مطالع الأنوار على صحاح الآثار

المقدمة

          ♫
          رب يسِّر بعَونِك(1)
          [قال الشَّيخُ الفقيهُ الحافظُ أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ يوسفَ بنِ إبراهيمَ الحمزيُّ هو ابنُ قُرقُول ⌂](2) :الحمدُ لله مُظهِرِ دينِه على كلِّ دينٍ، وحافظِه من شُبَه المُبطِلين، وباعِثِ رَسولِه الأمين، إلى كافَّة الخلقِ أجمَعِين، بكتابه الحقِّ المُبينِ، مَعصُومةً بالإعجازِ حروفُه ومَعانِيه، محفُوظةً بالبَلاغةِ والإيجاز أساليبُه ومَبانِيه، فما قَدَر العدُوُّ الجاحدُ على إلحاقِ خللٍ به؛ بتَبديلِ لَفظةٍ من ألفاظِه، ولا تَغيِير معنًى من مَعانِيه، مع كَثرةِ الجاحدِ الجاهدِ على إطفاءِ نُورِه، وظُهرَةِ المُعادِي المُعانِد لظُهورِه، حِفظاً من الله تعالى له كما وعَد، وتعجيزاً لمن رَامَ ذلك ممَّن عانَد وجحَد.
          ثم بيَّن سُبحانَه على لسانِ نَبيِّه صلعم من مَناهِج دِينِه وشِرعَته ما وكل نفيَ التَّحريفِ عنه إلى عدُولِ أعلامِ الهُدى من أُمَّته، فلم يزالوا يذبُّون عن حِمَى السُّننِ، ويقُومُون لله تعالى بهَديِهم القَويمِ الأحسَنِ، وينبِّهون على كلِّ مُبهمٍ(3) بهَتكِ حَريمِها، ومَزجِ صَحيحِها بسَقيمِها، حتَّى بان الصِّدقُ من المَينِ، وتبيَّن الصُّبحُ لذي عينَينِ، وتميَّز الخبيثُ من الطَّيبِ، وتبيَّن الرُّشدُ من الغَيِّ، واستَقام بحَمدِ الله مِيْسمُ الصَّحيح، وأبدَى الرُّغوَة عن الصَّريحِ.
          ثم نظَروا _بعد هذا التَّميِيزِ العَزيزِ، والتَّصريحِ المُريحِ_ نظراً آخرَ فيما يقَع لآفةِ البَشرِيَّة من ثِقاتِ الرُّواةِ من وَهْمٍ وغَفلَةٍ، فنقَّبوا عن أسبابِها، وهتَكُوا سُجُفَ حِجابها، إلى أن وقَفُوا على سرِّها، ووقَعوا على خَبيئةِ أمرِها، فأبانوا عِللَها، وقيَّدوا مُهملَها، وأقامُوا مُحرَّفها، وعانوا سَقِيمَها، وصحَّحوا مُصحَّفها، وأبرَزوا في كلِّ ذلك تصانيفَ كثُرت صنُوفها، وظهَر شفُوفُها، واتَّخذَها العالَمون قُدْوةً، ونصبَها العالِمُون قِبلةً، فجزاهُم / الله عن سَعيهِم الحَميدِ أحسنَ ما جازى به أحبارَ ملَّةٍ وعُلماءَ أُمةٍ.
          ثمَّ كلَّت بعدَهم الهِممُ، وفتَرت الرَّغائبُ، وضعُف المَطلوبُ والطَّالبُ، وقلَّ القائمُ مَقامَهم في المَشارقِ والمَغاربِ، وصار جهد المُبرَّز منهم في حملِ علمِ السُّنن نقلَ ما أثبت في كِتابِه، وأداءَ ما قيَّد فيه، دون مَعرِفةٍ لخطئهِ من صَوابِه، إلَّا آحاداً من مَهرةِ العُلماءِ، وجَهابذةِ الفُقهاءِ، وأفراداً كدَرارِي نُجومِ السَّماءِ، ولعَمرُ الله! إنَّ هذه بعدُ لَخِطَّةٌ أعطى صاحبُ الشَّريعةِ صلعم المُتَّصفَ بها حظَّه من الأجرِ وقِسطَه، إذا وفَّى عملَه شَرطَه، وأتقَن حِفظَه وضَبطَه.
