النكت على صحيح البخاري

الفصل الأول: في بيان شرطه فيه

          الفصل الأول: في بيان شرطه فيه
          اعلم _علَّمني الله وإياك_ أنَّ البُخَارِيَّ لم يُوجَدْ عنه تصريحٌ بشرطٍ معين، وإنَّما يُوجد ذلك من معنى تسميته للكتاب، وبالاستقراء من تصرفه.
          فأمَّا أولًا: فإنَّه سَمَّاه: «الجامعَ الصَّحيحَ الْمُسْنَدَ الْمُخْتَصَرَ مِنْ أُمورِ رسولِ الله صلعم وسُنَنِهِ وأَيَّامِهِ».
          فعرفنا بقوله: «الجَامِعَ» أنَّه لم يختصَّ بِصِنْفٍ دونَ صنفٍ، ولهذا أورد فيه الأحكامَ والفضائلَ والأخبارَ المحضةَ عَنِ الأمورِ الماضيةِ والأمورِ الآتيةِ وغير ذلك من الآداب والرقائق.
          و بقوله: «الصَّحَيْحَ» أنَّه ليسَ فيه شيءٌ ضعيفٌ عنده، وإنْ كانَ فيه مواضع قد انتقدها غيره، وحصل الاعتناء بالجواب عن ذلك في مقدمة «الشرح الكبير»، ويُصَرِّحُ بذلك قوله: ما أدخلْتُ في الجامعِ إِلَّا مَا صَحَّ.
          وبقوله: «الْمُسْنَدَ» أنَّ مقصوده الأصلي: تخريج الأحاديث التي اتصلَ إسنادها ببعض الصحابة عن النبي صلعم، سواء كانت من قول النبي صلعم أو فعله أو تقريره، وأنَّ ما وقعَ ما في الكتاب مما يُخالف ذلك، إنَّما وقع فيه تبعًا وعَرَضًا لا أصلًا مقصودًا، فهذا ما عُرِف من كلامه.
          وأمَّا ما عُرِفَ بالاستقراء من تَصَرُّفه، فيحتاج أولًا إلى التعريف بالصحيح عنده وعند غيره: وهو أن يكون الإسنادُ مُتَّصِلًا، وأنْ يكون كلٌّ منْ رُواته عدلًا، وأن يكون موصوفًا بالضبط، فإنْ قَصَّرَ احتاج إلَى ما يجبر ذلك التَّقصير، ويكون الحديثُ مع ذلك قد خلا مِنْ أن يكون مَعْلولًا _أي: فيه عِلَّةٌ خفيةٌ قادحةٌ_ أو أن يكون شَاذًّا _أي: خالف / رَاويه من هو أكثر عددًا منه أو أشد ضبطًا مخالفةً تَستلزم التَّنَافي ويُتعَذر معها الجمع الذي لا يكون مُتَعَسِّفًا_.
          والاتصال عندهم: أنْ يُعَبِّرَ كلٌّ من الرواة في روايته عن شيخه بصيغةٍ صريحَةٍ في السَّمَاعِ منه: كَسَمِعْتُ، وَحَدَّثَنِي، وَأَخبْرَنِي، أو ظاهرة في ذلك: كَعَنْ أو أنَّ فلانًا قالَ.
          وهذا الثاني في غَيْرِ الْمُدلِّسِ الثقة، أمَّا الْمُدلِّسِ الثِّقَةِ فلا يقبل منه إلا المرتبة الأولى، إلا أنْ يُعْثَرَ منه على ارتكاب مجازٍ في الصِّيَغِ الصريحةِ فَيُحْتَرَزُ منه حينئذٍ، والأصلُ عدمُ ذلك، ولهذا أطلق كثيرٌ من الأئمة قبولَ رواية الْمُدلِّسِ الثقةِ إذا صَرَّحَ.
          ثمَّ إنَّ هذا الثاني شرطُ حَمْلِه على السماع عند البُخَارِيِّ أن يكون الراوي قد ثبت له لقاءُ مَنْ حَدَّثَ عنه ولو مرةً واحدةً، فإذا ثبت ذلك عنه حُملت عنده عَنْعَنَتُه على السماع، وسبب ذلك أن تقول: إذا لم يثبت لقاؤه له، وإنَّما عرفنا أنَّه عاصره فقط، احْتُمِلَ أن تكون روايته عنه على طريق الإرسال لما عرف من عادة كثير ممن لم يُوْصَفْ بتدليس أنَّه يُرسِل، وإذا لم يترجح أحدُ الاحتمالَيْنِ على الآخر لم يَحْسن الحملُ على أحدهما.
