ بَلْوى أَخِي جَدَلٍ                     شُغْلُ اللَّبيبِ بِهَا ضَرْبٌ مِنَ الهَوَسِ
مَا إِنْ سَمَتْ بأَبِي بَكْرٍ ولَا عُمَر                     وَلا أتَتْ عَنْ أبِي ذرٍّ(13) ولَا أَنَسِ
إلا هَوًى وخُصُوماتٌ مُلفَّقَة                     ليسَتْ برَطْبٍ إذَا عُدَّتْ ولا يَبَسِر
فلَا يَغُرَّكَ مِن أَرْبابهَا هَذَرٌ                     أجْدَى لوَجْهِك منْهَا نَغْمَة الجَرَسِ
أعِرْهُم أُذُناً صُمًّا إذَا نَطَقُوا                     وكُنْ إذَا سَألُوا تُعْزَى إِلى خَرَسِ
مَا العِلمُ إلَّا كِتَابُ اللهِ أوْ أثَرٌ                     يجْلُو بنُورِ هُدَاهُ كلَّ مُلْتبِسِ
نُورٌ لمُقْتَبسٍ خَيْرٌ لمُلْتَمس                     حِمًى لمُحْتَرسٍ نُعْمَى لمُبْتَئِسِ
فاعْكُفْ ببَابِهِما عَلى طِلابِهِما                     تَمْحُو العَمَى بهِمَا عَنْ كلِّ مُلتَمِسِ
وردْ بقَلْبكَ عَذْباً مِن حِياضِهِما                     تغْسِلْ بماءِ الهُدَى مَا فيهِ مِن دَنَسِ
واقْفُ النَّبيَّ وأتْبَاعَ النَّبيِّ وكُنْ                     مِن هَدْيهِم أَبَداً تَدْنو إلى قَبَس
والزَمْ مجَالِسَهُم واحفَظْ محَاسِنَهُم                     وانْدُبْ مَدارِسَهُم بالأَرْبُعِ الدُّرُسِ
واسْلُكْ طريقَهُم واتْبَعْ فَرِيقَهُم                     تَكُنْ رفيقَهُم في حَضْرَة القُدُسِ /
تلْكَ السَّعادَةُ إنْ تُلْمِم بِسَاحَتِها                     تَحُطَّ رَحْلَكَ قدْ عُوِّضَتْ مِن تَعَسِ
          ولبعضِهم:
إنْ خِفْتَ يوْمَ الحَشْرِ مِنْ هَولِهِ                     ورُمْتَ أَنْ تَحْظَى بكُلِّ المَرَام
فعِشْ عَلى سُنَّةِ خَيرِ الوَرَى                     مُقْتَفِياً أهْلَ الحَديثِ الكِرَام
همُ الأَدِلاءُ ينْجُونَ مِنْ هَوْلهِ                     حِينَ يُقَادُونَ لِدَارِ السَّلام
          ولبعضهم أيضاً:
عَلَيْكُم بالحَدِيثِ فلَيسِ شَيءٌ                     يُعَادِلُهُ عَلى كُلِّ الجِهَاتِ
نصَحْتُ لكُم فإنَّ الدِّينَ نُصْحٌ                     ولَا أُخْفِي نَصَائحَ واجِباتِ
وجَدْنا في الرِّوايَةِ كُلَّ فقْهٍ                     وأَحْكَامٍ ومِنْ كُلِّ اللَّغاتِ
لِذِكْرِ المُسْنَداتِ جَعَلْتُ حَظِّي                     وحِفْظُ العِلْمِ خيْرُ العائِداتِ
أئِمَّتُهُ النُّجومَ وهَلْ رَشيدٌ                     تكَلَّمَ في النُّجومِ الزَّاهِراتِ
          ومما يُنْسبَ للحافظِ السُّيوطي ⌂ :
عِلْمُ الحدِيثِ أجَلُّ عِلْمِ الدِّينِ                     وبهِ عُلُوُّ المرْءِ في الدَّارَيْنِ