          كما حدَّثنا الشَّيخُ الفَقيهُ الحافظُ أبو بَكرٍ محمَّدُ بنُ عبدِ الله بنِ محمَّدٍ المَعافريُّ قِراءةً عليه، حدَّثنا المباركُ بنُ عبدِ الجبَّارِ الصَّيرفيُّ، حدَّثنا أبو يَعلَى أحمدُ بنُ عبدِ الواحدِ بنِ محمَّدٍ، حدَّثنا أبو عليٍّ الحسنُ بنُ محمدِ بنِ شُعبَةَ المَروزيُّ، حدَّثنا أبو العبَّاسِ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ محبُوبٍ، حدَّثنا محمَّدُ بنُ عيسَى السُّلميُّ الحافظُ، حدَّثنا محمودُ بنُ غَيلانَ، حدَّثنا أبو داود الطَّيالسيُّ، حدَّثنا شُعبةُ، قال: أخبَرني عمرُ بنُ سُليمانَ _من ولد عمرَ بنِ الخطَّابِ_ قال: سمِعتُ عبدَ الرَّحمن بنَ أبانَ بنِ عُثمانَ يحدِّث عن أبيه، عن زيدِ بنِ ثابتٍ، قال: سمِعتُ رسولَ الله صلعم يقول: «نضَّرَ الله امرَأً سمِعَ مِنَّا حديثاً؛ فحَفِظَه حتَّى يبلِّغَه غيرَه، فرُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفَقِيهٍ، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه»(4)، فدعا صلعم بالنَّضْرةِ لمن سَمِع منه حديثاً فحَفِظه حتَّى يبلِّغه غيرَه.
          وقد كان فيمَن تقدَّم مَن سلَك هذا السَّبيل مِن الاقتصارِ على أداء ما سمِع ووعَى، وتَبليغِ ما قيَّد وروَى، دون تكلُّفِ ما لم يُحِط به علماً من تَبديلِ لَفظٍ، أو تَأويلِ معنًى، وهذه رُتبةُ أكثر الرُّواةِ والمَشايخِ المُتقدِّمين، وأمَّا الإتقانُ وجَودةُ المَعرفةِ؛ ففي الأعلامِ منهم والأئمةِ المَشهُورِين.
          ثمَّ تسَاهَل النَّاسُ بعدُ في الحَملِ والأداءِ، فأوسَعُوا اختلالاً، ولم يألوه خَبالاً، وربَّما شاهَدنا الشَّيخَ المَسموعَ بشَأنِه وثَنائِه، المُتكلَّفَ شاقِّ الرِّحلةِ / إلى لقائه، تَنتظِم به المَحافل، ويتناوَب الأخذَ عنه ما بين نَبيهٍ وخاملٍ، وفقيهٍ وجاهلٍ، وحضورُه كعَدمِه، وبناؤه كهَدمِه، كتبُه مُهمَلةٌ من التَّقييدِ والضَّبطِ، مُسجَّلةٌ من غير شَكلٍ ولا نَقطٍ، ثمَّ لا وَعيٌ ولا حِفظٌ، ولا نصِيبٌ من العِنايةِ بشَيءٍ ممَّا يتَعاطَاه من الرِّوايةِ، ولا حظَّ سوَى: «لقِيتُ فلاناً»، و«أجازَني فُلان»، و«أذِن لي فُلانٌ»، و«سمِعتُ على فُلانٍ»، وكلُّه أو أكثَرُه زخارفُ وهذَيانٌ، لا تحصِيل ولا تَوصِيل، إن سُئل عن تَقيِيدِ(5) لَفظٍ أو تَحقيقِ معنًى جَبَه السَّائلَ، وعاب المَسائلَ، أو طُولِب بتَأويلِ مُشكلٍ، أو إقامةِ إعرابٍ، طوى الكِتابَ، وسدَّ البابَ، وهجَر الأصحابَ، وزعَم أنَّ البَحثَ والطَّلبَ من سُوءِ الأدبِ، قد حَمَى حِمَى جَهلِه بالنَّجهِ(6) وتَقطيبِ الوَجهِ.
