تثقيف وعي الألباب بتلقيف مناسبة الآية وأحاديث بدء الوحي للباب

وجه المناسبة بين الآية والحديث

          أمَّا بعدُ:
          فقدْ وقعَ البحثُ قديمًا وحديثًا عن مناسبةِ آيةِ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا} [النساء:163] وحديثِ «إنَّما الأعمالُ...» لـ(بابِ بدءِ الوحيِ) من «صحيحِ» الإمامِ الحافظِ الحجَّة، القويمِ براعةً ونباغةً ومحجَّة، أميرِ المؤمنينَ في الحديث، وقدوةِ الأئمَّةِ في القديمِ والحديث، النَّجمِ السَّارِي في أعلى بُروجِ الدَّرارِي، أبي عبدِ اللهِ محمَّدِ بن إسماعيلَ البخاريِّ، شكرَ اللهُ نوائلَهُ الجسام، وأنالهُ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ من سائرِ الأجسام.
          فذكرَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في «الفتحِ» لنفسهِ لمناسبةِ الآيةِ للبابِ جهتَينِ، ونقلَ عَنْ غيرهِ في مناسبةِ الحديثِ أمُورًا يشير بعضها إلى مناسبةِ الآيةِ أيضًا للبابِ، ذكرَ كلُّ قائلٍ منهُم فيها ما ظهرَ لهُ، فاعترضَ الحافظُ البعضَ منها، وارْتضى الأكثر، فأَحببتُ أنْ أذكرَ ما هُنالِكَ، فأبدأُ بما ذكرهُ الحافظُ لنفسهِ في مناسبةِ الآيةِ من الجهتينِ، وأُلحقهُ ببيانِ خلاصةِ / ما تقتضيهِ الجهتانِ، ثمَّ أذكرُ ما نقلهُ عَن غيرهِ في وجهِ المناسبةِ للتَّرجمةِ، ممَّا اعترضَ عليهِ ولمْ يرتضِهْ، ثمَّ أعقبهُ بما ارتضاهُ، ثمَّ أذكرُ ما لاحَ لِي في بعضِهِ ممَّا يُشيرُ إلى مناسبةِ الآيةِ والحديثِ للبابِ، على نهجٍ أتدرَّجُ بهِ إلى الإفصاحِ بمناسبَتِهمَا لهُ على وجهٍ جليٍّ، ينبِّهُ على دقَّةِ نظرِ الإمامِ البخاريِّ بإشارتهِ إلى مناسبةِ الآيةِ والحديثِ للتَّرجمةِ على هذا الوجهِ، ممَّا الذِّهنُ عنهُ قدْ(1) خَلا.
          وأُحيلُ في إشارة باقيَ ما ارتضاهُ الحافظُ في المناسبةِ إلى النَّاظرِ الفهيمِ، وفوقَ كلِّ ذي علمٍ عليمٍ، ثمَّ أكملُ المرام بذكرِ ما ذكرهُ الحافظُ أو نقلهُ في مناسبةِ أحاديثِ البابِ جميعِها للتَّرجمةِ، وأُلحقهُ بالاستحسانِ أو المناقشةِ، وما لاحَ لي فيهِ ممَّا سحَّتْ بهِ سحبُ صحفِ «الفتحِ» المكرَّمةِ، فغالبُ ما أذكرهُ في مناسبةِ الآيةِ والحديثِ، وباقي أحاديثِ البابِ مِنَ الدَّرارِيِّ مُلتَقطٌ منْ خَبايَا زوَايا «فتحِ البَارِي»، يَهدينِي اللهُ إِليهِ، فأَعضُّ بنواجذِ الاغتنامِ عليهِ، ثُمَّ أُبرزُ إبريزَ ما اكتنزَ واختفَى عَنْ أبصارِ البصائرِ وعزَّ، فهوَ في الحقيقةِ لهذا الإمامِ مِنْ نورِ كلامِهِ مُقتَبَس، ومِنْ نورِ أَكمامهِ مُجتنًى ومُختلَس، وإنمَّا ليَ التَّنبيهُ لكلِّ نبيلٍ نبيهٍ مِنْ أهلِ الصَّفَا، ينظرُ فيهِ مُنصِفًا، ومناقَشَتِي في بعضِ فوائدِهِ مع ما قالَ، لا مَع منْ قالَ، كيفَ وجِسامُ مِنَنهِ بكاهلِ تأهُّلي لتجشُّمِ ما اقتحمتُهُ في هذهِ المواردِ / ثقال؟ بلَّغهُ اللهُ فوقَ ما تمنَّى، فقدْ أوسعنِي إِتحافًا ومنًّا، واللهَ أسألُ السَّدادَ، وبنبيِّهِ أتوسَّلُ أن يتولَّاني فيما مددتُ يدي إليهِ مِنَ اقتناصِ الشَّوارِدِ الشِّدادِ، وأن يجعلَني في إبرازِ إبريزِهِ مخلِصًا، لا متفضِّلًا على أحدٍ ولا مبتغيًا بهِ تخصُّصًا، وأَن يُقيِّضَ لقبولهِ والإقبالِ عليه كلَّ مُنصفٍ، ويقبِضَ عنه يدَ كلِّ معانِدٍ عاتٍ مُتعسِّف، وما ذلكَ على اللهِ بعزيز، مجيبُ دعوةِ اللَّائذِ بحصنِ حفظهِ الحَريزِ.
          وسمَّيتُه (تثقيفَ وعيِ الألبابِ، بتلقيفِ مناسبةِ الآيةِ وأحاديثِ بدءِ الوحيِ للبابِ)، فلنسرِع فيما قصدْتُ التَّوصُّلَ إليهِ، والهدايةُ باللهِ والتُّكلانُ عليهِ، فأقولُ:
          قالَ إمامُ الحُفَّاظِ العلَّامةُ شهابُ الدِّينِ أحمدُ بنُ عليٍّ ابن حَجَرٍ العسقلانيُّ، في كتابهِ «فتحِ الباري شرحِ البخاريِّ»: ومناسبةُ الآيةِ للتَّرجمةِ واضحةٌ مِن جهةِ أنَّ صفةَ الوحيِ إلى نبيِّنا صلعم توافقُ صفةَ الوحيِ إلى مَن تقدَّمهُ منَ النبيِّينَ، ومِن جهةِ أنَّ أوَّلَ أحوالِ النبيِّينَ في الوَحي الرُّؤيا؛ كمَا رواهُ أبو نُعَيمٍ في «الدَّلائلِ» بإسنادٍ حسنٍ عن علقمةَ بنِ قيسٍ صاحبِ ابنِ مسعودٍ قالَ: أوَّلُ ما يُؤتى بهِ الأنبياءُ في المنامِ حتَّى تهدأَ قلوبُهم، ثمَّ ينزلُ الوحيُ بعدُ في اليقظةِ، انتهى.
          ولا يَخفى أنَّ الجهةَ الأولى ليسَ فيها إلَّا التعرُّضُ لدلالةِ الآيةِ على(2) كونِ(3) صفةِ الوحي / إلى نبيِّنا صلعم المذكور في الترجمةِ توافقُ صفةَ الوحيِ إلى سائرِ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِم أجمعينَ(4)، وهذا يفيدُ تعلُّقَ الآيةِ بالتَّرجمةِ في الجملةِ، لا تعلُّقهَا ببدءِ الوحيِ.
          وأمَّا الجهةُ الثَّانيةُ فتفيدُ أنَّ الوحيَ المطلقَ في الآيةِ أوَّلُ نوعٍ منهُ وقعَ للأنبياءِ وحيُ الرُّؤيا، وهوَ بمعونةِ الحديثِ المذكورِ، فبهذه ِالعنايةِ يُتَوصَّلُ إلى وجهِ المناسبةِ، وما يعقِلُها إلَّا(5) العالِمون، ففي ذكرهِ(6) الوضوحَ شيءٌ.
