إرشاد اللبيب إلى مقاصد حديث الحبيب

المقدمة

          ♫
          وصلَّى الله على سيدنا (1) مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا(2).
          [قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العَلَم العلَّامة الحافظ المحقق المتفنِّن الخطيب البليغ الفاضل الصَّدر الأوحد ترجمان الفقهاء ورئيس النبهاء أبو عبد الله] (3)، مُحَمَّد بن أحمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عليِّ بن غازي، العثمانيُّ النسب، المكناسيُّ المنشأ، الفاسيُّ الدار، [رضي الله تعالى عنه ورحمه ونفعنا بركاته](4).
          الحمد لله الذي أنعم علينا بملَّة (5) الإسلام، وألهمنا حفظ حديث نبيه عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة (6) والسلام.
          أمَّا بعد؛ فهذا كتاب سمَّيته بـ«إرشاد اللَّبيب إلى مقاصد حديث الحبيب»، وأودعته نكتًا يخفُّ حملها، ويسهل_إن شاء الله تعالى_ تناولها ونقلها، انتقيتها من كلام شرَّاح «البخاريِّ» (7) بحسب التَّيسير، ومن الله تعالى أستمدُّ التوفيق وتسهيل العسير، فذلك عليه يسير، وهو على كلِّ شيء قدير، وقد جعلت علامة (ب) للشَّيخ (8) أبي الحسن عليِّ بن خلف بن بَطَّالٍ (9)، وعلامة (ز) للإمام أبي عبد الله مُحَمَّد بن عليٍّ (10) المازريِّ ممَّا علَّق عنه على كتاب «الجوزقيِّ»، وعلامة (ح) لشيخ شيوخنا شهاب الدين ابن حجر بعضه من «شرحه» وبعضه (11) من «مقدِّمته»، وجعلته كالتكملة لكتاب «البدر الزركشيِّ»، فلا أذكر غالبًا إلَّا ما أغفله.
          فأمَّا مناقب الإمام البخاريِّ (12) ؛ [وهو أبو عبد الله مُحَمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف بن دزبة الجعفيُّ بالولاء البخاريُّ الحافظ الإمام صاحب «الجامع الصحيح» الذي عليه هذه الحاشية وله شروحٌ كثيرة وأكبر ما عليه من الشروح شرح صاحب «القاموس» وهو المجد اللغويُّ في أربعة وعشرين سفراًً ويليه «فتح الباري» في اثني عشر سفرًا للحافظ ابن حجر ويليه العلَّامة العينيُّ وله شروحٌ وحواشٍ لا يمكن سردها.
          رحل في طلب الحديث إلى أكثر محدِّثي الأمصار بخراسان، والجبال ببخارى والشام ومصر، وقدم بغداد، وقال: ما وضعت في «الصحيح» حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصلَّيت ركعتين وصنَّفته لستَّ عشرة (13) سنةً، وخرَّجته من مئة ألف حديثٍ، وجعلته حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى.
          وكان الفربريُّ آخرَ مَن يروي عنه من تسعين ألف راوٍ (14)، وُلِدَ ثالث عشر شوَّال سنة أربعٍ وتسعين ومئة، وتوفِّي ليلة عيد الفطر [سنة] ستٍّ (15) وخمسين ومئتين، وأوَّل من أسلم من أجداده المغيرة، ومن تقدَّمه كان مجوسيًّا، وبخارى من أعظم مدن ما وراء النهر، ونسبته إلى سعيد بن جعفر الحنفيِّ والي خراسان، كان له عليهم الولاء، انتهى، وقيل: خرَّجه من ستِّ مئة ألف حديثٍ، وقال عبد الرزَّاق بن همَّام: سمعت عدَّةً من المشايخ يقولون: دوَّن البخاريُّ تراجم كتابه بين قبر النَّبيِّ صلعم ومنبره، وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتين، وقال الفربريُّ: سمع «كتاب البخاريِّ» عليه سبعون ألفًا، فما بقي أحدٌ يرويه غيره، هذا مع علوِّ الإسناد، فقد حصل بالنقل المتواتر أنَّ البخاريَّ جاز قَصب السباق، انتهى]
(16).
          فبحرٌ لا ساحل له، وقد كتب له أهل بغداد:
المسلمون بخير ما بقيت لهم                     وليس بعدك خير حين تُفتَقد
          وأشياخه خمس طبقات:
          الأولى: مَن حدَّثه عن التابعين؛ / كمُحَمَّد بن عبد الله الأنصاريِّ، ومكيِّ بن إبراهيم، وأبي عاصم النَّبيل.