كالمَاءِ مَحْياة النُّفوسِ مُطَهِّرٌ                     للقَلبْ لا يَعْلُوه شَينُ الرَّيْن
فاعكُفْ عليْهِ رِوايَةً وكِتَابةً                     واطْلُبْ مَعَاليَهُ ولَو بالصِّينِ
يَكْفيهِ فَضْلاً ذكْرُهُ للمُصْطَفى                     في كُلِّ وقْتٍ قدْ مَضَى والحينِ
خيْرِ البرِيَّةِ سَيِّد الرُّسْلِ الَّذِي                     جلَّتْ محَاسنُهُ عَنِ التَّدْوينِ
ذِي المُعْجزَاتِ البَاهِراتِ وعَدُّها                     قَدْ زادَ عَن ألَفٍ إِلى ألْفَينِ
فالمَاءُ سالَ مِن إصبَعَيْهِ أنَهُراً                     والبَدْرُ شُقَّ مِنَ أجْلِهِ نصْفَيْنِ
وَأَتَى ودينُ اللهِ شُتِّتَ شَمْلُه                     فَهَدَى إليهِ وصَارَ في تَحْصِينِ
ولهُ الأَسَامِي والمنَاقِبُ والعُلَى                     مِمَّا بَدَا أغْنَى عَنِ التَّبْيينِ
محْمُودُ أحْمَدُ حامِدٌ ومحَمَّدٌ                     ولَهُ مَقامُ الحَمْدِ يَومَ الدِّينِ /
أكْرِمْ بهِ مِنْ مُصْطَفًى فحَدِيثُه                     يَشْفِي العَلِيلَ وذِكْرُهُ يُحْيينِي
          ولأبي عبد الله الدُّبيثِي:
إذَا اختَارَ كُلُّ النَّاسِ في الدِّينِ مَذْهَباً                     وَصَوَّبَه رَأْياً وحقَّقَهُ فِعْلا
فإِنِّي أَرَى عِلْمَ الحدِيثِ وأهلَهُ                     أحَقَّ اتِّباعاً بلْ أَسَدَّهُم سُبْلا
          ولبعضهم:
أهْلُ الحدِيثِ همُ أهْلُ النَّبيِّ وإِنْ                     لمْ يصْحَبُوا نفْسَهُ أنفَاسَهُ صِحِبُوا
          ولآخر:
لمْ أسْعَ فِي طَلَبِ الحدِيثِ لسُمْعةٍ                     أوْ لاجْتِماعِ قَديمِهِ وحديثِهِ
لكِنْ إذَا فاتَ المُحِبَّ لِقاءُ مَنْ                     يَهْوَى تَعَلَّلَ باسْتِماعِ حَديثِهِ
          ونقلَ النَّووي ☼ في كتابه ((الترخُّصُ في الإكرام بالقيامِ لذوي الفضْلِ والمزيَّة من أهل الإسلام)) عن ابن عبد السلام الأديب لنفسهِ قوله:
أَلا إنَّ خيْرَ النَّاسِ بعْدَ محمَّدٍ                     وأصحَابِهِ والتَّابعينَ بإِحْسانِ
أُناسٌ أرَادَ اللهُ إحْياءَ دينِهِ                     بحفْظِ الَّذي يَرْوي عَن الأوَّلِ الثَّاني
إذَا عَالمٌ عَالي الحدِيثِ تَسامَعُوا                     بهِ جاءَهُ القاصِي منَ القَوْمِ والدَّاِني
وَسارُوا مسِيرَ الشَّمْسِ في جمْعِ علْمِهِ                     فأَوْطانُهُم أضْحَتْ لهُم غيرَ أوْطَاني
          ثم نقلَ النَّووي أيضاً فيه عن أبي القاسم هبة الله لنفسه قوله:
واظِبْ عَلى جمْعِ الحدِيثِ وكتْبِهِ                     واجْهَدْ عَلى تَصْحيحِهِ في كتْبِهِ
