كشف النقاب لرشف الرضاب للأبياري

خاتمة

          خاتمة حسنة في فوائد مستحسنة
          الأولى: قال الإمام النَّوويُّ: على كاتب الحديث صرفُ الهمَّة في ضبطه وتحقيقه شَكْلًا ولفظًا يُؤمَن معهما اللَّبْسُ؛ ليؤدِّيه كما سمعه، وأن يَكُون(1) اعتناؤه بضبط المُلْتَبس من الأسماء أكثر، فإنَّها لا تُستدرك بالمعنى، ولا يُستدرك عليها بما قبل ولا بعد.
          الثَّانية: ذكر النَّوويُّ: أنَّه لكون المقصد الآن من رواية الحديث إبقاء سلسلة الإسناد المختصِّ بالأمَّة المحمَّديَّة، والمحاذرة من انقطاع سلسلتها؛ صار المعتبر من شروط رواية الحديث ما(2) يليق بالمقصد، وهو كون الشيخ مُسلمًا عاقلًا، غيرَ متظاهر بفسقٍ ولا سخفٍ يخلُّ بمروءته لتحقيق(3) عدالته، ويكتفى في ضبطه بوجود سماعه متنًا بخطِّ ثقة غير متَّهم، وبروايته من أصل صحيح موافقٍ لأصل شيخه.
          الثَّالثة: ينبغي للشَّيخ ألَّا يروي حديثه بقراءة لَحَّانٍ أو مُصَحِّفٍ؛ فقد قال الأصمعيُّ: إنَّ أخوفَ ما أخافُ على / طالب العلم إذا لم يعرفِ النحوَ أن يَدْخُلَ في جملة قوله صلعم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ؛ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ»، مهما رويتَ عمَّن ذُكر ولحنْتَ؛ فقد كذبتَ عليه.
          وعلى طالب الحديث أن يعرف من النَّحو واللُّغة ما يسلم به من اللَّحْن والتَّحريف، فقد رُوِيَ عن شُعْبَةَ: مَن طلب الحديث ولم يبصر العربيَّة؛ فهو كرجل عليه بُرْنُسٌ وليس له رأسٌ، وطريقُه في السَّلامة من التَّصحيف الأخذُ من أفواه أهل المعرفة والتَّحقيق والضَّبط، لا مِنْ بُطون الكُتب.
          الرَّابعة: قال الحافظ أبو بكر الإشبيليُّ: اتَّفق العلماء على أنَّه لا يصحُّ لمسلم أن يقول: قال رسول الله صلعم كذا حتَّى يكون عنده ذلك القول مَرْوِيًّا ولو على أقلِّ وجوه الرِّوايات؛ لحديث: «مَن كَذَبَ عَلَيَّ...» إلى آخره(4).
          وتعقَّبه الزَّرْكَشِيُّ فقال: نقلُ الإجماعِ عجيبٌ، وإنَّما حُكِيَ ذلك عن بعض المُحَدِّثينَ، ثُمَّ هو يعارض بما ذكره في «الأوسط» من أنَّ الفقهاء ذهبوا إلى أنَّه لا يتوقَّف العمل بالحديث على / سماعه، بل إذا صحَّ عنده النُّسخة؛ جاز له العمل بها وإن لم يسمع، وحكى أبو إسحاق الإسْفَرَايِنِيُّ(5) الإجماعَ على جواز النَّقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتِّصال السَّند إلى مصنِّفها، ونصَّ الشَّافعيُّ في «الرِّسالة» على أنَّه يجوز أن يحدِّث بالخبر وإن لم يعلم أنَّه سمعه، انتهى مُلخَّصًا من «التقريب» و«شرحه».
          فَعُلِمَ أنَّ من لم يكن له معرفة بالنَّحو واللُّغة لا يجوز له رواية الحديث إن لم يكن سمعَه وضبطَه من الأشياخ، ومن عرفهما فله أن يَرْوِي ما لم يسمعه من الكتب، لكن بشرط أن تكون مشهورةً معتمدةً مضبوطةً من النُّسخ الصَّحيحة، لا ما فيها تحريف(6)، ولا مُطلق كتاب.
          الخامسة: لا ينبغي للطَّالب أن يقتصر من الحديث على سماعه وكتبه دون معرفته وفهمه، فيكون قد أتعبَ نفسَه من غير أن يظفر بطائل، فليتعرَّف صحَّته، وضعفه، وفقهه، ومعانيه، ولغته، وإعرابه، وأسماء رجاله، مُحَقِّقًا كُلَّ ذلك، وإذا لم يكن الرَّاوي عالمًا بالألفاظ / ومدلولاتها ومقاصدها، خبيرًا بما يحيل معانيها، بصيرًا بمقادير التَّفاوت بينها(7)؛ لم يجز له الرِّواية لما سمعه بالمعنى بلا خلاف، بل يتعيَّن اللَّفظ الَّذي سمعه، فإن كان عالمًا بذلك؛ فقالت طائفةٌ من أصحاب الحديث والفقه والأصول: لا يجوز إلَّا بلفظه، وقال جمهور السَّلَف والخَلَف _ومنهم: الأئمَّة الأربعة_: يجوز بالمعنى في جميعه إذا قطع بأداء المعنى؛ لأنَّ ذلك هو الَّذي تشهد به أحوال الصَّحابة والسَّلف، ويدلُّ عليه رواياتهم(8) للقصَّة الواحدة بألفاظ مختلفة.
          رُوي عن أبي أُوَيْس قال: سألْنا الزُّهريَّ عن التَّقديم والتَّأخير في الحديث؟ فقال: إنَّ هذا يجوز في القرآن؛ فكيف به في الحديث إذا أصبتَ معنى الحديث؟!
          وفي «الطَّبرانيِّ» من حديث عبد الله بن سُليمان، قال: قلتُ: يا رسول الله؛ أسمعُ منكَ الحديث لا أستطيع أن أُؤدِّيه كما أسمعُ منكَ؛ يزيدُ حرفًا، أو ينقص حرفًا، فقال: «إذا لم تُحِلُّوا حَرَامًا، ولم تُحَرِّمُوا حَلالًا، وأَصَبْتُم المَعْنى؛ فلا بَأسَ»، فَذُكِرَ ذلك / للحَسَنِ، فقالَ: لَوْلا هذا؛ مَا حَدَّثْنَا.
          والحَمْدُ للهِ، وصلَّى اللهُ تعالى وسلَّم على سيِّدنا مُحَمَّد، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين. آمين آمين آمين.


[1] في المطبوع: (يكن).
[2] في المطبوع: (مما).
[3] في الأصل الخطي: (لتتحقق).
[4] زيد في الأصل الخطي: (انتهى).
[5] في الأصل الخطي: (الإسفراييني).
[6] (تحريف): مثبت من الأصل الخطي.
[7] في الأصل الخطي: (بينهما).
[8] في الأصل الخطي: (روايتهم).