          فإن قيل: فَلِمَ لَمْ يَطْرِّدْ ذَلِكِ في جميع عَنْعَنَتِهِ؟
          فالجواب: إنَّ ذَلِكِ يُخالفُ فَرضَ المسألة؛ لأنَّها مفروضةٌ في غير الْمُدلِّس، ولو كان بعد أنْ ثبت لقاؤه لشيخه قد حدَّثَ عنه بالعنعنة بما لم يسمعه لَكَاَن بذلك مُدَلِّسًا، والفرضُ أنَّه غيرُ مُدَلِّسٍ، فكان الاتصال ظاهرا ًفي ذَلِكِ، وعُرِف من هذا أنَّ شرط البُخَارِيِّ في الاتصال أَتْقَنُ من شرطِ غيره مِمَّن اكتفى بالمُعَاصرة.
          وكذا عرفنا بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يُخرج عنهم أنَّه ينتقي أكثرهم صُحْبَةً لشيخه وأعرفهم بحديثه، وإن أخرج من حديث من لا يكون بهذه الصفة فإنَّما يُخَرِّجُ في المتابعات، أو حيث يقوم له قرينة بأنَّ ذَلِكِ مما ضبطه هذا الراوي.
          فبمجموع ذَلِكِ وصفَ الأئمةُ كتابه قديمًا وحديثًا بأنَّه أصحُّ الكتبِ الْمُصَنَّفةِ في الحديث، ولم يُنقل عن أحدٍ أنَّه خالف في ذَلِكِ، إلا ما حكى ابنُ مَنْده أنَّه سمعَ أبا عليٍّ النَّيْسَابُوريَّ يقول: ما تحتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أصحُّ من / كتاب مُسْلِم.
          وهذا وإنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ أفضلية صحيح البُخَارِيِّ على صحيح مُسْلِم، لكن لا يلزم منه أنَّ صحيحَ مُسْلِمٍ أصح منْ صحيحِ البُخَارِيِّ عند أبي عليٍّ؛ لاحتمال أنَّه يرى المساواة بينهما، وعلى تقدير أن يَثْبُتَ عن أبي عليٍّ أنَّه صَرَّحَ بذلك فهو محجوجٌ بإجماع من قبله ومن بعده على خلافه.
          وأمَّا ما حُكِيَ عن المغاربة من أنَّهم يفضلون صحيحَ مُسلِمٍ على صحيح البُخَارِيِّ، فذلك راجعٌ إلى أمر آخر، وهو أنَّه يجمع المتون في موضع واحد ولا يفرقها في الأبواب، ويسوقها تامةً ولا يُقَطِّعها في التراجم، ويحافظ على الإتيان بألفاظها، ولا يروي بالمعنى، ويفردها ولا يخلط معها شيئًا من أقوال الصحابة ومَنْ بَعْدَهُمْ في الغالب، وهذا جميعه وإن كان يستدعي أفضليته من جهةٍ فَإِنَّهُ يستدعي أفضليةُ البُخَارِيِّ من جهة أنَّه امتاز عن الوقوف عند مُطلق الجمع، واختصَّ بنفعِ الطَّالِبِ بما اسْتَنْبَطَ مِنْ فِقْهِهِ في تَرَاجِمِهِ بما يَشُوق النظر ويروق السمع، وبقي ما يتعلق بأفضلية الأصحية له مُسَلَّمًا من المخالف والموافق، ناطقًا بذلك أو مقررًا له علماء المغارب والمشارق، ذَلِكِ فَضلُ الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
          فهذا فيما يتعلق بشرطه في الصحة، وأمَّا ما يتعلق بموضوعه: فَعُرِفَ بالاسْتِقراء من طريقته، وبما تقدَّم في المفاضلة أنَّ مُسْلِمًا يجمعُ المتون في موضع واحد، والبُخَارِيَّ يُفَرِّقُهَا في الأبواب اللائقة بها، لكن رُبَّمَا كان ذَلِكِ الحديث ظاهرًا في ذَلِكِ الباب ورُبَّمَا كان خَفِيًّا، والخفيُّ رُبَّمَا حصل تناوله بالاقتضاء أو باللزوم، أو بالتمسك بالعموم، أو بالرمز إلى مخالفة مخالف، أو بالإشارة إلى أنَّ في بعض