شروط الأئمة الخمسة

سبب تخريج الشيخين لرجال تكلم فيهم

          فإن قيل: إن كان الأمر على ما مَهَّدتَ، وأنَّ الشيخين لم يلتزما استيعابَ جميع ما صحَّ، بل لم يُودِعَا كتابيهما إلَّا ما صح فما بالُهما خَرَّجا حديث جماعةٍ تُكُلِّمَ فيهم، نحوُ فُليح بن سليمان، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، وإسماعيل بن أبي أويس، عند البُخارِي، ومحمد بن / إسحاق بن يسار وذويه عند مسلم ؟
          قلتُ: أمَّا إيداعُ البُخارِي ومُسلم كتابيهما حديثَ نفرٍ نُسِبُوا إلى نوع من الضعف فظاهرٌ، غيرَ أنه لم يَبْلُغ ضَعْفُهم حَدًّا يُرَدُّ به حديثُهم، مع أنَّا لا نقر بأنَّ البُخارِي كان يَرَى تخريج حديث من ينسب إلى نوع من أنواع الضعف ولو كان ضَعْفُ هؤلاء قد ثبت عنده لَمَا خَرَّجَ حديثَهم. / ثم ينبغي أن يُعلَمَ أنَّ جهاتِ الضَّعْف متباينةٌ متعددة، وأهلُ العلم مختلفون في أسبابه، أما الفقهاء فمدارك(1) الضعف عندهم محصورة، وجُلُّها منوطٌ بمراعاة ظاهرِ الشرع، وعند أئمة النقل أسبابٌ أخر مرعية عندهم وهي عند الفقهاء غير معتبرة. / / / / / / / / /
          ثم أئمة النقل أيضًا على اختلافِ مذاهبهم وتبايُنِ أحوالهم في تعاطي اصطلاحاتهم، يختلفون في أكثرها، فرُبَّ راوٍ هو موثوق به عند عبد الرحمن بن مهدي، ومجروحٌ عند يحيى بن سعيد القطان، وبالعكس، وهما إمامان عليهما مدارُ النقد في النقل، ومِنْ عندهما يُتَلَقَّى معظمُ شأنِ الحديث.
           / وأما البُخارِيُّ فكان وحيدَ دهره وقريعَ عصره إتقانًا وانتقادًا وبحثًا وسبرًا، وبعد إحاطة العلم بمكانته من هذا الشأن، لا سبيلَ إلى الاعتراض عليه في هذا الباب، ثم له أن يقول: هذا السؤالُ لا يَلزَمُني؛ لأنِّي قلت: لم أخرج إلَّا حديثًا متفقًا على صحته، ولم أقل لا أُخرج إلَّا حديثَ من اتُّفِقَ / على عدالته؛ لأنَّ ذلك يَتعذَّرُ لاختلاف الناس في الأسباب المؤثرة في الضعف.
          ثم قد يكون الحديثُ عند البُخارِيِّ عاليًا، وله طرقٌ بعضُها أرفعُ من بعضٍ، غير أنه يَحِيدُ أحيانًا عن الطريق الأصحِّ لنزوله أو يَسأَمُ تكرارَ الطرق إلى غير ذلك من الأعذار، وقد صرَّح مُسْلِم بنحو ذلك. /
          قرأتُ على محمد بن علي بن أحمد القاضي: أخبرك أحمدُ بن الحسن بن أحمد الكَرَجي إذنًا، عن أبي بكر أحمد بن محمد البَرْقاني: حدَّثنا الحسينُ بنُ يعقوب الفقيهُ: حدَّثنا أحمد بنُ طاهر المَيَّانِجِي: حدَّثنا أبو عثمان سعيد بن عَمْرو قال: شهدتُ أبا زُرْعة الرازي ذكَرَ كتاب الصحيح الذي ألَّفَه مُسْلِم بنُ الحجاج، ثم الفضلُ الصائغُ على مثاله، فقال لي أبو زُرْعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدَّمَ قبل أوانه فعَمِلُوا شيئًا يتسَوَّقُون به، ألَّفُوا كتابًا لم يُسْبَقُوا إليه ليقيموا لأنفسهم رياسةً قبل وقتها.
          وأتاه ذات يوم وأنا شاهد رجلٌ بكتاب الصحيح من رواية مُسْلِم فجعل ينظُرُ فيه فإذا حديثٌ عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زُرْعة: ما يعدُّ(2) هذا من الصحيح ؟ ! يُدْخِلُ في كتابه أسباط بنَ نصر !
          ثم رأى في الكتاب قَطَنَ بنَ نُسَير، فقال لي: وهذا أطمُّ من الأول، قَطَنَ بن نُسَير وَصَلَ أحاديثَ عن ثابت، جعلها(3) عن أنس.
          ثم نظر فقال: يَروي عن أحمد بن عيسى المِصْرِيّ في كتاب الصحيح ! قال لي أبو زُرْعة: ما رأيتُ أهل مصر يشكُّون في أنَّ أحمد بن عيسى _وأشار أبو زُرْعة بيده إلى لسانه كأنَّه يقول الكذب_ ثم قال لي: أيُحدِّثُ عن هؤلاء ويترك محمد بنَ عجلان ونظراءَه، ويُطَرِّقُ لأهل البدع علينا، فيجدون السبيلَ بأن يقولوا للحديث إذا احتُجَّ عليهم به: ليس هذا في كتاب الصحيح. ورأيتُه يذمُّ مَنْ وضع هذا الكتابَ. / / /
          فلما رجعتُ إلى نَيْسَابُور في المرة الثانية ذكرتُ لمُسْلِم بنِ الحجاج إنكارَ أبي زُرْعة عليه وروايتَه في كتاب الصحيح عن أسباط بن نصر، و قَطَن بن نُسَير، وأحمد بن عيسى المِصْرِيِّ، فقال لي مسلمٌ: إنَّ ما قلتَ صحيحٌ، وإنَّما أدخلتُ من حديث أسباط بن نصر وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلَّا أنَّه ربما وقع لي عنهم بارتفاع، ويكونُ عندي من رواية من هو أوثقُ منهم بنزولٍ، فأقتصر على أولئك، وأصلُ الحديثِ معروفٌ من رواية الثقات.
          وقَدِمَ مُسْلِم بعد ذلك الري، فبَلَغَني أنه خَرَجَ إلى أبي عبد الله محمد بن مُسْلِم بن واره، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوًا مما قال أبو زُرْعة، فاعتَذَرَ إليه مُسْلِم وقال له: إنَّما أخرجتُ هذا الكتابَ وقلتُ: هو صِحَاحٌ، ولم أقل: إنَّ ما لم أُخْرِجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيفٌ، ولكنِّي إنَّما خَرَّجْتُ هذا من الحديث الصحيح ليكون مجموعًا عندي وعند من / يكتبه عني ولا يَرْتَابَ في صحتها، ولم أقل: إنَّ ما سواه ضعيفٌ. أو نحوَ ذلك مما اعتذر به مُسْلِم إلى محمد بن مسلم، فقَبِلَ عذرَه وحدَّثه.
          تم الكتاب بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على محمد وآله وسلم.


[1] في المطبوع: فأسبابُ.
[2] في الأصل: أبعدَ.
[3] في المطبوع: فَجَعلها.