          الثانية: من كان في عصر هؤلاء، لكن لم يسمع من ثقات (17) التابعين؛ كآدم بن أبي إياس، وأبي مُسهِر، وسعيد بن أبي مريم، وأيُّوب بن سليمان.
          الثالثة: من أخذ عن كبار تابعي (18) التابعين؛ كسليمان بن حرب، وقتيبة بن سعيد، وعليِّ ابن المدينيِّ، ويحيى بن معين، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة، وهذه الطبقة يشاركه (19) فيها مسلم.
          الرابعة: رفقاؤه في الطلب، ومن سمع قبله قليلًا؛ كمُحَمَّد بن يحيى الذهليِّ، وأبي حاتم الرازيِّ، ومُحَمَّد بن عبد الرحيم، وعبد بن حميد.
          الخامسة: قوم في عداد (20) طبقته في السنِّ والإسناد؛ كعبد الله بن حماد، وحسين بن مُحَمَّد، روى عنهم أشياء يسيرة.
          قال العقيليُّ: لمَّا ألَّف البخاريُّ كتاب «الصحيح»، عرضه على أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين، وعليِّ ابن المدينيِّ، وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصِّحَّة (21) إلَّا في أربعة أحاديث.
          قال العقيليُّ: والقول فيها قول البخاريِّ، وهي أحاديث (22) صحيحة، وقدم نيسابور سنة خمسين ومئتين، فحرَّض (23) محدِّثها مُحَمَّد بن يحيى الذهليُّ (24) أهلها على السَّماع منه، وأثنى عليه، فحدَّث بها مدَّةً، ثمَّ وقع بينه وبين الذهليِّ ما وقع، فأمرهم الذهليُّ بالانقطاع عنه، فانقطع عنه أكثرهم، وبقي مسلم بن الحجَّاج يحضر مجلسه ومجلس الذهليِّ، فقال الذهليُّ يومًا: ألا من قال بمثل قول البخاريِّ؛ فلا نحلُّ (25) له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس، فبعث إلى الذهليِّ بجميع ما كان كتب (26) عنه على ظهر حمال، كذا ذكر الحاكم.
          (ح) وقد أنصف مسلم، فلم يحدِّث في «كتابه» لا (27) عن هذا ولا عن هذا.
          ثمَّ رجع البخاريُّ إلى بخارى، فبالغ أهلها في إكرامه، وأقام يحدِّث بها إلى أن بعث إليه عاملها_ [وهو خالد بن أحمد بن خالد الذهليُّ] (28)_أن يأتيه؛ ليحدِّثه (29) في مسجده أو داره، ويحدِّث أولاده، فامتنع البخاريُّ، [وقال: لا أذِلُّ العلمَ، فإن أردت العلم؛ فائتنا أنت، فأمره العامل بالخروج من بخارى] (30)، فخرج (31)، وسُمِع ليلةً بعدما فرغ من تهجُّده يقول: اللهمَّ؛ قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تمَّ (32) الشهر حتى توفِّي، ☼ (33).
          (ح): واعلم أنَّ «البخاريَّ» أصحُّ مصنَّفات الحديث، وإنَّما آثر المغاربة عليه «مسلمًا»؛ لأنَّ مسلمًا يجمع المتون تامَّة بألفاظها، ولا يفرِّقها في الأبواب، ولا يخلطها بأقوال السلف، و«البخاريُّ» أنفع للطالب؛ لما يستنبطه من فقهه في تراجمه، وربَّما خفي استنباطه، فكان تمسُّكًا بالاقتضاء أو باللُّزوم (34) أو بصيغة العموم، أو إشارة إلى ما في بعض طرقه ممَّا يعطي المقصود وإن (35) قصر عن درجة شرطه، ولكن بقيت عليه تراجم كأنَّه لم يجد حالة (36) التَّصنيف ما يلائمها، فأخلاها عن الحديث، وبقيت (37) أحاديث كأنَّه لم يتَّضح له ما يترجم به عنها، / فجعل لها أبوابًا بلا تراجم، فربَّما ضمَّ ناسخ مبيَّضته بابًا مترجمًا إلى (38) غير مترجم، وأزال البياض الذي بينهما، فأتعب (39) بعض الناس في تكلُّف طلب المناسبة فيما لا مناسبة فيه.
          وقد أشار إلى هذا أبو إسحاق المستملي راوي (40) الفربريِّ.