          ثمَّ قالَ: وقد اعتُرِضَ على المصنِّفِ في إدخالِهِ حديثَ الأعمالِ هذا في ترجمةِ بدءِ الوحيِ، وأنَّهُ لا تعلُّقَ لهُ بهِ أصلًا، بحيثُ إنَّ الخطَّابيَّ في «شرحهِ» والاسماعيليَّ في «مستَخرَجه» أخرجاهُ قبلَ التَّرجمةِ؛ لاعتقادِهمَا أنَّهُ إنَّما أوردَهُ للتَّبرُّكِ فقط، واستصوَبَ أبو القاسمِ ابنُ مندَه صنيعَ الإسماعيليِّ في ذلكَ، وقالَ ابنُ رُشَيدٍ: لمْ يقصد البخاريُّ بإيرادهِ سوى بيانِ حسنِ نيَّتهِ في هذا التَّأليفِ، وقدْ تكلَّفَ مناسبتَهُ للتَّرجمةِ فقالَ كلٌّ بحسبِ ما ظهرَ لهُ انتهى.
          وقدْ قيلَ: إنَّهُ أرادَ أنْ يُقيمَهُ مُقامَ الخُطبةِ للكتابِ؛ لأنَّ في سياقهِ أنَّ عمرَ قالهُ على المنبرِ بمحضرٍ مِنَ الصَّحابةِ، فإذا صلَحَ أنْ يكونَ في خطبةِ المنبرِ؛ صلَحَ أنْ يكونَ في خطبةِ الكتابِ.
          وحكَى المهلَّبُ أنَّ النبيَّ صلعم خطبَ بهِ حينَ قدِمَ المدينةَ مُهاجِرًا، فناسبَ إيرادَهُ في (بدءِ الوحيِ) لأنَّ الأحوالَ الَّتي كانتْ قبلَ الهجرةِ كانتْ كالمقدِّمةِ لها؛ لأنَّ بالهجرةِ(7) افتتحَ / الإذنَ في قتالِ المشركينَ، ويعقبهُ النَّصرُ والظَّفرُ والفتحُ، وهذا وجهٌ حسنٌ، إلَّا أنَّني لمْ أرَ ما ذكرهُ _مِنْ كونهِ صلعم خطبَ بهِ أوَّلَ ما هاجرَ_ منقولًا، وقدْ وقعَ في (بابِ تركِ الحِيَلِ) بلفظِ: سمعتُ النَّبيَّ صلعم يقولُ: «يا أيُّها النَّاس؛ إنَّما الأعمال بالنِّيَّة...» الحديث، ففِي هذا إيماءٌ إلى أنَّهُ كانَ في حالِ الخطبةِ، أمَّا أنَّهُ كانَ في ابتداءِ قدومهِ فلمْ أرَ ما يدلُّ عليهِ، ولعلَّ قائلَهُ استندَ إلى ما رُويَ في قصَّةِ مُهاجِرِ أمِّ قيسٍ، قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: نقلُوا أنَّ رجلًا هاجرَ من مكَّةَ إلى المدينةِ، لا يريدُ بذلكَ فضيلةَ الهجرةِ، وإنَّما هاجرَ ليتزوَّجَ امرأةً تُسمَّى أمَّ قيسٍ؛ فلهذا خَصَّ في الحديثِ ذكرَ المرأةِ دونَ سائرِ ما يُنوَى به انتهى.
          وهذا لَو صحَّ لمْ يستلزمِ البداءةَ بذكرهِ أوَّلَ الهجرةِ النَّبويَّةِ، وقصَّةُ(8) مهاجرِ أمِّ قيسٍ رواها سعيدُ بنُ منصورٍ، قالَ: حدَّثنا أبو معاويةَ عنِ الأعمشِ عن شقيقٍ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: منْ هاجرَ يبتغِي شيئًا؛ فإنَّما لهُ ذلكَ، هاجرَ رجلٌ ليتزوَّجَ امرأةً يقالُ لها(9): أمَّ قيسٍ، فكانَ يقالُ لهُ: مهاجِرُ أمِّ قيسٍ، وهذا إسنادٌ صحيحٌ على شرطِ الشيخينِ، لكنْ ليسَ فيهِ أنَّ حديثَ الأعمالِ سيقَ لسببِ ذلكَ، ولمْ أرَ في شيءٍ منَ الطُّرقِ ما يقتضِي التَّصريحَ بذلكَ، وأيضًا فلوْ أرادَ البخاريُّ إقامتَهُ مُقامَ الخُطبةِ فقط أو الابتداء(10) بهِ؛ تيمُّنًا وترغيبًا في الإخلاصِ؛ لكانَ / ساقَهُ قبلَ التَّرجمةِ كما قالَ الإسماعيليُّ وغيرُه، انتهى كلامُ إمامِ الحفَّاظِ(11).
