روح التوشيح على الجامع الصحيح

فصل ببيان شرط البخاري وموضوعه

          قال ((جط)): فصلٌ ببيان شرط البخاريِّ وموضوعه
          فاعلم أنَّ البخاريَّ لم يوجد عندهُ تصريحٌ بشرطٍ معيَّن، ولكن أُخِذ من تسميته كتابه، واستقرائِه من تصرُّفه.
          فأمَّا أوَّلًا: فإنَّه سمَّاه: (الجامع الصَّحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسُنَنه وأيَّامه).
          فعُلِمَ بقوله: ((الجامع)) أنَّه متعدِّد الأصناف، فله أورد به أحكامًا وفضائل وأخبارًا عن كأمورٍ ماضية وآتية كآداب ورقائق.
          وبقوله: ((الصَّحيح)) أنَّه ليس به ضعيفٌ عنده، وإن انتقدَ غيرَه مواضعَ به فقد أُجيبَ عنها، وقد صحَّ عنه أنَّه قال: ما أدخلتُ به إلَّا ما صحَّ.
          وبقوله: ((المسند)) أنَّ مقصودَه الأصليَّ تخريج أحاديثَ اتَّصل إسنادها بنصِّ الصَّحابة عن النَّبيِّ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قولًا كانت، أو فعلًا، أو تقريرًا، وأنَّ ما أورد به غيرَه فهو تَبَع وعَرَض لا أصل مقصود، وأمَّا ما عُرِف باستقراءٍ من تصرُّفه: فإنَّه ليس إلَّا حديثًا اتَّصل إسنادُهُ، وراويه عدل متَّصفٌ بضبطٍ، فإنْ قَصُر احتاج إلى ما يحرر(1) ذلك التَّقصير، وحكمًا عن أن يكون معلولًا؛ أي: به علَّةٌ خفيَّة قادحة، أو شاذًّا؛ أي: خالف رواية من هو أكثر عددًا منه، أو أشدُّ ضبطًا مخالفةً تستلزم تنافيًا، يتعذَّر معها جمعٌ لا يكون مُتعَسَّفًا.
          والاتِّصال عندهم: أن يقيِّد كلٌّ من الرُّواة في روايته عن شيخه بصيغةٍ صريحةٍ في سماع منه؛ كـ(سمعت)، و(حدَّثني)، و(أخبرني)، أو ظاهرة فيه كـ(عن)، أو (أنَّ فلانًا قال)، وهذا الثَّاني بغير مدلِّس ثقة، وإلَّا لم يقبل منه إلا المرتبة الأولى.
          وشرطُ حَملِ الثَّاني على سماع عند ((خ)) أن يكون راويه ثبتَ له لقاءُ من حدَّث ولو مرَّة واحدةً، وعُرِفَ باستقراءٍ من تصرُّفه برجالٍ أخرج / لهم أن ينتقيَ أكثرهم صحبةً لشيخهِ، وأعرفَهم بحديثهِ، وإن أخرجَ من حديث مَن لا يكون بهذه الصِّفة فإنَّما يخرجه بالمتابعات، أو حيث تقوم له قرينةٌ بأنَّ ذلك ممَّا ضبطه هذا الرَّاوي، فبمجموع ذلك وصفَ الأئمة كتابه قديمًا وحديثًا بأنَّه أصحُّ كتبٍ صنِّفت بالحديث.
          وأكثر ما فُضِّلَ كتابُ ((م)) عليه بأنَّه يجمع متنًا بمحلٍّ واحدٍ، فلا يفرِّقها بأبواب، ويسوقُها فلا يقطِّعُها بتراجم، ويحافظُ على إتيان بألفاظها، ولا يرويها معنى، ويفردها بلا خلطه معها شيئًا من أقوال الصَّحابة فمَن بعدهم.
          وأمَّا ((خ)): فإنَّه يفرِّقها بأبوابٍ لائقةٍ بها، فربَّما كان ذلك الحديث ظاهرًا أو خفيًّا، والخفيُّ ربَّما حصلَ تناوله باقتضاء أو لزومٍ أو تمسُّكٍ بعموم، أو برمز لمخالفةِ مخالفٍ، أو بإشارةٍ إلى أنَّ في بعضِ طُرُقه ما يعطي مقصودًا، وإن خلا عنه لفظ متنٍ مسوق هناك تنبيهًا على ذلك المشار إليه بذلك، وأنَّه صالح أن يُحتَجَّ به، وإن لم يرتفع لدرجة شرطهِ، فاحتاج لذلك لتكرير الأحاديث، إذ كثيرٌ من متنها تشتملُ على عدَّة أحكام، فاحتاج أن يذكُرَ بكلِّ بابٍ ما يليقُ به حكمُ ذلك الحديث بعينهِ، فإن ساقه بتمامه إسنادًا ومتنًا طالَ، وإن أهمله فلا يليقُ به، فتصرَّف به بوجوهٍ من التَّصرُّف، وهو أن ينظرَ الإسنادُ إلى غاية من يدورُ عليه الحديث من رواته؛ أي: ينفردُ بروايته، فيخرِّجه في باب عن راوٍ يرويه عن ذلك المنفردِ، وبآخر عن راوٍ آخر عن ذلك المنفرد وهلمَّ جرًّا، فإن كثُرَت الأحكامُ عدلَ عن سياقه بثاني الإسناد إلى اختصاره معلَّقًا، وهو إحدى النُّكت في تعليقهِ ما وصلَه بمحلٍّ آخر، وإن ضاق مخرجه كأن يكون فردًا مطلقًا تصرَّف إذًا في متنه، فيسمُّونه مرَّة تامًّا، ومرًّة مختصرًا.
          ثمَّ إنه حال تصنيفه كأنَّه بسط تراجم وأحاديث، فحصل لكلِّ ترجمةٍ حديثًا يلائمها، وبقيتْ عليه تراجم لم يجد في الحالة الرَّاهنة ما يُلائمها، فأخلاها من حديثهِ، فبقيت عليه أحاديثُ لم يتَّضح له ما يرتضيهِ في التَّرجمة عنها، فجعل لها بابًا بلا تراجم، فوُجِدَ به أحيانًا بابٌ مترجم ليس به غير ذاتهِ أو كلام لصحابيٍّ أو تابعيٍّ، وأحيانًا باب غير مترجمٍ، وقد ساق به حديثًا أو أكثر، نقل ذلك أبو ذرٍّ الهَرويُّ عن المُسْتمليِّ.
          وأشار إلى أنَّ بعض من نقل كتابه بعد موته ربَّما ضمَّ بابًا مترجمًا لحديثٍ غير مترجمٍ، وأخلى البياض الَّذي بينهما، فيظنُّ النَّاس أنَّ هذا الحديث يتعلَّق بالتَّرجمة التي قبلها، فيتحمَّل لها وجوهًا من محامل متكلَّفة، ولا تعلُّق لها به ألبتَّة.


[1] كذا في الأصل، وفي التوشيح: (يجبر).