طرق ذَلِكِ الحديث ما يعطي المقصود وإنْ خلا عنه لفظ المتن الْمُسَاقِ هناك تنبيهًا على ذَلِكِ الْمُشَارِ إليه بذلك، وأنَّه صالحٌ لأنْ يُحْتجَّ به وإن كان لا يرْتَفعُ(1) إلى درجة شرطه، واحتاجَ إلى هذا وأمثاله أنْ يُكَرِّرَ الأحاديث؛ لأنَّ كثيرًا من المتون يشتمل على عِدَّةِ أحكام، فيحتاج أن يذكر في كلِّ بابٍ يليق ذِكْرُ ذَلِكِ الحكم فيه ذَلِكِ الحديثَ بِعَيْنِهِ، فإنْ ساقَهُ بتمامه إسنادًا ومتنًا طال التكرير، / وخرج عن وضع الاختصار، وإن أهمله فلا يليق به، فتصرف فيه بوجوه من التَّصَرُّفِ وهو أن ينظر في الإسناد إلى غاية من يدور عليه الحديث من الرواة، أي: ينفرد بروايته، فيخرجه في باب عن راوٍ يرويه عن ذلك المنفرد، وفي باب آخر عن راوٍ آخر عن ذلك المنفرد وهَلُمَّ جَرًّا.
          فإنْ كَثُرَتِ الأحكام عن عدد الرواة عدل عن سياقة تامَّ الإسناد إلى اختصاره مُعَلَّقًا، وهذه إحدى الحِكَم في تعليقه ما وصله في موضع آخر، وإن ضاق مخرجه كأنْ يكون فردًا مطلقًا تَصَرَّفَ حينئذ في المتن، فيسوقه تارةً تامًّا وتارة مُقتصرًا على بعضه بِحَسْبِ نشاطه وبِحَسْبِ ما يحتاج إليه في ذلك الباب.
          فَعُلِمَ من هذا أنَّه لا يكرر إلا لفائدة، ففي التحقيق لا تكرار فيه، إذ حقيقة التكرار أن يعيد بلا فائدةٍ، ولم أره خالف هذا إلا في مواضع نادرة.
          ثم إنَّهُ في حال تصنيفه كأنَّه بسط التراجم والأحاديث، فجعل لكلِّ ترجمةٍ حديثًا يلائمها، وبقيَتْ عليه تراجم لم يجد في الحالة الراهنة ما يلائمها فأخلاها عن الحديث، وبقيَتْ عليه أحاديثُ لم يَتَّضِحْ له ما يرتضيه في الترجمة عنها فجعل لها أبوابًا بلا تراجم، فيوجد فيه أحيانًا باب مترجم وليس فيه سوى آية أو كلام لبعض الصحابة أو من بعدهم، وأحيانًا باب غير مترجم وقد ساق فيه حديثًا أو أكثر، والنكتة في ذلك ما أشرت إليه.
          وممّن نَبَّهَ على ذلك الحافظُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَويُّ عن الحافظ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُسْتَمْلِي راوي الصحيح، عن الفِرَبْرِيِّ صاحب البُخَارِيِّ، وأشار إلى أنَّ بعض من نقل الكتاب بعد موت مصنفه رُبَّمَا ضمَّ بابًا مترجمًا إلى حديث غير مترجم، وأخلى البياض الذي بينهما، فيصير بعض الناس يظنُّ أنَّ هذا الحديث يتعلق بالترجمة التي قبله، فَيَتمحَّلُ لها وجوهًا من التحامل (2) المتكلفة، ولا تعلُّق لها به البتَّة، على ما أرشدنا إليه كلام الْمُسْتَمْلِيِّ.
          على أنَّ البُخَارِيَّ في هذا القدر دقيقُ النَّظَرِ جدًا، كثيرُ العناية بالاقتصار على الأخفى مع الإعراض عن الأجلى على ما سيمر إن شاء الله تعالى / في أمَاكنه.
          فهذا ما يتعلق بشرطه وشرط وضعه، وأمَّا مناسبة ترتيب أبوابه على ما هي عليه الآن، فقد وقفتُ في ذلك على مجلَّدةٍ لشيخنا شيخِ الإسلام سِرَاجِ الدِّينِ البُلْقِيني، لَخَّصْتُ مقاصدها هنا، مع ما ضَمَمْتُ إليها مما تشاكلها.