          وقدْ كفانَا الحافظُ أمرَ ما ذكرَ ممَّا لمْ يرتضِه كمَا ترى، بقيَ ما ارتضاهُ حيثُ قالَ عقبَ ما نقلناهُ عنهُ آنفًا: ونقلَ ابنُ بطَّالٍ عن أبي عبدِ اللهِ ابنِ الفخَّارِ قال: التبويبُ يتعلَّقُ بالآيةِ والحديثِ معًا؛ لأنَّ اللهَ أوحى إلى الأنبياءِ ثمَّ إلى محمَّدٍ أنَّ الأعمالَ بالنِّيَّاتِ؛ لقولهِ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البيِّنة:5] وقالَ أبو العاليةِ في قولهِ تعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وصَّى بهِ نُوحًا} [الشورى:13] قالَ: وصَّاهُم بالإخلاصِ في عبادتهِ، وعَن أبي عبدِ الملكِ البُونيِّ قالَ: مناسبةُ الحديثِ للتَّرجمةِ: أنَّ بدءَ الوحي كانَ بالنِّيَّةِ؛ لأنَّ اللهَ فطرَ محمَّدًا على التَّوحيدِ، وبغَّضَ إليهِ الأوثانَ، ووهبَ لهُ أسبابَ النُّبوَّةِ؛ وهيَ الرُّؤيا الصَّالحةُ، فلمَّا رأَى ذلكَ أخلصَ إلى اللهِ في ذلكَ، فكانَ يتعبَّدُ في غارِ حراءَ، فقبِلَ اللهُ عملَهُ وأتمَّ لهُ النِّعمةَ.
          وقالَ المهلَّبُ ما محصَّلهُ: قَصَد البُخاريُّ الإخبارَ عن حالِ النَّبيِّ صلعم في منشئهِ، وأنَّ اللهَ بغَّضَ إليهِ الأوثانَ، وحبَّبَ إليهِ خِلالَ الخير، ولزومَ الوحدةِ؛ فرارًا مِن قُرَناءِ السُّوءِ، فلمَّا التزمَ ذلكَ؛ أعطاهُ اللهُ على قدرِ نيَّتهِ، ووهبَ(12) لهُ النُّبوَّةَ؛ كمَا يقالُ: الفواتحُ عنوانُ الخواتمِ، ولخَّصهُ بنحوٍ مِن هذا القاضِي أبو بكرٍ ابنُ العربيِّ.
          وقالَ ابنُ المُنيِّرِ في أوَّلِ التَّراجمِ: كانتْ مقدِّمةُ النُّبوَّةِ في حقِّ النَّبيِّ صلعم / الهجرةَ إلى اللهِ بالخلوةِ في حراء، فناسبَ الافتتاحَ بحديثِ الهجرةِ.
          ومِنَ المناسباتِ البديعةِ الوجيزةِ ما تقدَّمَتِ الإشارةُ إليهِ: أنَّ الكتابَ لمَّا كانَ موضوعًا لجمعِ وحي السُّنَّةِ؛ صدَّرهُ ببدءِ الوحيِ، ولمَّا كانَ الوحيُ لبيانِ الأعمالِ الشَّرعيَّةِ؛ صدَّرهُ بحديثِ الأعمالِ، ومعَ هذهِ المناسباتِ لا يليقُ الجزمُ بأنَّهُ لا تعلُّقَ لهُ بالتَّرجمةِ أصلًا، انتهى كلامُ الحافظِ.
