البدر المنير الساري في الكلام على صحيح البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

          ♫
          الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
          قال أبو عبد الله محمَّدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ ☼:
          ░░1▒▒ (كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم؟)
           هكذا وقعَ في بعض نسخ البخاريِّ بغير «باب»، وذلك في النُّسخة الَّتي هي سماعُنا على أبي العزِّ عبد العزيز الحرَّانيِّ، وفي بعض النُّسخ: «بَاب كَيْفَ كَانَ...» إلى آخره، بإثبات «باب».
          ويجوز في إعراب «بَاب» وجهان أحدُهما: تنوينُه بالرَّفع، والثَّاني: رَفعُه بغيرِ تنوينٍ على الإضافة، ويُجمَع أبوابًا، ويقال: أَبْوِبَةٌ.
          و(بَدْءُ) يجوز فيه وجهان: الهمزُ وتركُه، الأوَّلُ مِنَ الابْتداء، والثَّاني مِنَ الظُّهور فيكون بُدُوًّا كقُعودٍ.
          و(الوَحْيِ) أصلُه الإعلامُ في خفاءٍ وسرعةٍ، وكلُّ ما دَلَلْتَ به مِنْ كلامٍ خفيٍّ أو إلهامٍ أو كتابةٍ أو رسالةٍ أو إشارةٍ فهو وحيٌ، يُقال: أَوْحَى وَوَحَى؛ لغتانِ الأوَّلُ أفصحُ، وبها جاءَ / القرآنُ.
          ثمَّ الوحيُ في حقِّ الأنبياء ‰ على ضُروبٍ:
          أحدها: أن يَرى في المنام، كالحديث الآتي قريبًا: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلعم الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ»، وقال إبراهيم ◙: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [الصافات:102].
          والثَّاني: أن يُنْفَثَ في رُوعِهِ؛ أي في نَفْسِهِ وخَلَدِهِ، والنَّفْثُ شبيهٌ بالنَّفْخ، قال ◙: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»، وقيلَ: إنَّ هذا كَانَ وحيَ داودَ ◙. وعن مجاهدٍ وبعضِ المفسِّرين في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] قال: هوَ أن يُنْفَثَ في رُوعِهِ بالوحي.
          والثَّالث: أنْ يأتيَه الوحيُ في مثلِ صَلْصَلةِ الجرسِ ليستجمعَ قلبَه فيكونَ أوعى لِما يسَمَعُ، وهذا يأتي قريبًا إنْ شاء الله تعالى [خ¦2].
          والرَّابع: أن يَتمثَّل له المَلَكُ_وهو جبريلُ صلعم_ / رجلًا، وهو في الحديث ويأتي قريبًا أيضًا إن شاء الله تعالى [خ¦2]، وقد رآه بعضُ الصَّحابة كما في حديث: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ»، وفي صورة دِحْيَةَ الكلبيِّ. وقال أبو سعدٍ أحمدُ بنُ محمَّدٍ البغداذيُّ: أكثرُ ما في الشَّريعة ممَّا أُوحيَ إلى رسول الله صلعم على لسانِ جبريلَ ◙.
          والخامس: أن يأتيَه جبريلُ ◙ في صورتِه الَّتي خلقَه اللهُ عَليهَا له ستُّ مئة جناحٍ.
          والسَّادس: أن يكلِّمَه اللهُ مِنْ وراءِ حجابٍ، إمَّا في اليقظة ككلامِه تعالى لنبيِّنا محمَّدٍ صلعم ليلة الإسراء، ولموسى ◙، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وإمَّا في النَّوم كما في حديث معاذٍ الَّذي خرَّجه التِّرْمِذيُّ أنَّه قال ◙: «أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟...» الحديث.
          والسَّابع: نزولُ إسرافيلَ ◙، ذَكَر / أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ مِنْ طُرُقٍ منها ما أَورده مِنْ جهة الإمام أحمدَ بن حنبلٍ قال: حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ◙ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُكَلِّمُهُ الكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ القُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ ◙، فَنَزَلَ القُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ».
          وهذه الضُّروبُ السَّبعةُ ذكرَها أبو القاسم عبدُ الرَّحمن بنُ عبدِ الله بنِ أحمدَ السُّهيليُّ.
          وقال أبو زكريَّا يحيى بنُ شرفِ بنِ مِرى النَّواويُّ: ومِنَ الوحي الرُّؤيا والإلهامُ. فقَرَنَ الإلهامَ بالرُّؤيا، وفَهِمَ بعضُ النَّاس أنَّ الإلهامَ أيضًا يقعُ مِنْ جملة الوحي المنسوبِ للأنبياء. وذكرَ أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ يوسفَ المعروفُ بابنِ قُرْقولٍ أنَّ الإلهامَ وحيٌ لغير الأنبياء، كالوحي إلى النَّحل.
          وإنَّ مِنَ الوحي مَا يكون بمعنى الإشارة، قال الله تعالى / : {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]، وبمعنى الأمْر كقوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة:111] قيل: أمرَهم.
          قال البخاريُّ ☼: (وَقَوْل اللهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [النساء:163]).
          يجوز في قول البخاريِّ: (وَقَوْل الله) رفعُ اللَّام وجرُّها، معطوف على (كَيْفَ كَانَ) كما تقدَّم في إثبات «بَاب» وحذفِه. ثمَّ قيلَ: في إيراد البخاريِّ لهذه الآية الكريمةِ في أوَّل «صحيحه» هذا وجهان:
          أحدهما: أنَّه أرادَ أن يبدأ كتابَه بشيءٍ مِنَ القرآن العزيزِ فابْتدأ بهذه الآية، لأنَّ فيها مناسبةً للتَّرجمة، فأَمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى نبيَّه محمَّدًا صلعم كما أمر النَّبيِّين قبلَه، يُوحي إليه كما أوحى إليهم وحيَ رسالةٍ لَا وحيَ إلهامٍ.
          وقيل: إنَّ البخاريَّ لم يذكر لـ«كتابه» خُطبةً، وأراد أن يبتدئ «كتابه» بذكر الله للرِّواية الَّتي في «مسند الإمام أحمد بن حنبل» عن يَحْيَى بْنِ / آدَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ أَوْ قَالَ: أَقْطَعُ»، فابْتدأ بالآية الكريمة لأنَّ القرآن ذِكرُ اللهِ، قال اللهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].