          فلا جرمَ بحَسبِ هذا الخلَلِ، وتظاهُر هذه العِلَل في كثيرٍ من أشياخ الرِّوايةِ، المَحرُومِين فضلَ المَعرفةِ والدِّرايةِ، المُريحِين أنفسَهم من كَدِّ البَحثِ والعِنايَةِ؛ كثُرَ في كتُب الحَديثِ التَّغيِيرُ والفَسادُ، تارةً في المَتنِ، وتارةً في الإسنادِ، وشاع التَّحريفُ، وبشُع التَّصحيفُ، وتعدَّى ذلك مَنثورَ الرِّواياتِ إلى مجمُوعِها، وعمَّ أصولَ المُصنَّفاتِ مع فرُوعِها.
          فلولا أنَّ الله سُبحانَه وتعالى قيَّضَ لإقامةِ أوَدِها ومُعاناةِ رَمدِها صُباباتٍ من أهلِ الإتقانِ في كلِّ زَمانٍ لاستمرَّ على الكافَّةِ تحريفُها، واستقرَّ في مَوضُوعاتِ السُّنَنِ تَبديلُ الجَهلةِ وتَحرِيفُها وتَصحِيفُها، لكِنَّ قولَ الرَّسول صلعم حقٌّ، ووعدُ الله تعالى إيَّاه صِدقٌ.
          كما حدَّثنا الشَّيخُ الفَقيهُ أبو القاسمِ أحمدُ بنُ محمدِ بنِ بَقِيٍّ، والشَّيخُ أبو الحسنِ عليُّ بنُ عبدِ الله بنِ مَوهَبٍ الجُذامِيُّ، قالا: حدَّثنا الشَّيخُ أبو العبَّاس أحمدُ بنُ عمرَ بنِ أنسٍ العُذْريُّ، حدَّثنا أبو بكرٍ أحمدُ بنُ محمَّدِ بنِ أحمدَ البزَّازُ المَكِيُّ، حدَّثنا أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ الحُسينِ(7)، حدَّثنا أبو بَكرٍ جَعفرُ بنُ محمَّدٍ الفِريابيُّ، حدَّثنا قُتيبَةُ، حدَّثنا سعِيدُ بنُ عَبدِ الجبَّارِ الحِمصيُّ، حدَّثنا مُعاذُ(8) بنُ رِفاعةَ السُّلاميُّ، حدَّثنا إبراهيمُ بنُ عبدِ الرَّحمن العُذْريُّ، أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عُدولُه، ينفُون عنه تحريفَ الغالِينَ، وانتحالَ / المُبطِلِينَ، وتأويلَ الجاهِلِينَ»(9).
          فلذلك ما انتهَض الجهابِذةُ النُّقادُ مع مرُورِ الأزمان واختِلافِ البُلدانِ إلى حِراسَةِ ذلك بقَدرِ ما أوتُوه من العِلم والبَيانِ، والتَّبريزِ في علمِ اللِّسانِ، فمن بين غالٍ ومُقصِّرٍ، ومُقلِّدٍ ومُستَبصرٍ، وعارفٍ مُدركٍ، ومُتكلِّفٍ مُرتبِكٍ، فمنهم مَن جَرُءَ وجسَر، وأقدَم على إصلاحِ ما غُيِّر(10)، على حسبِ ما بدا له وظهَر، كلٌّ بمُنتهَى علمِه، وقدْرِ إدرَاكِه، فربَّما كان غلَطُ بعضِهم في ذلك أبشَعَ من استِدراكِه، ولأنَّ بابَ التَّغيِيرِ للرِّوايةِ متى فُتِح لم يُوثَق بعدُ بتَحمُّلِ مَنقُولٍ، ولم يُؤنَس إلى الاعتِدادِ بمَسمُوعٍ، مع أنَّه قد لا يُسلَّم له ما رواه، ولا يُوافَق على ما أتاه؛ إذ {فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:76].
