شروط الأئمة الخمسة

أمثلة ترد تقسيم الحاكم

          فمن ذلك: حديثُ مِردْاس الأسلمي: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ» الحديث [خ¦6434]. وهذا حديث تفرَّد البُخارِي بإخراجه، ولم يرو عنه غيرُ قيس بن أبي حازم، رواه البُخارِي عن يحيى بن حمَّاد، عن أبي عَوانة، عن بيان، عن قيس، عن مِرْداس، وليس لمِرْداس في كتاب البُخارِي سوى هذا الحديث، وقد ذكَر الحاكم في القسم الثاني مِرْداس بن مالك الأسلمي، وعدُّه فيمن لم يُخرَج له في الصحاح شيء، وهذا الحديث يَردُّ عليه قولَه ويُبَيِّنْ خطأَه.
          - ومنها: حديث حَزْن بن أبي وهب المخزوميِّ، خرَّج عنه البُخارِيُّ حديثين، أحدُهما: قال: «جَاءَ سَيْلٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ فَكَسَا مَا بَيْنَ الجَبَلَيْنِ» [خ¦3833]، والثاني أنَّ النَّبيَّ صلعم قال له: «مَا اسْمُكَ؟» الحديث [خ¦6190]، وقد انفرد بهما عنه ابنُه المُسيَّبُ، وعن المسيَّب ابنُه سعيدُ بن المسيب.
          - ومنهم: زاهرُ بنُ الأسود الأسلميُّ، خرَّج عنه البُخارِيُّ حديثًا واحدًا، وهو: إِنِّي لَأُوقِدُ تَحْتَ القُدورِ بِلُحُومِ الحُمُرِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلعم: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يَنْهَاكُمْ عَنْ لُحُومِ / الحُمُرِ» [خ¦4173]، وقد تفرد بالرواية عنه ابنْه مَجْزَأة بن زاهر.
          - ومنهم: عبد الله بن هشام بن زهرة القُرَشي، أخرج البُخارِي عنه حديثين، أحدُهما: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلعم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ... » الحديث [خ¦6632].
          والثاني: قال: ذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى النَّبيِّ صلعم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ: «هُوَ صَغِيرٌ... » الحديث [خ¦2501]. وقد تفرَّد بالرواية عنه ابنُ ابنه زهرة بن مَعْبَد.
          - ومنهم: عَمْرو بن تَغلِب، أخرج عنه البُخارِيُّ حديثين، أحدُهما: « إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ، وَأَدَعُ الرَّجُلَ » الحديث [خ¦923]، والثاني: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُقَاتِلُوا(1) قَوْمًا يَنْتَعِلُونَ » الحديث [خ¦2927]. وقد تفرَّد برواية هذين الحديثين عنه الحسَنُ بن أبي الحسن، ولا يُعرَف له راوٍ غيرُه.
          - ومنهم: عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير، أخرج عنه البُخارِي حديثًا واحدًا موقوفًا [خ¦6356]، تفرَّد به الزهريُّ عنه، ولا يُعرَف له راوٍ غيرُ الزهري.
          - ومنهم: سُنَين أبو جَمِيلة السُّلَمي من أنفسهم، أخرج البُخارِي عنه طَرَفًا / من حديث [خ¦4301]، ولم يرو عنه غير الزهريِّ من وجهٍ يصح مثلُه.
          - ومنهم: أبو سعيد بن المعلَّى، أخرج عنه البُخارِيُّ حديثًا واحدًا، قال: «كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلعم فَلَمْ أُجِبْهُ، ثم أتيتُه فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي...» الحديث [خ¦4474]، وقد تفرد به عنه حفصُ بن عاصم بن عُمَر بن الخطاب، ولا رواه عنه غيرُ خُبَيب بن عبد الرحمن بن خُبَيب بن يساف.
          - ومنهم: أبو عُقبة سُويد بن النعمان بن مالك بن عامر الأنصاري، وكان من أصحاب الشجرة، أخرج عنه البُخارِيُّ حديثًا واحدًا: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ، وَهِيَ مِنْ أَدْنَى خَيْبَرَ... » الحديث [خ¦215]، وقد تفرد به عنه بُشيرُ بنُ يسار.
          - ومنهم: خولة بنت ثامر، وقد أخرج البُخارِي منفردًا به من حديث أبي الأسود، عن النعمان بن أبي عياش، عن خولة بنت ثامر، عن النَّبيِّ صلعم: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ». [خ¦3118]
          قال الدَّاْرَقُطْنِيُّ: ولا تُعرَف خولةُ بنت ثامر إلَّا في هذا الحديث، ولم يرو عنها غيرُ النعمان بن أبي عيَّاش، وهذا اللفظ يُشبه لفظَ عُبَيد سَنُوطَا، عنْ / خولة بنت قيس بن قَهْد امرأةِ حمزة عم النَّبيِّ صلعم، فإنْ كانت هي التي رَوَى عنها النعمان بن أبي عياش ونَسَبها إلى ثامر، فالحديثُ مشهور، وإن كانتا امرأتين ِفابنةُ ثامر لم يَرو عنها غيرُ النعمان بن أبي عياش.
          وممن تفرَّدَ مُسْلِم بإخراج حديثه على النحو المذكور: عديُّ بن عُميرة الكندي، أخرج مُسْلِم له حديثًا واحدًا، وهو: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ... » الحديث [م:1833]، ولم يَرو عنه غيرُ قيس بن أبي حازم.
          وقد ذكرَ الحاكمُ في القسم الثاني: المستورِدُ بن شَدَّاد الفِهري في مفاريد قيس بن أبي حازم، وزَعَم أنَّه لم يُخرج البُخارِي ولا مُسْلِم حديثَه، ولا حديثَ مَن كان على هذا الوِزانِ من المفاريد.