          فأقول: بدأ المصنف بقوله: (كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ)؛ لأنَّ بالوحيِّ قامت الشرائع وجاءت الرسالة، ومنه عُرف الإيمان والعلم.
          وكان أوَّله إلى النبي صلعم بما يقتضي الإيمان من ذكر الربوبية، والأمر بالقراءة، والأمر بالإنذار، فَعَقَّبَه بكتاب الإيمان، وكان الإيمان أشرف العلوم، فقال: كتاب العلم، والعلم سابق العمل، وأفضل العمل البدني: الصلاة، ومن مقدِّماتها الطهارة، فقال: كتاب الطهارة، فذكرها بأنواعها.
          ثم الصلاة بأنواعها، ثم من الأعمال ما يكون بَدَنيًّا محضًا وهو الصلاة، أو ماليًّا محضًا وهو الزكاة، أو جامعًا بينهما، فقال: كتاب الزكاة، ثم قال: كتاب الحجِّ مرتِّبًا للبسيط قبل المركب، وكان من العبادات ما هو تَرْكٌ مَحْضٌ وهو الصوم فذكره؛ لأنَّه بقية الأركان الخمسة المذكورة في حديث ابن عمر،، وترجم عن الحجِّ بكتاب المناسك لِيَعُمَّ الحج والعمرة، وكان مستحبًا لكلِّ من حجَّ أن يجتاز بالمدينة الشريفة، فذكر ما يتعلق بذلك.
          وهذه التراجم فيها معاملة العبد مع الخالق، فَعَقَّبَها بمعاملة العبد مع الخلق، فقال: كتاب البيوع، فذكر تراجم بيوع الأعيان، ثم بيعُ دَينٍ على وجه مخصوص وهو السَّلَم.
          وكان البيع قد يقع قهريًّا فذكر الشُّفعة، ولمَّا كان البيع قد يقع فيه غَبْنٌ من أحد الجانبين إمَّا في ابتداء العقد أو في المجلس، وفيها ما يقع على دَيْنَيْنِ لا يجب فيهما قبضٌ في المجلس ولا تعيينُ أحدهما فذكر الحوالة.
          وكان في الحوالة انتقال الدَّين من ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ فأردفها بما يقتضي ضمُّ ذِمَّةٍ إلى ذِمَّةٍ، أو ضَمُّ شيءٍ تُحْفَظُ به العُلقةُ وهو الكفالة والضَّمان، ثم الوكالة التي هي حفظ لِلمال.
          و لما كانت الوكالةُ فيها توكلٌ على آدمي ذكر بعدها ما فيه توكل على الله وهو الحَرْث والمزارعة، وذكر فيها متعلقات / الأرض من الموات والغَرْسِ والشِرْبِ.
          وكان يقع في كثير من ذلك إرفاقٌ فَعَقَّبَهُ بما فيه فضلٌ ورفقٌ وهو القَرض.
          ثم ذكر معاملة الأَرِقَّاء ليعمَّ جميع المعاملات.
          ولمَّا كانت المعاملات لا بُدَّ أن تقع فيها منازعات عَقَّبَها بما يلائمها، فذكر الإِشْخاص والملازمة والالتقاط.
          ولما كان الالتقاطُ وضعُ اليدِ بالأمَانة عَقَّبه بوضع اليد تَعَدِّيًا، فذكر المظالم والغصب، وما فيه غَصْبٌ ظاهرٌ وهو حقٌّ شرعيٌّ وهو وضع الخُشُب في جدار الجار ونحو ذلك.
          ولما اشتمل بعضُهُ على حقوق مشتركة وذكر فيها النُّهْبَى، ثم ذكر الاشتراك الخاص وهى الشركة، ولما كانت هذه المعاملات تتعلق بمصالح الخلق ذكر بعدها ما يتعلق بمصلحة المعاملة وهو الرَّهن.
          وكان الرَّهْنُ يحتاج إلى فكِّ رقبةٍ فَعَقَّبه بذكر العتق وتوابعه وآخره المُكاتب (3) .
          وَلَمَّا كانت المكاتبة تستدعي هِبَةً لقوله تعالى: { وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ، عَقَّبَها بالهبة وذكر معها العُمرى والرُّقبى.
          ولما كانت الهبة: نقل ملك الرقبة بلا عوض أردفها بنقل في المنفعة بلا عوض؛ وهو العارية والْمَنِيْحَةُ.
          ولما كان جميع ما تقدم يحتاج إلى استشهاد قال: كتاب الشهادات.
