النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح

باب صوم الصبيان

          ░47▒ باب صَوْمِ الصِّبْيَانِ
          ظاهر الترجمة وما ذكر فيها إسنادًا وتعليقًا أنَّ البخاريَّ يذهب إلى أنَّ صوم الصبيان مشروع أو مرغب فيه، وهو مذهب الشافعيِّ وأحمد مع اختلاف ما.
          وهذه مسألة معضلة، فقد ثبت: أنَّ الصبيان يؤمرون بالصلاة لسبع ويضربون عليها لعشر سنين، وذلك ممَّا يجب على أوليائهم دون تعلُّق الخطاب بالصبيان أنفسهم؛ لأنَّهم ليسوا بمكلَّفين.
          وقد عُلِّل ذلك بأنَّ المقصود أن يتعوَّدوا بالصلاة كيلا يتثاقلوا عنها إذا بلغ الحلم، فأمَّا الصوم فيتجاذبه دليلان متعارضان:
          أحدهما: قصد التعوُّد مثل الصلاة.
          والآخر: المشقَّة على الصبيان، لضعف أمزجتهم، وضعف صبرهم، وعدم رجائهم منه ثوابًا. /
          وهذا الثاني أرجح من الأول؛ لأنَّ نظيره كان مسقطًا الصوم على من وجب عليهم، مثل الحائض والمسافر، فيجب أن يكون هو المعتمد في التفقه لضعف الدليل الأول في حدِّ ذاته، وكون الثاني كالمانع القائم في وجه ذلك الدليل.
          وأقوى ما في المسألة من الآثار هو حديث الرُّبَيْع؛ أنَّها قالت في صوم عاشوراء: فكنَّا نصومه بعدُ، ونصوِّم صبياننا. وهو حجة الشافعيِّ، ولم يأخذ به مالك؛ لأنَّه غريب فيما تتوفر الدواعي على نقله، ولا يخفى العمل به، فلا يصلح لمناهضة دليل عدم مشروعية الصوم للصبيان؛ إذ يتعيَّن أنَّها أرادت صيام عاشوراء بعد نسخ وجوبه، بدليل قولها: «أرْسَل النبيُّ صلعم غداة عاشوراء إلى قُرَى الأنصار: مَنْ أصبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بقية يَوْمه، ومَنْ أصبَح صائمًا فَلْيَصُم».
          ولهذا لم يخرجه البخاريُّ في باب صوم عاشوراء؛ إذ قصاراه أنَّه اقتضى صومًا غير واجب، وذلك ثابت بالأيام كلِّها عدا أيام النهي؛ فيكون تصويم صبيانهم فيه غير مقصود به القربة؛ إذ لا يقول أحد بأنَّ الصبي يؤمر بالتعود على النوافل. وكَفَى بهذا اعتلالًا في الاستدلال بحديث الرُّبيع؛ على أنَّه لم يصحبه عمل بالمدينة.
          وأمَّا ما علَّقه البخاريُّ عن عُمَر بن الخطاب فهو غير صحيح سنده، فإذا كان عمر قد قال ذلك في نفس الأمر فمحمله على أن كثيرًا من الصبيان إذا ميَّزوا يرغبون في مشاركة أهليهم في الصوم، ويمتنعون عن الأكل في النهار، و ربما أخفوا صومهم عمن يمنعهم منه من أهليهم، كما هو مشاهد، فأراد عمر تفظيع حال هذا النشوان، بأنَّ الصبيان أحرص منه على الاتسام بفضيلة الصوم، وأنَّه لقلة مروءته فعل ما فعل؛ وكان من الشأن أنَّه إن لم يخش من الإفطار عقابًا فليتجنَّبه مروءة. /
          وعندي أنَّه يحسن بالأولياء أن يعوِّدوا صبيانهم الذين قاربوا المراهقة على الصوم اليوم واليومين والثلاثة على حسب تفاوت أسنانهم وقواهم، ليشبُّوا على ذلك.