          ولهذا ما رأى المُحقِّقون سدَّ باب نَقل الحَديث على المعنَى، وشدَّدوا فيه، وهو الحقُّ الذي أعتَقِدُه، والشَّرعُ الذي أذُبُّ عنه وأتقلَّدُه؛ إذ بابُ الاحتمالِ مُتَّسعٌ، وظاهرُ الكَلامِ للتَّأويلِ مُعرَّضٌ، وأفهامُ البَشرِ مختَلِفةٌ، وآراؤهم مُتفرِّقة، والمرءُ مَفتُون بكَلامِه، ومُغتبِط بفَهمِه واستِدلَاله، والمُغترُّ يعتَقِد الكمالَ لنَفسِه.
          فلو فُتِح هذا البابُ، وسُومِح في نَقلِ السُّننِ منها لذَوِي الألبابِ على معنَى ما يَنفَتح(11)؛ لتَغيَّر المَسمُوع، ولم يتحقَّق أصلُ المَشروعِ، ولم يكن الآخرُ بالحُكمِ على كلامِ الأوَّل بأولَى مِن كَلامِ مَن بعدَه عليه، فيتَعارَض التَّأويلُ، وتتَهافَت الأقاويلُ.
          وكفَى حُجَّةً على دَفعِ هذا الرَّأي الأفيلِ(12) دعاؤُه صلعم بالنَّضرةِ لمن سَمِع قولَه فأدَّاه على حسَبِ ما وعاه، ففيه حجَّة وكِفايةٌ، تدفَعُ رأي مَن رأى تبديلَ لفظِ الرِّوايةِ، بل نقلُها على حسَبِ ما سُمِعَت هو الواجبُ.
          ثمَّ تَسلِيمُ التَّأويلِ لأهلِ الفَهمِ والفِقهِ لازِمٌ، فهُم أحقُّ بالتَّأويلِ، وأهدَى إلى السَّبيلِ، كما قال ╕: «رُبَّ حامِلِ فقهٍ ليس بفَقِيهٍ، وربَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أفقَه منه»(13).
          وفيه التَّنبيهُ على اختلافِ مَنازلِ النَّاسِ في الفِقهِ، وتَفاوُتِهم في الفَهمِ، فتَعيَّن الصَّوابُ مِن هذَين / الرَّأيَين في رأيِ مَن رأَى إقرارَ الرِّوايةِ والسَّماعِ على ما رَوَىَ وسَمعَ(14)، فإن رُزِق فضلَ فَهمٍ، وزِيادةَ فِقهٍ، نبَّه على ما ظهَر له فيها من خلَلٍ؛ من غير أن يُغيِّر فيها أو يُبدِّل، فيجمَعَ بين الأمرَين، ويترُكَ لمن جاء بعدَه النَّظرَ في اللَّفظَين.
          وهذه كانت طَريقةَ السَّلفِ فيما ظهَر لهم من الخَللِ، كانوا يُورِدُونه كما سمِعُوه، ويُنبِّهون عليه في حواشي كتُبِهم لمن جاء بعدَهم، ومنهم مَن كان يُسقِط ما بان له اعتلاله(15) ممَّا لا شكَّ فيه، ويُبقِي مكانَه من الكِتابِ أبيضَ، وقد وقَع من ذلك في مُصنَّفات السُّننِ ما سَنُوقِفُ عليه إن شاء الله تعالى، ونُشير في مَظانِّه إليه، وهي الطَّريقةُ السَّليمةُ، ومَذاهبُ الأئمَّة القَوِيمَةُ.
          وأمَّا الجَسارةُ فرُبما عادَت بخَسارَةٍ، فكثِيراً ما رأينا مَن نبَّه بالخطإِ على الصَّوابِ، وتولَّج المَنزلَ من غيرِ البابِ، كما فعَل الشَّيخُ أبو عبدِ الله محمَّدُ بنُ وضَّاحٍ في كثيرٍ من إصلاحَاته على يحيَى بنِ يحيَى ⌂ رِوايَته في «الموطَّأ»، فصار هو في أكثَرِها المُخَطَّأ المُبَطَّأ، وكذلك ما تجاسَر عليه القاضي أبو الوَليدِ هشامُ بن أحمدَ الوَقَّشِيُّ ☼ من إصلاحَاته في «الصَّحيحَين»، وفي استِدراكه على ابنِ إسحاقَ في «سِيَره».