          ولما كانت البيِّنات قد يقع فيها تعارضٌ ترجم القُرْعَةَ في الْمُشْكِلَاتِ.
          ولما كان التعارض قد يقع فيه الصلح عَقَّبَ كتاب الصُّلْحِ.
          ولما كان الصُّلْحُ قد يقع فيه شرط عَقَّبَ بالشروط، ولما كانت الشروط قد يقع في الحياة وبعد الوفاة عَقَّبَ بكتاب الوصية والوقف.
          فلما انتهى ما يتعلق بالمعاملة مع الخالق في العبادات ثم ما يتعلق بالمعاملة مع الخلق أردفها بمعاملة جامعة لمعاملة الخالق وفيها نوع اكتساب وهو الجهاد.
          ولما كان القادمون من الجهاد قد يكون معهم الغنيمة قال: كتاب الخُمس.
          وكان ما يؤخذ من الكفار يكون تارةً بالحرب وتارةً بالمصالحة فقال: كتاب الجزية، وذكر توابعها من الموادعة والعهد.
          ولما كان الجهاد يشتمل على إزهاق الأنفس أراد أن يبين أنَّهذه المخلوقات مُحدَثات، وأن مآلها إلى الفناء، وأنَّه لا خلود لأحدٍ، فترجم بدء الخلق، وذكر فيه الجنة والنار / اللتين مآل الخلق إليهما.
          وناسب ذكر إبليسَ وجنوده عقب صفة النار؛ لأنَّهمْ من أهلها، ثُمَّ ذكرَ الجنَّ؛ لأنَّهمْ قبل خلق آدم.
          ثم ذكر خلق آدم ومَنْ بَعْده من الأنبياء، وذكر فيهم ذا القرنين ولقمان ومريم؛ لأنَّهمْ عنده أنبياء، ثم ذكر أحبار بني إسرائيل.
          ولما كان ذكر الأنبياء يشتمل على فضائلهم عَقَّبَ ذلك بمناقب هذه الأمة، وبدأ بقريش رهط النبيِّ صلعم.
          وذكر أَسْلَمَ وغِفَار؛ لأنَّهم أولُ من أسلم من القبائل، وذكرَ إسلام أَبِي ذَرٍّ؛ لأنَّه غِفَاريٌّ.
          ثم ذكر شمائلَ النَّبيِّ صلعم وعلامات نبوته، ثم فضائل أصحابه، ثم سيرته ومغازيه على ترتيب ما ثبت عنده.
          وما قُبِضَ صلعم إلا وشريعته كاملة، وكتابه قد كَمُلَ نزوله، فَعَقَّبه بكتاب التفسير، ثم ذكر فضائل القرآن، ولما كان ما يتعلق بالكتاب والسُّنَّةِ من التعلُّم والتَّفقُّه وتقرير الأحكام يحصل به حفظ الدِّين في الأقطار، وبذلك تحصل الحياة المعتبرة عَقَّبَهُ بما تحصل به الحياة الحسِّية (4) التي تقوم منها جيل بعد جيل يحفظون ذلك، فقال: كتاب النكاح.
          وذكر بعده الرَّضاع لما فيه من متعلقات التحريم، ثم ذكر باقي متعلقات النكاح.
          ولما كان النكاح اجتماعًا قد تَعْقِبُه الفُرْقَةُ قال: كتاب الطلاق.
          ولما كان الفِراق قد يكون مؤقتًا وقد يكون مؤبدًا ذكر الإيلاء، ثم الظِّهار، ثم اللِّعَان.
          ثم كان المؤقَّت يستلزم وقتًا فذكر العِدَدَ، وإذا انتهى الوقت قد تحصل المراجعة فقال: الرَّجعة.
          ولما كان العقد قد يقع صحيحًا وقد يقع فاسدًا عَقَّبَ بِمَهْرِ البَغِيِّ والنكاح الفاسد.
          ولما كان النِّكاحُ يتعلق بالزوج والزوجة منه أحكام ذكر حُكمًا يتعلق بالزوج تَعَلُّقًا مستمرًا وهو النفقة.
          ولما كانت النفقة من المأكولات عَقَّبَها بالأطعمة، ثم كان من الأطعمة ما هو خاصٌّ فَعَقَّبَها بالعقيقة.
          ولما كان فيها ذَبْحٌ قال: كتاب الذبائح، ولما كان من المذبوح ما يُصَادُ قال: الصيد.