          وهذا مُسْلِم بنُ الحجاج قد خرَّج للمستورد حديثين، أحدهما من رواية قيس بن أبي حازم، قال: قال رسول الله صلعم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مِثلُ ما يَجعلُ أحدُكم إصبعَه هذه _وأشار بالسبابة_ في اليمِّ فلينظر بم تَرجِع». «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ _وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ_ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟». [م:2858]
          والثاني أخرجه من حديث موسى بن عُلَيٍّ، عن أبيه عُلَيِّ بن رَباح، قال: قال المستورِدُ القرشيُّ عِندَ عَمْرو بن العاص: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ...» [م:2898] / الحديث، وقد رَوَى عنه غيرُ واحد من المصريين والشاميين.
          ومنهم: قُطْبة بن مالك، أخرج عنه مسلم حديثًا واحدًا، قال: «صَلَّيْتُ وَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَرَأَ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]» الحديث [م:457]، ولم يَرو عنه غيرُ زياد بن عِلاقة، وقد زَعَم الحاكمُ أنَّ قُطْبة هذا لم يُخرَج حديثُه في الكتابين لِمَا توهمَّه.
          ومنهم: أبو عبد الله طارق بن أَشْيَم والد أبي مالك، أخرج عنه مُسْلِم حديثين، أحدُهما سمعتُ رسول الله صلعم يقول: « مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مَنْ دُونِ اللهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ» [م:23]. الثاني: « كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ، عَلَّمَهُ النَّبيُّ صلعم الصَّلاةَ... » [م:2697] الحديث. وقد تفرد بالرواية عنه ابنُه أبو مالك سعد بن طارق.
          ومنهم: نُبَيشة الخَيْر بن عبد الله بن عَتَّاب، أخرج عنه مُسْلِم حديثًا واحدًا في أيام التشريق [م:1141](2).
          وقد أخرج له البَرْقانيُّ في كتابه المخرَّج على الصحيحين حديثًا آخر في العَتِيرة، ولم يَوجَد في أكثر النسخ سوى الحديث الأول، وليس له راوٍ سوى أبي المَلِيح عامر بن أسامة. / ومن مفاريد التراجم في الكتابين: حديثُ «الأعمالُ بالنية» فإنَّ البُخارِيَّ استفتح كتابَه به، رواه عن الحَمَيدي، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمِي، عن عَلْقَمَة بن وَقَّاص الليثيِّ، عن عُمَر بن الخطاب ☺، عن النَّبيِّ صلعم الحديث، وقد أُخرِج في الكتابين في عدَّة مواضع، وهو من غرائب الصحيح، مَدَنيُّ المَخْرَج، ولم يُرو عن النَّبيِّ صلعم من وجهٍ يصح مثلُه إلَّا من حديث عُمَر، فهو في الحقيقة من مفاريده، ولا يَثبُتُ عن عمر إلَّا من رواية عَلْقَمَة بن وقاص، ولا رواه عن عَلْقَمَة إلَّا التَّيْمِي، تفرَّد به يحيى بنُ سعيد، وقد رواه عن يحيى خلقٌ كثير.
          وهذا باب لو استقيصتُه لأفضى إلى الإكثار، وتجاوز حدَّ الاختصار، ومَن طالع تراجم حديث الشاميين والمصريين، وَجَد لما ذكرناه نظائرَ كثيرة، فإنَّ حديث الحمصيين ومن يُدانيهم ضيِّقُ المَخرَج جدًا، ولهذا قلَّما يوجد للشاميين والمصريين حديث يُعتنى بجَمْع طُرقه، ويُذاكَرُ به في السِّير(3) من حديث الشاميين الدمشقيين، وذاك لضيق مَخرج حديثهم. /
          ومَن أمعن النظر في هذه الأمثلة المذكورة، بان له فساد وضع الأقسام التي ذكرها الحاكم.
          وإذ قد فرغنا من إبطال هذه الدعوى، فلنذكر التحقيق في قبول الأخبار مِن الثقات الموصوفين بالشرائط التي يأتي ذكرها، فمهما كانت تلك الشرائط موجودة في حقِّ راو، كان على شرطهم وغرضهم، ولزمهم قبول خبره، تفرَّد بالحديث أو شاركه غيره فيه.
          نعم يُفيد هذا في باب الترجيحات، عند تعارض الأخبار حالة المذاكرة بين المتناظرين، وذلك من وظيفة الفقهاء؛ لأنَّ قصدهم إثبات الأحكام، / ومجال نظرهم في ذلك متسعٌ، وقد أورد بعض أئمتنا في باب الترجيحات نيفًا وأربعين وجهًا في ترجيح أحد الحديثين على الآخر.
          ثمَّ الحديث الواحد لا يخلو: إمَّا أن يكون من قبيل المُتواتر، أو من قبيل الآحاد، وإثبات المتُواتر في الأحاديث عسير جدًا، سيما على مذهب مَن لم يعتبر العدد في تحديده.
          وأمَّا الآحاد فعند أكثر الفقهاء يُوجب العمل دون العلم، فلا تعويل على مذهب الكوفيين في ذلك، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنَّه يوجب العلم، وتفاصيل مذاهب الكلِّ مذكورة في كتب أصول الفقه.
          وعلى الجملة: فقد اتفقوا أنَّه لا يُشترط في قبول الآحاد العدد قلَّ أو كثُر، والله أعلم. /


[1] في الأصل: أن تقاتلون.
[2] ولفظه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ».
[3] في المطبوع: السَّبْر.