          فصل:
          قد عرَّف البخاريُّ (41) بأبيه إسماعيل بن إبراهيم، وقال: سمع من مالك وحماد بن زيد، ورُوي أنَّ البخاريَّ عمي في صغره، فرأت والدته إبراهيم الخليل في النوم، فقال: يا هذه؛ قد ردَّ الله تعالى على ابنك بصره؛ لكثرة دعائك، فأصبح مبصرًا، ومرض، فعرض ماؤه على الأطباء، فقالوا: هذا ماء من لا يأكل الدسم، فصدَّقهم، وقال: ما أكلته منذ أربعين سنة، فألحُّوا عليه في أكله، فعاد يأكل مع الخبز سكَّرة، وقال: رأيتُّ النَّبيَّ صلعم في النوم، ورأيت أنِّي أذبُّ (42) عنه بمروحة، فقال أهل التَّعبير: أنت تذبُّ (43) عنه الكذب، ولما مات ودُفِن؛ سطع من قبره رائحة المسك، ودامت أيَّامًا.
          قلت: وقد رمزت لوفيات الخمسة الذين هم كفُّ الإسلام بحساب (44) الجُمَّل في أوائل كلم هذه الأبيات(45) :
بخارينا (ر)وى (و)رد (نقي)(46)                     ومسلمنا (صـ)ـفا (أ)صل (ر)ضي
أبو داود (ر)د (عـ)ـلمًا (هـ)ـداه                     أبو عيسى (ر)ضا (طـ)ـود علي
نسائينا (جـ)ـلا (47) (سـ)منا (48) ورمزي                     وفاتهم أفادك يا أخي
          بتخفيف (49) ياء النَّسب في «بخارينا»، و«نسائينا»؛ للوزن، على أنَّ الصَّواب: نسائيٌّ؛ بالقصر، انتهى.


[1] زيد في (ط): (ومولانا).
[2] (وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا): ليس في (ط).
[3] بدل مما بين معقوفين في (ط): (يقول العبد الفقير إلى رحمة مولاه، الغنيُّ به عمَّن سواه).
[4] بدل مما بين معقوفين في (ط): (سمح الله تعالى له بمنِّه وكرمه، إنَّه على كلِّ شيء قدير).
[5] في (ط): (بمنة).
[6] زيد في (ط): (وأزكى).
[7] في (ط): (الإمام البخاري).
[8] في (خ): (لشيخ).
[9] ليس في (ط): (ابن بطَّال).
[10] (مُحَمَّد بن عليٍّ): ليس في (خ).
[11] (وبعضه): ليس في (ط).
[12] زيد في (ط): (⌂).
[13] في (خ): (لستة عشر).
[14] في هامش (خ) في الصفحة اللاحقة: (قف على الفربريِّ: هذا آخر من يروي عن البخاريِّ من تسعين ألف راوٍ، انتهى).
[15] في (خ): (سبع)، والمثبت من هامشها.
[16] ما بين معقوفين ليس في (ط).
[17] في (ط): (ثقافة).
[18] (تابعي): ليس في (ط).
[19] في (ط): (شاركه).
[20] في (خ): (عدد).
[21] في (خ): (بالصحبة).
[22] (أحاديث): ليس في (خ).
[23] في (ط): (فحرص).
[24] زيد في (ط): (من).
[25] في (ط): (أحل).
[26] في (ط): (ما كتبه).
[27] (لا): ليس في (ط).
[28] ما بين معقوفين جاء في هامش (ط): (يعني: ابن خالد بن أحمد الذهلي).
[29] في (ط): (ليحدث).
[30] ما بين معقوفين سقط من (خ).
[31] زيد في هامش (خ): (أي: خرج إلى خرتنك توفِّي بها، وهي قرية من قرى سمرقند، والله أعلم، وكان عمره اثنتين وستِّين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، انتهى).
[32] في (خ): (ثم).
[33] في (ط): ( رحمة الله تعالى علينا وعليه).
[34] في (ط): (اللزوم).
[35] في (ط): (إن).
[36] في (ط): (حال).
[37] زيد في (ط): (له).
[38] زيد في (ط): (حديث).
[39] في (ط): (وتعسف).
[40] في (خ): (رواي).
[41] زيد في (ط): (في تاريخه).
[42] في (خ): (أدب).
[43] في (خ): (تدب).
[44] في (خ): (بحسب).
[45] في (ط): (في أوائل هذه الكلمات).
[46] في (ط): (فقي).
[47] في (ط): (وجلا).
[48] في (ط): (سمتا).
[49] في (ط): (بتحقيق).