          ولما كان الذبح يتكرر أو يَتَوَقَّتُ قال الأضاحي.
          ولما كانت المأكولات تستدعي المشروبات قال: الأشربة.
          ولما كانت المأكولاتُ والمشروباتُ / قد تَضُرُّ البدنَ قال: الطِّب، وذكر فيه تَعَلُّقَاتِ المرض وثواب المرض.
          ولما كان الآكلُ والشَّاربُ يحتاج بدنه إلى التستُّر قال: اللباس، وذكر فيه الزينة وأحكامها، والطِّيْب وأنواعه.
          ولما كان كثير منها يتعلق بآداب النفس عَقَّبَها بكتاب الأدب.
          وكان من جملة الأدب برُّ الوالدين والإحسان إلى الأقارب قال: البِرُّ والصِّلَة.
          ولما كان من جملة الإحسان ألا يدخل بغير إذن فقال: السلام والاستئذان.
          ولما كان الاستئذان يستفتح الأبواب السفلية أردفه بما يستفتح للأبواب العلوية وهو الدعاء.
          ولما كان الدعاء قد يكون سبب المغفرة عَقَّبَه بالاستغفار، ولما كانت المغفرة تهدم الذنوب عَقَّبَها بالتوبة والذكر.
          ولما كان الذكر والدعاء سببًا للاتعاظ ذَكَر الرقائق، ولما كان ما يدعي به قد يوافق القَدَر أو لا عَقَّبَ ذلك بكتاب القَدَر.
          ولما كان القَدَر قد يحال عليه الأشياء المنذورة عقَّبه بالنَّذر، ولما كان النَّذر فيه كفارة أضاف إليه الأيمان؛ لأنَّ فيها الكفارة، ثم ذكر الكفارة، ولما تمَّت أحوال الأحياء في الدنيا عَقَّبه بذكر أحوالهم بعد الموت؛ فقال: الفرائض، ولما تمَّ ذلك بغير جناية عقَّبه بالحدود، ولما كان المرتدُّ لا يكفر إذا كان مُكْرَهًا ذكر الإكراه.
          ولما كان الْمُكْرَهُ قد يُضْمِرُ في نفسه حيلةً رافعةً ذكر الحِيَل وما يحلُّ منها وما يحرم.
          ولما كان فيها ما يخفى أردفها بتعبير الرؤيا، ولما كان فيها لبعض الناس فتنة، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء:60] عَقَّبَهَا بالفتن، ولما كانت الفتن يُرجع فيها إلى الأئمة عقَّبها بالأحكام وأحوال الأمراء والقضاة.
          ولما كان ذلك قد يُتَمَنَّى عَقَّبَه بالتمنِّي.
          ولما كان مدار الأحكام على أخبار الآحاد ذكره في بابٍ.
          ولما كانت كلها تحتاج إلى الكتاب والسنة عَقَّبَها بالاعتصام بهما، ولما كان أصلُ العصمة هو توحيد الله عَقَّبَه بكتاب التوحيد.
          ولما كان آخر الأمور التي يظهر بها المفلح من الخاسر ثِقَلُ الموازين أو خِفَّتُها جعل آخر تراجم أبوابه بابُ قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ..}الآية [الأنبياء:47] وأنَّ أعمال بني آدم تُوزَنُ.
          فبدأ ببدء الوحي إذ به ظهرت حكمة بدء الخلق لقوله تعالى: / {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وختم بآخر الأحوال الموجبة للاستقرار.
          وافتتح بحديث: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وختم بكون الأعمال توزن، وأشار بذلك إلى أنَّه إنَّما يثقل منها ما كان خالصًا، وأورد فيه حديث: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ).
          فقوله: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ) فيه ترغيب للتخفيف.
          وقوله: (حَبِيبَتَانِ) فيه حث على ذكرهما لمحبة الرَّحمن.
          وقوله: (ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ) فيه إظهار ثوابهما، وهاتان الكلمتان معناهما جاء في ختام دعاء أهل الجنة، وذلك في قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] .


[1] أشار في حاشية الأصل إلى أنَّه في نسخة: ((لا ينتهي)).
[2] أشار في حاشية الأصل إلى أنَّه في نسخة: ((المحامل)).
[3] أشار في حاشية الأصل إلى أنَّه في نسخة: ((الكتابة)).
[4] أشار في حاشية الأصل إلى أنَّه في نسخة: ((الجسمية)).