مختصر الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلعم

          ♫
          وبه نستعين
          ░░1▒▒ (بَابُ كَيْفَ كَانَ بُدُوُّ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم )
          رواية أبي ذرٍّ والأصيليِّ بغير كلمة (باب).
          و[أَبْعَدَ] مَن قال: إنَّه ابتدأ بخطبةٍ فيها حمدٌ وشهادةٌ، فحَذَفها بعضُ مَنْ حَمَل عنه الكتاب، قاله شيخنا.
          [و]إنَّما لم يبدأِ البخاريُّ بالحمدلة؛ لأنَّ حديثَها ليس بشرطه _في سنده قُرَّة بن عبد الرحمن انفرد به مسلم، وقرنه مسلم_ أو أنَّه حَمِد بلسانه، أو أنَّه منسوخٌ بحديث الحديبية، والنسخ بعيد، وعنه سبعةَ عَشَر جوابًا.
          وإيراده حديث: «إنَّما الأعمال بالنيَّات» قائمٌ مَقَامَ الخطبة؛ فإنَّ عمر ╩ خطب به.
          فائدة: بدأ البخاريُّ بقوله: (كيف كان بدوُّ الوحي)، ولم يقل: (كتاب الوحي)، ولا (كتاب بدء الوحي)؛ لأنَّ بدء الوحي من بعض ما يشتمل عليه الوحي، قاله البُلقينيُّ.
          قال شيخنا: (ويظهر لي أنَّه إنَّما عرَّاه من «باب»؛ لأنَّ كلَّ بابٍ يأتي بعده ينقسم منه، فهو أمُّ الأبواب، فلا يكون قسيمًا لها.
          قال البلقينيُّ: وقدَّمه؛ لأنَّه منبع الخيرات، وبه قامت الشرائع وجاءت الرسالات، ومنه عُرِفَ الإيمان والعلوم، وكان أوَّله إلى النبيِّ صلعم بما يقتضي الإيمان؛ من القراءة والربوبيَّة وخلق الإنسان، فذكر بعده كتابَ الإيمان، وكتابُ الإيمان أشرف العلوم، فعقَّبه بكتاب العلم... إلى آخر كلامه).
          فائدة: قال البُونيُّ : (مناسبة الحديث للترجمة: أنَّ بدء الوحي كان بالنِّيَّة؛ لأنَّ الله تعالى فطر محمَّدًا على التوحيد وبغض الأوثان، ووهب له أسباب النبوَّة؛ وهي الرُّؤيا الصالحة، فلمَّا رأى ذلك؛ أخلص إلى الله تعالى في ذلك، فكان يتعبَّد بغار حراء، فقَبِلَ الله تعالى عَمَله، وأتمَّ له النعمة).
          وقال ابن المُنَيِّر: (إن قلت: ما موقع حديث عمر ╩ من الترجمة؟ وأين هو من ابتداء الجواب؟
          قلت: أشكل هذا قديمًا على الناس؛ فحمله بعضُهم على قصد الخطبة والمقدِّمة للكتاب، لا على مطابقة الترجمة، وقيل فيه غيرُ هذا، والذي وقع منه: أنَّه قصد _والله أعلم_ أنَّ الحديث اشتمل على أنَّ مَن هاجر إلى الله وحده، والنبيُّ صلعم كان مقدِّمة النبوَّة في حقِّه هجرته إلى الله وإلى الخلوة بمناجاته، والتقرُّب إلى الله تعالى بعباداته في غار حراء، فلمَّا ألهمه الله صدق الهجرة إليه، وطَلَب، وَجَدَّ؛ وَجَدَ، فهجرته إليه كانت فضلَه عليه في اصطفائه، وإنزال الوحي عليه، مضافًا إلى التأييد الإلهيِّ، والتوفيق الربَّانيِّ الذي هو الأصل والمرجع والمبتدأ، وليس على معنى ما ردَّه أهل السنَّة على من اعتقد أنَّ النبوَّة مكتَسَبة، بل على معنى أنَّ النبوَّةَ ومقدِّماتها ومُتمِّماتها كلٌّ فضلٌ من عند الله.