          أقولُ: فحَسُنَ(13) أنْ يقال، بمعونةِ الكريمِ المتعال: قولُ أبي عبدِ اللهِِ ابنِ الفخَّارِ: (التبويبُ يتعلَّقُ بالآيةِ والحديثِ معًا؛ لأنَّ اللهَ أوحى إلى الأنبياءِ ثمَّ إلى محمَّدٍ: أنَّ الأعمالَ بالنيَّاتِ...) إلى آخره يفيدُ أنَّ في ذكرِ الآيةِ في البابِ وتعقيبِها(14) بحديثِ الأعمالِ إشارةً(15) إلى أنَّ الإيحاءَ لهُم(16) المفهومَ منْ آيةِ {إِنَّا أَوْحَيْنَا} [النساء:163] كانَ بالأمرِ بالإخلاصِ؛ يُحقِّقُ ذلكَ قولُهُ إثرَهُ: لقولهِ تَعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البيِّنة:5]، وتأييدُه لهُ بعدُ(17) بقولهِ عقِبَهُ: وقالَ أبو العاليةِ في قولهِ تَعالى: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وصَّى بهِ نُوحًا} [الشورى:13] قالَ: وصَّاهُم بالإخلاصِ في عبادتهِ انتهى.
          [ويزيده لك تحقيقًا إشارة الحافظ إلى تقرير أبي عبد الله ابن الفخَّار هذا في حديث الحارث بن هشام ☺ حيث قال: فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال الذي تقدَّم التقرير بأنَّ تعلُّقه بالآية أقوى تعلُّق انتهى](18).
          ثمَّ نأخذُ بما(19) صدَّر بهِ أبو عبدِ الملكِ البونيُّ، حيثُ قالَ: مناسبةُ الحديثِ للتَّرجمةِ أنَّ بدءَ الوحيِ كانَ بالنِّيَّةِ، كمَا أسلفناهُ عنهُ في الَّذي(20) ارتضاهُ الحافظُ [للمناسبةِ، وإنْ كانَ آخرُ كلامِ البُونيِّ لا يلائمُ هذا الجزمَ مِنه الصَّريحَ في إبداءِ مناسبةِ الحديثِ للتَّرجمةِ، فيكونُ / الوحيُ مطلقًا متكيِّفًا بكونهِ بدأَ فيهِ](21) بالأمرِ بالإخلاصِ(22)، ولا بِدْعَ في(23) أنْ يدَّعيَ في مناسبةِ الآيةِ والحديثِ لـ(بابِ بدءِ الوحي)(24) بأنَّ أوَّلَ ما أوحيَ(25) بهِ إلى الأنبياءِ _وكذَا إلى نبيِّنا صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعليهِم_ الأمرُ بالإخلاصِ؛ لكونهِ أساسَ الدِّينِ(26)، وممَّا اتَّحدتْ بهِ الشَّرائعُ كالإيمانِ، ولِوصايةِ اللهِِ(27) الأنبياءَ بهِ المفطورينَ عليهِ، كما مرَّ(28) في تفسيرِ أبي العاليةِ [لآيةِ: {شَرَعَ لكُمْ مِنَ الدِّينِ} الآية](29).
          فإنْ قلتَ: الأمرُ بالإيمانِ أحَقُّ منَ الأمرِ بالإخلاصِ؛ فبَدءُ الوحيِ بالأمرِ بالإيمانِ أحقُّ منْ بدءِ الوحي بالأمرِ بالإخلاصِ.
          قلتُ: الإيمانُ عملٌ قلبيٌّ، والنيَّةُ فيهِ إمَّا أنْ تكونَ بقصدِ العملِ لوجهِ اللهِِ، أو لقصدِ وجهِ اللهِِ بالعملِ، وعلى كلٍّ(30) فلا بدَّ فيهِ من تقديمِ النِّيَّةِ؛ إذْ لا يتحقَّقُ الإيمانُ(31) إلَّا بها، فتقديمُ الوحيِ بالإخلاصِ المحتاجِ إليهِ في تحقُّقِ(32) الإيمانِ وسائرِ الأعمالِ الشَّرعيَّةِ أحقُّ من تقديم(33) الوحيِ بالإيمانِ [المفطورِ عليهِ الأنبياءُ وإن ْكانَ الإخلاصُ سَجيَّةً لهمْ](34).
