المقاصد السنية في شرح حديث إنما الأعمال بالنية

الباب الثالث: في بيان أنه من جوامع الكلم

          الباب الثَّالث: في بيان أنَّه من جوامع الكلِم المحمَّديَّة، وسرْد نظائره في هذه الخصوصيَّة:
          قد تواتر النَّقل عن الأئمَّة بتعظيم موقعِه، وكثرة فوائده، وأنَّه أصلٌ عظيمٌ من أصول الدِّين، قال أبو عُبيدة(1): ليس في الأحاديث أجمعُ وأغنى وأكثر ُفائدةً منه، ومن ثمَّ قال بعضهم: إنَّه نصف العلم، ووجهه: أنَّه من أجلِّ أعمال القلب والطَّاعة المتعلِّقة به، وعليه مدارُها، فهو قاعدة الدِّين، وأعمال القلب تقابل أعمال الجوارح، بل تلك أجلُّ وأفضل، بل هي الأصل، فكان نصفًا، بل أعظم النِّصفين؛ لِما تقرَّر أنَّ النِّيَّة عبوديَّة / القلب، والعمل عبوديَّة القالب، أو لأنَّ الدِّين إمَّا ظاهر وهو العمل، وإمَّا باطن وهو النِّيَّة.
          وقال الشَّافعيُّ وأحمد: إنَّه ثلث العلم؛ لأنَّ الأحكام تدور عليه وعلى حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ» وحديث: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن»، ووجَّه البيهقيُّ كونَه ثلثًا بأنَّ كَسْب العبد إمَّا بقلبه، أو بلسانه، أو بجوارحه، فالنِّيَّة أحدها وأرجحها؛ لأنَّهما تابعان لها صحَّةً وفسادًا، وثوابًا وحرامًا، ولا يتطرَّق إليها رياءٌ ونحوُه، بخلافهما.
          هذا وقد قال أبو داود: مدار الدِّين على أربعة أحاديث، نظمها بعضُهم بقوله:
عمدة الدِّين عندنا كلماتٌ                     أربعٌ من كلام خير البريَّة
اِتَّقِ الشُّبهات وازهد ودعْ                     ما ليس يعنيك واعمل بنيَّة
          ولكنَّ المعروف عن أبي داود: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه» بدل حديث: «ازهد بما(2) في أيدي النَّاس».
          وذكر أبو بكر بن فراشة بدل حديث الزُّهد حديث: «لا يكون المؤمن مؤمنًا حتَّى يحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه».
          فانظر إلى وَجازة ألفاظه الشَّريفة، وسَعَة فوائده المنيفة، كيف وقد قال صلعم: «أُوتيتُ جوامع الكَلِم، واختُصِر لي الكلام اختصارًا»؟!
          فمن جوامع عباراته ورقائق براعاته: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات»، فإنَّ تحته كنوزًا من العلم كما يأتي، «كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله»، «ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»، «والله يحبُّ إغاثة اللَّهفان»، «صنائع المعروف تقي مصارع السُّوء، وصدقة السِّرِّ تطفئ غضب الرَّبِّ، وصلة الرَّحم تزيد في العمر»، «العبد عند ظنِّه بالله وهو مع من أحبَّ»، / «من غشَّنا؛ فليس منَّا»، «المستشار مؤتمَن»، «حبُّك الشَّيء يُعمي ويصمُّ» وليس بموضوع، بل حسنٌ، خلافًا لمن وهم فيه، «الاقتصاد في النَّفقة نصف المعيشة، والتَّودُّد إلى النَّاس نصف العقل، وحُسْن السُّؤال نصف العلم»، «حسن العهد من الإيمان»، «الحربُ خدعةٌ» بتثليث حركاته، «كل الصَّيد في جوف الفَرا» بفتح الفاء: حمار الوحش، «إيَّاكم وخضراء الدِّمن؛ المرأة الحسناء في المنبت السُّوء»، «النِّساء حبائل الشَّيطان»، «ما أسرَّ عبدٌ سريرةً إلَّا ألبسه الله ردائها، إن خيرًا؛ فخير، وإن شرًّا؛ فشرٌّ»، «أَشكر النَّاس لله أشكرهم للنَّاس»، «أنزلوا النَّاس منازلهم»، «إنَّ الله كريمٌ يحبُّ الكريم، ويحبُّ معاليَ الأخلاق ويكره سفاسفها»، «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله»...
          إلى غير ذلك ممَّا لا يُحصى ولا يُعَدُّ، ولا غاية له ولا حدٌّ، فقد جمع الأئمَّة _كابن السُّنِّي والقُضاعيِّ وابن الصَّلاح وآخرين_ من كلامه المفرَد الموجَز الَّذي لم يسبق إليه دواوين، وفي «الشِّفا» منه ما يشفي العليل، والله يهدي إلى سواء السَّبيل.


[1] هكذا في الأصل، ويوافقه ما في فيض القدير للمناوي، وبعضهم نسبه لأبي عبد الله كما في فتح الباري، وبعضهم لأبي عبيد فليحرر.
[2] في الأصل: (ما).