شروط الأئمة الستة

شرط الشيخين برأي الحاكم والرد عليه

          قال السائل: فإنَّ الحاكم أبا عبد الله النيسابوري الحافظ ذكر في كتاب «المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل» شرطًا على غير هذا النحو؟
          قلت: نعم، أخبرناه أبو بكر أحمد بن علي الأديب الشيرازي بنيسابور، قال: قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ:
          «القسم الأول من المتفق عليه: اختيار البُخَارِي ومُسْلِم وهو الدرجة الأولى من الصحيح ومثاله الحديث الذي يرويه الصحابي المشهور، عن رسول الله صلعم، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابي، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البُخَارِي أو مُسْلِم حافظًا متقناً، مشهورًا بالعدالة، فهذه الدرجة الأولى من الصحيح».
          الجواب: أنَّ البُخَارِي ومُسْلِمًا لم يشترطا هذا الشرط، ولا نُقِلَ عن واحد منهما أنَّه قال ذلك، والحاكم قدَّر هذا التقدير وشرط لهما هذا الشرط على ما ظنَّ.
          ولعمري إنَّه شرط حسنٌ، لو كان موجودًا في كتابيهما، إلَّا أنَّا وجدنا هذه القاعدة التي أسَّسها الحاكمُ منتقِضةً في الكتابين جميعاً. /
          فمن ذلك في الصحابة/ أنَّ البُخَارِي أخرج حديث قيس بن أبي حازم، عن مِرْدَاس الأَسْلَمِي: «يذهب الصالحون أولًا فأولاً» الحديث، وليس لمِرْدَاس راوٍ غيرُ قيس.
          وأخرج هو ومُسْلِم حديث المسيَّب بن حَزَن في وفاة أبي طالب، ولم يرو عنه غير ابنه سعيد.
          وأخرج البُخَارِي حديث الحسن البصري عن عَمْرو بن تَغْلِب: «إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي» الحديث، ولم يرو عن عَمْرو غير الحسن.
          هذا في أشياء عند البُخَارِي على هذا النحو.
          وأما مُسْلِم فإنَّه أخرج حديث الأغرِّ المُزَني: «إنه ليغان على قلبي» ولم يرو عنه غير أبي بُرْدَة.
          وأخرج حديث أبي رِفَاعه العَدَوي ولم يرو عنه غير حُمَيْد بن هلال العَدَوي.
          وأخرج حديث رافع بن عَمْرو الغِفَاريِّ، ولم يرو عنه غير عبد الله بن الصامت.
          وأخرج حديث ربيعة بن كعب [السُلَمي]، ولم يرو عنه غير أبي سَلَمَة بن عبد الرحمن.
          هذا في أشياء كثيرة اقتصرنا منها على هذا القدر، لتعلم أنَّ القاعدة / التي أسسها منتقضة لا أصل لها. /
          ولو اشتغلنا بنقض هذا الفصل الواحد في التابعين وأتباعهم، ولمن روى عنهم إلى عصر الشيخين لأربى على كتابه المدخل أجمع، إلَّا أنَّ الاشتغال بنقض كلام الحاكم لا يفيد فائدة، وله في سائر كتبه مثل هذا الكثير عفا الله عنا وعنه.
          وأما الإمام الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن مَنْدَه، فأشار إلى نحو ما ذكرناه وخلاف ما رسمه الحاكم، أخبرنا أبو عَمْرو عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن مَنْدَه قال: قال أبي: ((مِنْ حُكْمِ الصحابي أنه إذا روى عنه تابعي واحد، وإن كان مشهوراً _مثل الشَّعْبِي وسعيد بن المسيَّب_ يُنسب إلى الجهالة(1)، فإذا روى عنه / رجلان صار مشهورًا واحتج به، وعلى هذا بنى محمد بن إسماعيل البُخَارِي ومُسْلِم بن الحجَّاج كتابيهما الصحيحين، إلا أحرفًا تبين أمرها.
          فأمَّا الغريب من الحديث/ كحديث الزُّهْرِي وقَتَادَة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريباً، فإذا روى عنهم رجلان وثلاثة اشتركوا في حديث يُسمى عزيزًا، فإذا روى الجماعة عنه حديثًا سُمِّي مشهورًا)).
          فاستثنى أبو عبد الله بن مَنْدَه أحرفًا وهو هذا النوع الذي أشرتُ إليه، فقد صحَّ لديك بيان ما قدَّمته إليك والله أعلم بالصواب.


[1] وهذه الجهالة لا تمنع من قبول روايته إن صحت الطريق إليه.