          ثمَّ لمَّا كانَ الوحيُ أنواعًا، وقدْ أوردَ الإمامُ البخاريُّ ما يُنادي لفظ الحديثِ على النَّوعِ منه _ففي حديثِ الحارثِ بنِ هشامٍ النِّداءُ بوحي النَّفثِ في الرُّوعِ، وفي حديثِ عائشةَ [المرويِّ للرُّؤيا بالوحيِ المنَاميِّ](35)، وفي قصَّةِ الغارِ منْ حديثهَا بوحيِ(36) الملَكِ كِفاحًا، ولمْ يجدْ لنوعِ وحي الإلهامِ / حديثًا يومئُ إلى نوعِه، وقدْ ذكرَ الكلَّ(37) في (بابِ بدءِ الوحيِ)، ولا بدَّ فيها كلِّها منَ المناسبةِ للتَّرجمةِ أيضًا_ أوردَ حديثَ الأعمالِ؛ ليشيرَ بهِ إلى أنَّهُ كانَ بنوعِ وحيِ الإلهامِ، وأنَّ بدءَهُ كانَ بالأمرِ بالإخلاصِ، [وسنقفُ قريبًا على إرجاعِ صُنوفِ الوحيِ إلى هذهِ الأنواعِ الأربعةِ فحسْب](38)، وسيجيءُ الكلامُ على مناسبةِ بدءِ باقي الأنواعِ للتَّرجمةِ.
          ومَنْ عَرَفَ قوَّةَ مَتانة الإمامِ البخاريِّ، ودقَّةَ نَظَرهِ وغامضَ إشاراتهِ؛ لمْ يستبعِدْ منهُ ذلكَ، فتقديمهُ حينئذٍ لحديثِ الأعمالِ على الأحاديثِ المُنادِي لفظُها على النَّوعِ منهُ؛ لِأوَّليَّةِ المُوحَى بهِ فيهِ على سائرِ الأحكامِ وغيرِها المُستلزم لأوَّليَّةِ نوعِ الإلهامِ على الضُّروبِ الثَّلاثةِ؛ فلمناسبةِ بدء الوحيِ حيثيَّتانِ: منْ حيثيَّة البدء بالأمرِ بالإخلاصِ في وحيِ الإلهامِ(39)، ومنْ حيثيَّة البدء(40) بالأمرِ(41) بهِ مطلقًا، فوَلِّ وجهكَ شطرَ الوجهِ المرضيِّ قِبلَتُهُ لقبلتَيهِ مطلقًا، وحيثُما تُولُّوا فثمَّ وجهٌ لمناسبتهِ للبابِ، وإنَّما لمْ نقتصِرْ بالمناسبةِ(42) بالبدءِ بالأمرِ بهِ مطلقًا؛ للحاجةِ إلى إبداءِ بدءِ الوحي الإلهاميِّ، وتقديمهِ بينَ يدي بيانِ بدءِ وحي الأنواعِ الثَّلاثةِ المحتاجِ إلى بيانِهِ فيها، فيكونُ الكلُّ على نَهجٍ واحدٍ في إبداءِ بدءِ وحيِ كلِّ نوعٍ على حِدةٍ؛ إبرازًا لمناسبةِ تلكَ الأحاديثِ لـ(بابِ بدءِ الوحي)، فتُعطى الأحاديثُ حقَّها في إعطاءِ كلِّ نوعٍ بَدأَهُ.