          فبحَسبِ هذه الإشكالاتِ والإهمالاتِ الواقِعَةِ في مُصنَّفاتِ الحَديثِ الثَّلاثِ، التي هي كفُّ(16) الإسلامِ، الحاوِيةُ لمُعظَمِ شَرائعِه وسُننِه، في أحسَن تَصنيفٍ، وأبدَع نِظامٍ، التي هي «الموطَّأ» و«صَحِيحا البُخاريِّ ومُسلمٍ ⌐»، انتَدَبتُ إلى بيانِ ما سمَح به ذُِكرِي، واقتدَحَه فِكرِي، ووعَاه حِفظِي، وانتهَى إليه قَسمِي من هذا العِلم وحظِّي، بعد أن استَخَرت الله سبحانه وتعالى فيما نوَيتُه مِن ذلك، وسَألتُه التَّوفيقَ والإرشادَ إلى طريقِ السَّدادِ.
          واقتصَرتُ على هذه المُصنَّفاتِ المَذكورَاتِ؛ إذ هي الأصولُ المَشهُوراتُ، المُتداولاتُ بالرِّوايةِ، المُتعقَّباتُ بالتَّفقُّه فيها والدِّرايةِ، فهي أصولُ كلِّ أصلٍ، ومُنتهَى كلِّ غايةٍ في هذا البابِ وفَصلٍ، عليها مدارُ أندِيةِ السَّماعِ، وبها عمارَتُها، وهي مَبادِئ علُومِ الآثارِ وغايَتُها، ومَصاحِفُ السُّنَّن ومُذاكرتُها، وأحقُّ ما / صُرِفت إليه العِنايةُ، وشُغِلت بها(17) الهمَّةُ.
          ولا أعلَم أنَّ أحداً قبلي أَلَّف على مجمُوعِ هذه المُصنَّفات كِتاباً مُفرَداً تقلَّد عُهدَةَ ما تقلَّدتُه من بيانِ مُشكلِها، وتَقيِيدِ مُهمَلِها، ووَسمِ مُغفَلِها، وشَرحِ ألفاظِ غَريبِها، وضَبطِ أسماءِ رِجالِها، وإزاحَةِ إشكالِها، إلى ما بيَّنت فيه من اختِلافِ نقلَتها في ألفاظِ مُتونِها، وأسماءِ رُواتِها.
          ثمَّ لمَّا أجمَع عَزمِي على النَّظرِ في ذلك، والتَّفرُّغِ له وَقتاً مِن نهاري وليلي، قسَمتُ له حظَّاً من تكَالِيفِي وشُغلِي، بالجُلوسِ للعامَّةِ للتَّذكيرِ والتَّعليمِ، ثمَّ للخاصَّةِ للرِّوايةِ والتَّسميعِ، رأيتُ ترتِيبَ هذا الغَريبِ على حرُوفِ المُعجَمِ أقربَ وأفهَمَ، وأخلصَ من التَّكرارِ للألفاظِ بحسبِ تكرُّرِها في هذه الأمَّهاتِ وأسلمَ، تيسِيراً على الطَّالبِ، ومعُونةً للمُجتَهدِ الرَّاغبِ.
          فإذا وقَف قارِئُ مُصنَّفٍ من هذه المُصنَّفاتِ على لفظٍ غَريبٍ، أو كلِمَةٍ مُشكِلةٍ، أو إسمِيَّة مُهملَةٍ؛ فزع إلى الحرفِ الذي في أوَّلها، إن كان صحِيحاً طلَبَه في الصَّحيحِ، وإن كان مُضاعفاً أو مُعتَلَّاً أو مَهمُوزاً طلَب كلَّاً في بابِه، ونسَقتُ أبوابَه على نَسقِ حرُوفِ المُعجَمِ عندنا بالمَغربِ(18).