          ولم يذكر في هذا الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله» وهو أمسُّ بالمقصود، والذي / نبَّهنا عليه، وقد ذكر هذه الزيادة في «كتاب الإيمان» [خ¦54]، وكأنَّه استغنى عنها بقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه»، فأفهم ذلك أنَّ كلَّ مَن هاجر إلى شيء فهجرته إليه، فدخل في عمومه الهجرةُ إلى الله، ومن عادته أن يترك الاستدلال بالظاهر الجليِّ، ويَعدِل إلى الرَّمْزِ الخفيِّ).
          وقال شيخنا: (كذا وقع في جميع الأصول، فإن كان الإسقاط من البخاريِّ؛ فالجواب ما قاله أبو محمَّد عليُّ بن أحمد بن سعيد الحافظ، قال: لعلَّ البخاريَّ قَصَد أن يجعل لكتابه صدرًا يستفتح به؛ على ما ذهب إليه كثيرٌ من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمِّنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنَّه ابتدأ كتابه بنيَّةٍ ردَّ علمَها إلى الله، فإن عَلِمَ منه أنَّه أراد الدنيا أو عَرَض إلى شيءٍ من معانيها؛ فيجزيه بنيَّته، وسكت عن أحدِ وجهَي التقسيم؛ مجانبةً للتزكية التي لا يناسبه ذكرُها في ذلك المقام).
          وقال الزركشيُّ: (هذا سقط هنا في رواية البخاريِّ من جهة سفيان، فيشبه أن يكون هذا من صنيع البخاريِّ في اختصاره، وإلَّا؛ فقد أثبتها من جهة سفيانَ الإسماعيليُّ في «مستخرجه»)، وسفيان هو ابن عُيينة.
          فائدة: وجه تعلُّق هذا الحديث بهذه الآية: أنَّ الله تعالى أوحى إلى جميع الأنبياء أنَّ الأعمال بالنيَّات؛ والحجَّة لذلك قولُه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البيِّنة:5]، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ...}؛ الآية [الشورى:13]، قال أبو العالية: وصَّاهم بالإخلاص لله في عبادته لا شريك له، قاله الدِّمياطيُّ.
          فائدة: اعترض محمَّد بن إسماعيل التَّيميُّ على هذه الترجمة بأنَّه لو قال: كيف كان الوحي؛ لكان أحسنَ؛ لأنَّه تعرَّض فيه لبيان الوحي، لا لبيان كيفيَّة بَدْء الوحي فقط.
          وتُعُقِّب: بأنَّ المرادَ من بَدْءِ الوحي حالُه مع كلِّ ما يتعلَّق بشأنه أيَّ تعلُّقٍ كان.
          فائدة: لمَّا كان كتاب البخاريِّ معقودًا على أخبار الرسول ╕؛ طلب تصديره بأوَّل شأن الرسالة والوحي، ولم يُرِدْ أن يُقدِّم عليه شيئًا، ولمَّا كان الوحي لبيان الأعمال الشرعيَّة؛ صدَّره بحديث: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات».
          (بُدُوُّ): رويناه بالهمز من الابتداء، ورواه بعضُهم غيرَ مهموزٍ، من الظُّهور، قال أبو مروان: والهمز أحسن؛ لأنَّه يجمع المعنَيينِ، وأحاديث الباب تدلُّ عليه؛ لأنَّه بيَّن فيه كيف يأتيه الملَك ويظهر له، وفيه كيف كان ابتداء أمره، وأوَّل ما ابتُدئ به، وكان غيره يقول: إنَّ الظهور أحسن؛ لأنَّه أعمُّ، قاله ابن قُرقُولَ.
          وقال شيخُنا بلَّ الله ثَراه بالرَّحمة والرضوان: (ضُبِطَ بغير همزٍ مع ضمِّ الدال وتشديد الواو؛ من الظهور، ولم أره مضبوطًا في شيءٍ من الروايات التي اتَّصلت لنا)، انتهى.
          ({نُوحٍ} [الشورى:13]) إنَّما ذكر نوحًا ولم يذكر آدم؛ لأنَّه أوَّل مُشَرِّعٍ عند بعض العلماء، أو لأنَّه أوَّل نبيٍّ عُوقِب قومُه، وخصَّصه به؛ تهديدًا لقوم النبيِّ صلعم .
          واسمه عبد الغفَّار، ونوح: أعجميٌّ، والمشهور: صرفُه، وقيل: يَسْكُن، وقيل: يَشْكُر، / و لُقِّبَ نوحًا؛ لكثرة بكائه ونَوْحِه على نفسه.