          لا يقالُ: / الظاهرُ منْ حديثِ عائشةَ ♦ وحديثِ علقمةَ بنِ قيسٍ صاحبِ ابنِ مسعودٍ ☺: أنَّ وحيَ الرُّؤيا أوَّلُ ما يُبدأُ بهِ الأنبياءُ لتهدأَ(43) قلوبُهم؛ لأنَّهم قالُوا: إنَّ نوعَ وحيِ الرُّؤيا كانَ قبلَ مجيءِ الملَكِ بستَّةِ أشهرٍ، والأنسبُ بحالهِ صلعم وحالِ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِم أنْ يوحى إليهِم بالأمرِ بالإخلاصِ حينَ بلوغِ سنِّ البِعثةِ؛ لأنَّ أهلَ العنايةِ يُعجَّلُ لهم بالأهمِّ فالأهمِّ، وأهمُّ الأشياءِ بعدَ التَّوحيدِ المفطورِ عليهِ الأنبياءُ هوَ الإخلاصُ وإنْ فُطِرَ الأنبياءُ عليهِ أيضًا؛ اهتمامًا بشأنهِ، وإبانةً لخطيرِ شرفهِ، ولكونهِ بالأمرِ بهِ يكونُ الأنبياءُ(44) أعلى رتبةً؛ كما يقتضِيهِ مقامُ النُّبوَّةِ.
          ووحيُ الرُّؤيا كانَ بالمبشِّراتِ المقوِّيةِ على التَّلقِّي مِنَ الملَكِ، والجزمِ بكونِ ما جاءَ بهِ حقًّا؛ لصدقِهَا بالمجيءِ كفلقِ الصُّبحِ؛ إذْ لا يصلحُ أنْ يوصفَ غيرُ المبشِّراتِ بالمجيءِ كفَلقِ الصُّبحِ، والوحيُ بالإخلاصِ أهمُّ مِنَ الوحيِ بالمبشِّراتِ، فنوعُ الإلهامِ الآتي بالأهمِّ منها أهمُّ بالتقديمِ منَ النَّوعِ الآتي بها.
          فإنْ قلتَ: هذا يخالفُ ما جزمَ بهِ الحافظُ في «الفتحِ» حيثُ قالَ: وحَكى البَيهقيُّ أنَّ مدَّةَ الرُّؤيا بعدَ إكمالهِ أربعينَ سنةً كانتْ ستَّةَ أشهرٍ، قالَ: فعلَى هذا فابتداءُ النُّبوَّةِ وقعَ منْ شَهرِ مولدهِ _وهوَ ربيعٌ الأوَّلُ_ وابتداءُ / وحيِ اليقظةِ وقعَ في رمضانَ انتهى.
          فالجواب: أنَّ هذا لا يقتضي أنَّه كيف بلغ سنَّ أربعين سنةً؛ فاجأه وحي الرُّؤيا، بحيث لم يتأخَّر يومًا أو ساعةً، بل إنَّه حصل له بعد إكمالها بمدَّةٍ تعتبر بهذا، وهو تحديد تقريب، وهو لا يقضي بألَّا يشاركه(45) وحي الإلهام، فقد قال الحافظ في قوله في حديث الغار: (حُبِّب) قال: لم يُسمَّ فاعله؛ لعدم تحقُّق الباعث على ذلك وإن كان كلٌّ من عند الله، أو لينبِّه على أنَّه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام انتهى.
          وذلك في مدَّة الرُّؤيا قبل وحي المَلَكِ، ولا مِريةَ أنَّ وحيَ الأمر بالإخلاص _بل وببعضِ الأحكام والأمور(46) اللَّازمة المقصودة بالذَّات [أو بالعرض؛ كالتَّحبُّب المذكور والتحنُّث، فقد تعبَّدَهُ الله تعالى به في ابتداء أمره](47)_ أحرى بالتَّقديم مِن وحي المبشِّرات؛ الوسيلة لهدوء القلب بها للتَّلقِّي من المَلَكِ بعد ستَّة أشهر، فتعيَّن صرف التَّحديد الحقيقيِّ عن كلامه، ولو سلَّم إرادته ذلك؛ فلا يلزم منه القطعُ بموافقته للواقع، فالنَّوع الآتي بالأهمِّ بالتَّقدير(48) أهمُّ تقديمًا مِن النَّوع الآتي بأهمَّ دون ذلك(49).
          فعُضَّ بالنَّواجذ على ما أسلفناه لك مِن مناسبة الآية والحديث لـ(باب كيف كان بدء الوحي؟)، فلستَ بواجدٍ فيما أظنُّ أقربَ نشَبًا / ولا أبعدَ خدشًا منه، [وقد علمتَ مَأخذي له مِن مجموع ما ذكره أبو عبد الله ابن الفخَّار وأبو عبد الملك البونيُّ في إبدائهما مناسبة الآية والحديث للباب](50).