          وبدَأتُ في أوَّلِ كلِّ حَرفٍ منه بالألفاظِ الواقِعَةِ في متُونِ الأحاديثِ، دون أسماءِ الرِّجالِ والبِقاعِ، ثمَّ إذا فرَغتُ مِن جميعِ الحروفِ عطَفتُ عليه بأسماءِ الرُّواةِ والبِقاعِ، هكذا حرفاً بعد حرفٍ إلى آخرِ الحُروفِ مُقيِّداً كلَّه بما يعصِمُه إن شاء الله تعالى من التَّغيِيرِ والتَّصحِيفِ، والتَّبديلِ والتَّحريفِ، ليكون عِصمةً لمن اعتَصَم به، وعِياذاً لمن لجَأ إليه من أصحابي الآخذين عنِّي، فمَن فاته شيءٌ من التَّقيِيدِ عنِّي بغَفلَةٍ أو نِسيانٍ أو تَضيِيعٍ وإهمالٍ استَدرَكه من هذا الكِتابِ إن شاء الله.
          ثم ليعلَم قارئُ هذا الكِتابِ أنِّي لم أضَعْه لشَرحِ اللُّغاتِ، وتَفسيرِ المَعانِي، وتَبيِينِ وُجوهِ الإعرابِ، بل لحفظِ الرِّوايةِ، وتَقييدِ السَّماعِ، وتَميِيزِ المُشكلِ، وتَقييدِ المُهملِ، وفَتحِ ما استَغْلَقَ من تلك اللُّغاتِ، وتَوجِيه ما اختلفَت فيه الرِّواياتُ، وجَذبِ مُنَادِّها(19) إلى جِهَة / الصَّوابِ، على قَدرِ ما فُتح لي من مُبهَم هذه الأبواب.
          فإن أمضَى الله على ذلك عَزمِي، وبلَّغنِي فيه غايةَ قَصدِي، وكمَّلَ لي هذه الأغراضَ في مُداواةِ تلك الأمراضِ؛ رجَوتُ أن لا يبقَى على طالبِ مَعرفةِ هذه الأصُولِ المَذكُورةِ إشكالٌ، وأن سيَغنَى النَّاظِر فيه بما يقِفُ عليه منه عن الرِّحلةِ إلى مُتقنِي أهل هذه الصِّناعةِ إن ظهَر في قُطرٍ من الأقطارِ، بل يَكتَفِي إن شاء الله تعالى بمُقابَلةِ كِتابِه بكتابٍ قُرِئ عليَّ أو سُمِع، ممَّا يجِدُ عليه خطَّ يدي، ثمَّ إن أشكَل عليه لفظٌ وجَد بيانَه فيه إلَّا ما لا بدَّ من فَوتِه بحُكمِ البَشرِيَّةِ، التي مُنِعت الإحاطةَ والكمالَ، وألزِمَت الغَفلةَ والنُّقصانَ، والخطَأ والذُّهولَ والنِّسيانَ.
          فهو كِتابٌ يحتاجُ إليه الشَّيخُ الرَّاوي، كما يلجَأ إليه الحافظُ الواعي، ويتدرَّجُ به المُبتَدِي، كما يتذَكَّر به المُنتهِي، ويضطرُّ إليه طالبُ التَّفقُّهِ والاجتِهَادِ، كما لا يَستَغنِي عنه راغبُ السَّماعِ والإسنادِ، ويحتَجُّ به الأديبُ في مُذاكَرتِه، كما يعتَمِده المُناظِرُ في مُحاضَرَته.
          وسيَعلَم مَن وقَف عليه من أهل المَعرِفَةِ قَدرَه، ويُوفِّيه أهلُ الإنصافِ حقَّه، فإنِّي نخَلتُ فيه مَعلُومي، وبثَتتُه مَكتُومي، وأودَعتُه محفُوظِي ومَفهُومي، وسَمَحت فيه بمَصُوناتِ الصَّنادقِ والصُّدورِ، ومَضنُوناتِ المَهارقِ(20) والصُّدورِ، ممَّا لا يُبِيحُون خفيَّ ذِكْره لكلِّ ناعقٍ، ولا يَبوحُون بسرِّه إلَّا لطالبي الحَقائِقِ، ولا يرفَعون منه رايةً إلَّا لمُتلقِّيها باليَمينِ، ولا يكشفُون منها غايةً إلَّا لثقةٍ أمينٍ.