واسمَعْهُ منْ أربابِهِ نقْلاً كمَا                     سمِعُوهُ مِن أشْيَاخهِ تسْعَدْ بهِ
واعْرِفْ ثقَات رُواتِهِ مِن غَيْرهِمْ                     كيْمَا تمَيِّزَ صدْقَهُ مِن كذْبِهِ
فهُوَ المفَسِّرُ للكِتَابِ وإنَّما                     نَطَقَ النَّبيُّ لنَا بهِ عَن ربِّهِ /
فتَفَهَّمِ الأَخْبارَ تَعرِفْ حلَّهُ                     مِنْ حُرمِهِ مَع فَرضِهِ مَع نَدبِهِ
وهوَ المبَيِّنُ للعِبَادِ بشَرحِهِ                     سُننَ النَّبيِّ المصْطَفَى مَع صَحبِهِ
وتتَبَّعِ العَالِي الصَّحِيحَ فإنَّهُ                     قُرْبٌ إلَى الرَّحمَنِ تحْظَ بقُربِهِ
وتجَنَّبِ التَّصْحِيفَ فيهِ فرُبَّما                     أَدَّى إلَى تحرِيفِهِ بَلْ قلبِهِ
واترُكْ مقَالَةَ مَنْ لَحَاكَ بجَهْلِهِ                     عَن كَتْبِهِ أوْ بِدعَةٍ فِي قلبِهِ
فَكَفَى المحَدِّثَ رفْعَةً أنْ يُرْتَضَى                     ويُعَدَّ منْ أهْلِ الحَدِيثِ وحِزْبِهِ
          انتهى.
          والحاصلُ: أنَّ الأحاديثَ والآثار والأشعارَ في مدحِ الحديث ومدح أهله سارت مسير الشَّمسِ في رابعةِ النَّهار.
          وهي صادقةٌ إن شاء الله تعالى على الإمام البخاريِّ وأضرابهِ من الأئمَّة الأخيار، فهي تشعر بالثَّنَاء عليه، جعلنا الله تعالى من المقرَّبين لديه.
          وفي هذا القدرِ كفاية؛ إذ وصفُه بالتَّقدُّم في هذا العلمِ معلومٌ لكلِّ من له دراية.
          وقدَّمنا عن النَّووي وغيره في الباب الثَّاني مزيدَ بيانٍ لذلك فراجعه، فرضي الله عنه وعنا، وعن العلماء العاملين، ونفعنَا والمسلمين ببركاتهِ وبركاتِ عبادهِ الصَّالحين، بجاه نبيِّنا محمَّد سيِّد الأوَّلين والآخرين والشَّفيع للمقصِّرين والمذنبين(14).


[1] في (ع) زيادة: ((أحمد)).
[2] في (ص): ((بنون وضاد معجمة خفيفة)).
[3] قوله: ((على أن قوله: ((غير عالم)) مساوٍ لقوله: ((ليس بفقيه))، فتدبر)): ليس في (ص).
[4] ((ولأن نفعه متعد)): ليس في (ص).
[5] ((عنه)): ليس في (ع).
[6] ((وقال حسن صحيح)): ليس في (ص).
[7] في (ص): ((مجلس)).
[8] من قوله: ((وقال ابن عساكر... إلى قوله: الناجية)): جاء في (ص) متقدم بعد قوله: ((آناء الليل وأطراف النهار)).
[9] ((المكي)): ليس في (ص).
[10] ((قال)): ليس في (ص).
[11] من قوله: ((كلاهما وحي.. إلى قوله: النبيين)): ليس في (ص).
[12] قال في هامش (ص): ((الندس بفتحتين الرجل السريع الاستماع للصوت الخفي الفهم كالندس كعضد وكتف قاله في القاموس. منه)).
[13] في هامش (ص): ((في خ: هر)).
[14] في هامش (ص): ((بلغ قراءة على مؤلفه غفر الله له)).