المقاصد السنية في شرح حديث إنما الأعمال بالنية

المقدمة

          ♫
          الحمد لله الَّذي ناط بحسن النِّيَّة إحسان الأجر، وجعل لكلِّ امرئٍ ما نوى من خيرٍ وشرٍّ، والصَّلاة والسَّلام على خير الخليقة، الموضِّح لنا دقائقَ الشَّريعة في الحقيقة، سيِّدنا محمَّد صاحب المقامات، القائل: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات»، وعلى آله الَّذين صدقوا فيما نوَوه واعتمدوه، وصحْبِه الَّذين تمسَّكوا بالحقِّ فيما نحَوه وشرعوه.
          وبعد؛ فيقول الفقير عبد الله الصُّوفيُّ الطرابلسيُّ الحنفيُّ، عامله الله تعالى بلطفه الخفيِّ:
          لمَّا أنارتْ بلاد الشَّام، وأمست ثغورها ذاتِ ابتسام، بإشراق بدر الوزراء، إنارة شمس الدَّولة الغرَّاء، حامي حِماها، ورافع لِوائها، من أزال ظلام الظُّلم والجَور بنوره المبين، وعاد بصلة عدله ومعروفه على الَّذين أمسَوا بسهام البغي مصابين، صديق دولة آل عثمان، وعليِّها الَّذي أشبه الفاروق بفرقه بين الحقِّ والبهتان، المشير المعظَّم، والوزير المفخَّم، سميُّ المصطفى محمَّد، وشرف الكون الموطَّد، من هو لجسم الخلافة فؤاد، ولسماء عدلها عماد، وزير الخارجيَّة، وأمين الدَّولة العليَّة، أدام الله وجوده، و أبَّد سعوده.
مشيرٌ لبيت الملك خير عماد                     أنال بلاد الشَّام كلَّ مراد
أزاح ظلام الظُّلم بالهمَّة الَّتي                     غدا سابقًا فيها لكلِّ جواد
وأخمد نار البغي من بعد ما غدا                     على الشَّام فيها بالنوائب غادي /
له نيَّة حسناء فيما يُبِينه                     بها لأمور الملك كلُّ سداد
وقد شدَّ أزْر الملك لمَّا عدا على                     أولي البغي مستقصٍ لكلِّ فساد
فمنه له في كلِّ حادث                     تسلُّط شدَّادٍ وسَطوة عاد
دُعِي بفؤادٍ في البرايا تفرُّسًا                     لمعنًى به للخلق كلُّ رشاد
وذلك أنَّ الملك كالجسم دونه                     وذاك لهذا الجسم خير فؤاد
          وكان تشريفه ليُنير الظُّلمة، ويكشف الغمَّة، وما اعتمدت عليه الدَّولة الغرَّاء، وناطت به المهمَّ دون سائر الوزراء؛ إلَّا لأنَّه الفؤاد الصَّالح الَّذي ينصلح سائر الجسد بصلاحه، وتفرَّست أنَّه الكافي لهذا المهمِّ؛ لِما تحقَّقت من صدقه ونجاحه، ولَعمري لقد أعطت القوس باريها، وأنزلت الدَّار بانيها، فليس لنا إلَّا التَّضرُّع بالدُّعاء، ورَفْع الأكفِّ لربِّ الأرض والسَّماء؛ بأن يؤبِّد سرير الدَّولة العظمى، ويُثبِّت دعائم ملكها المنيع الأسمى، فإنَّها نشرت مراحم عدلها على الجميع، واستوى عندها في الحقوق الواجبة الرَّفيعُ والوضيع، فأدامها الله تعالى مؤيَّدة إلى انتهاء الزَّمان، ولا زالت منيعةَ الحفظ بعين عناية الرَّحمن.
          وحيث نهض بأعباء ما فُوِّض إليه، وعُوِّل دون رجال المملكة به عليه، وقد أحجم عن ذلك أولو الحلِّ والعقد، وتقاعد عن القيام به كلُّ ذي جد، لاح لي أنَّه حسن النِّيَّة في ذلك العمل، بريء فيما فُوِّض إليه من الخطأ والخطَل، لا بغية له سوى إنارة هذا الظَّلام، ورفع الضَّرر عن جميع الأنام.
          فرأيتُ أن أُقدِّم خدمةً لدولته ما هو وظيفةُ مثلي من الخدامات، رسالة تتضمَّن شرح «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات»، فشرعت فيما قصدت، وشمَّرت عن / ساعد الجدِّ فيما اعتمدت، وقد حصرتُ ما فيها بأربعة أبواب وخاتمة، هي باتِّصال سنَد مؤلِّفها شاهدةٌ وحاكمة، فجاءت بحمد الله تعالى رسالةً بديعة المعاني، تَسُرُّ من لها يُعاني، لخَّصت فيها نُتفًا تزري بـ«تلخيص المفتاح»، ونقَّحت بتوضيح معانيها بدائع دونها «التَّنقيح» و«الإيضاح»، من سرَّح طَرَف طَرْفِه في رياضها، وأورد ظَمآن فكره من شريعة حياضها؛ صدر ريَّانَ من المعاني البديعة، ووقف على الحقيقة من تلك الشَّريعة، وسمَّيتها «المقاصد السَّنيَّة، في شرح إنَّما الأعمال بالنِّيَّة»، فإذا نالتِ القَبول من مكارم دولة المشير المشار إليه؛ فقد ظفرتْ ببُغيتها وفازت بما عوَّلت عليه.
          أمُدُّ أكفَّ الضَّراعة والابتهال، لباري البرايا ذي الجلال، بأن يديمه غوثًا لكلِّ ملهوف، وغَيثًا بكلِّ معروف، ما لازمتِ الأقلام طاعة الباري، وأمست في خدمته جواري.
وهذا دعاءٌ قد أُجيب لأنَّنا                     إذا ما دعونا أمَّنتْنا الملائكُ
          وقد آن الشُّروعُ في المقصود، بعون عناية الملِك المعبود، فأقول بعد الاعتماد، على فيض الكريم الجواد: روى البخاريُّ في «صحيحه» عن أمير المؤمنين سيِّدنا عمر بن الخطَّاب ☺ أنَّه قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه»، وسنذكر بعض رواياتٍ فيه.