          وإلى الله ألجَأ في جَميعِ عَملِي ونِيَّتي، وإليه أبرَأ من حَولِي وقُوتِي، ومنه أستَمِد التَّوفِيقَ والهدايةَ، وإيَّاه أسألُ العِصمَةَ والوِقايةَ، إنَّه مُنعِمٌ كريمٌ، ذو فَضلٍ عَظيمٍ، وقد سَمَّيته: بـ «مطالعِ الأنوارِ على صحائح(21) الآثارِ».
          وما تَوفيقِي إلَّا بالله، ولا حولَ ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العَظيمِ، عليه توَكَّلت، وإيَّاه استَعنتُ، فهو خيرُ مُعينٍ، وأقوَى ظَهِيرٍ. /


[1] وهو لجُبَيْهاءَ الأَشْجعيِّ، انظر: تهذيب اللغة1/410، والصحاح1/105.
[2] وهو منسوب لرجل من أزْدِ السَّراة، انظر «الكتاب» لسيبويه: 2/266، أو لعمرو الجنبي يقوله لامرئ القيس انظر: «خزانة الأدب»: 2/382.
[3] انظر: «شرح ديوان المتنبي» للعكبري ░3/9▒، و«خزانة الأدب»: ص35.
[4] ونسبه في «وفاء الوفا»░4/104▒ إلى نهيك بن سياف.
[5] في (د): (تعبير).
[6] وهو في «المعاني الكبير» ░6/1129▒ منسوباً إلى العجاج أيضاً بلفظ:
~فوجدوا الحجاج يأبى النَّهضا
[7] وهو الإمام الآجرِّي، والحديث في «الشريعة» ░1▒.
[8] الأولى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8].
[9] هذا الإسناد واهٍ جدَّاً، وهو مع ذلك مُرسلٌ أو مُعضلٌ، إبراهيمُ بنُ عبدِ الرَّحمن؛ تابِعيٌّ مجهولٌ، لا يُعرَف إلا بهذا الحديث، كما قال العقيليُّ وغيرُه، وانظر كلام السخاوي في «فتح المغيث: في باب معرفة صفة من تقبل روايته من نقله الأخبار ومن ترد: 2/169» فإنَّه مال إلى أنَّ للحديث طرق أخرى تدل على أنَّ له أصلاً.
[10] في (س): (عثر).
[11] في (ط): (ينفهم)، وكذا في بعض النسخ، وفي الهامش كما أثبتناه من بقيَّة النسخ.
[12] سقط من (س)، والأَفيلُ: الفَصِيلُ لغةً هو الصَّغير من الإبل والغنم والمراد هنا الضَّعيف.
[13] تقدَّم تخريجُه قبلَ قليلٍ.
[14] والثانية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14-15].
[15] في (ط): (اختلاله).
[16] في (س): (كتب).
[17] في (ص) و(ض): (به) وعود الضمير في المثبت على الأصول المشهورات.
[18] وترتيب أهل المغرب هكذا: (أ ب ت ث، ج ح خ، د ذ ر ز، ط ظ، ك ل م ن، ص ض، ع غ، ف ق، س ش، ه ولا ي). وقد ثبت ذلك في أوائل أغلب النسخ الخطيَّة، وهكذا وقع ترتيبه بالفعل سوى نسخة (غ).
[19] ضبطت في (ج): (مبادها).
[20] جمع مُهْرَق، وهي الصَّحيفة البيضاءُ يكتب فيها؛ فارسيٌّ معرَّب، قال الأزهريُّ: وإنَّما قيل للصَّحراء مُهْرق تشبيهاً بالصَّحيفة. «لسان، مادة: هرق».
[21] في (س): (صحاح).