[1] في (ب): (قبل).
[2] (لدلالة الآية على): ليس في (ب).
[3] في (ب): (لكون).
[4] زيد في (ب): (لإيراده الآية).
[5] في (أ): (إلى).
[6] في (ب): (ذكر).
[7] في (أ): (الهجرة).
[8] في (ب): (وقضية).
[9] زيد في هامش (أ): (مهاجرة).
[10] في (أ): (ابتداء).
[11] (كلام إمام الحفاظ): ليس في (ب).
[12] في (ب): (فوهب).
[13] في (ب): (يحسن).
[14] في (أ): (وتعقبها).
[15] في (ب): (الإشارة).
[16] في (ب): (إليهم).
[17] (بعد): ليس في (ب).
[18] ما بين معقوفين مثبت من (ب).
[19] في (ب): (ثم نقول بموجب ما).
[20] في (ب): (فيما).
[21] بدل مما بين معقوفين في (ب): (على منزعنا من أن بدء الوحي كان).
[22] زيد في (ب): (وإذا صدَّر بهذه الدعوى فلا يضرُّنا عدم ملاءمة ما عقَّب به لها على المنهج الذي نحونا إليه من أنها موحى به مطلقًا، وأنه كان ملائمًا له على نهج يقضي به ظاهر تعليله من بدأ كان مسببًا عن إخلاصه إلى الله في تعبُّده بحراء؛ لما فُطِر عليه من التوحيد وبغض الأوثان كما قال: فالباء في قوله: «بالنيَّة» للسَّببيَّة، وهي هنا تُوهِم أنَّ النبوَّة مكتسبة، وعلى ما اخترناه ينتفي هذا المحذور).
[23] (في): ليس في (ب).
[24] في (ب): (للترجمة).
[25] في (ب): (يوحى).
[26] في (ب): (الأعمال).
[27] اسم الجلالة ليس في (ب).
[28] (مرَّ): ليس في (ب).
[29] بدل مما بين معقوفين في (ب): (المتقدم).
[30] (وعلى كل): مثبت من (ب).
[31] في (ب): (العمل الشرعي).
[32] في (ب): (صحة).
[33] (تقديم): مثبت من (ب).
[34] بدل مما بين معقوفين في (ب): (المحتاج إليه في صحة الأعمال الفروعية، بل المحتاجة إلى النيَّة لصحة العتق من الكافر، وأما النيَّة وإن كانت عملًا قلبيًّا فليست من هذا القبيل، فأصغ لما قيل، قال العلامة الكرمانيُّ في «الكواكب الدَّراري شرح البخاريِّ»: فإن قلت: النيَّة أيضًا عمل لأنه من أعمال القلب، فإن احتاج كلُّ عمل إلى نية؛ فالنية أيضًا تحتاج إلى نية، وهلمَّ جرًّا، قلت: المراد بالعمل عمل الجوارح؛ نحو الصلاة والزكاة، إذ ذاك خارج عنه بقرينة العقل دفعًا للتسلسل، انتهى، ولا يخفى أنَّ التصديق الإيمانيَّ لا يتأتَّى بالتَّسلسل لمغايرته للنيَّة، فالقصر على الجوارح في كلامه لمناسبة المقام فيه).
[35] بدل مما بين معقوفين في (ب): (بوحي الرؤيا).
[36] زيد في (ب): (خطاب).
[37] (الكلَّ): مثبت من (ب).
[38] ما بين معقوفين ليس في (ب).
[39] في (ب): (الوحي الإلهامي).
[40] (البدء): ليس في (ب).
[41] في (ب): (الأمر).
[42] في (ب): (على المناسبة).
[43] في (ب): (فتهدأ).
[44] زيد في (ب): (على).
[45] في (ب): (يشركه).
[46] (والأمور): ليس في (ب).
[47] ما بين معقوفين ليس في (ب).
[48] في (ب): (بالتقديم).
[49] في (ب): (الآتي بغير الأهم).
[50] ما بين معقوفين ليس في (ب).