التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

حديث: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف

          3336- قوله: (وقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ / سَعِيدٍ) عن عمرة عن عائشة ترفعه: ((الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)) هذا التَّعليق رواه الإسماعيليُّ عن عبد الله بن صالح، حدَّثنا محمَّد بن إسماعيل _وليس بالبخاري_ حدَّثنا عبد الله بن صالح، حدَّثنا اللَّيث به.
          واعلم أنَّ القرطبيَّ نبَّه على أنَّه يستفاد من هذا الحديث أنَّ من وجد في نفسه نفرة ممَّن له فضل أو صلاح أن يفتِّش عن الموجب لها، فإذا انكشف له تعين عليه أن يسعى في إزالة ذلك حتَّى يتخلَّص من ذلك الوصف المذموم، وكذلك القول فيما إذا وجد من نفسه ميلًا لمن فيه شرٌّ وشبهة، وشاع في كلام النَّاس الشَّكل يألف شكله، والمناسبة تؤلف بين الأشخاص، ولمَّا نزل عليٌّ بن أبي طالب ☺ الكوفة قال: يا أهل الكوفة قد علمنا خيركم من شرِّيركم فقالوا: كيف ذاك؟ قال: كان معنا ناس من الأخيار فنزلوا عند ناس فعلمنا أنَّهم من الأخيار، وكان معنا ناس من الأشرار فنزلوا عند ناس فعلمنا أنَّهم من الأشرار.وكان كما قال ☺.ولقد أجاد القائل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه                     وكل قرين بالمقارن يقتدي
          وقال الطِّيبي: الفاء في قوله: (فَمَا تَعَارَفَ) للتَّعقيب أتبعت المجمل بالتَّفصيل، فدلَّ قوله: (مَا تَعَارَفَ) على تقدُّم اشتباك (1) واختلاط في الأزل، ثمَّ يفرَّق بعد ذلك في الآزال أزمنة متطاولة، ثم ائتلاف بعد التَّعارف، كمن فقد أنيسه وأليفه ثمَّ اتَّصل به، فلزمه وأنس به.
          ودلَّ قوله: (وَمَا تَنَاكَرَ) على أنَّ ذلك الفقيد لحق لمن لم يكن له سبق اختلاط معه، فاشمأزَّ منه وفارقه إلى من كان معه في السَّابق، وقيل: تشبيه الأرواح بالجنود المجنَّدة على أنَّ ذلك الاجتماع في المبدأ كان لأمر عظيم وخطب جسيم من فتح بلاد وقهر أعداء وأضداد.ودلَّ ذلك على أنَّ أحد الحزبين حزب الله والآخر حزب الشَّيطان، فمن تألَّف في الأول بحزب الله فاز وأفلح.{أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون}[المجادلة:22].
          ومن تألَّف بحزب الشَّيطان خاب وخسر {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون}[المجادلة:19] ومن عادة الأجناد المتحزِّبة أن يوسم كل واحد من أحد الحزبين بعلامة لرفع التَّناكر من البين، فمتى شاهدوها ائتلفوا.
          فعلى هذا بنى قوله: ((فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ)) فهو تفريع على التَّشبيه بمنزلة ترسيخ الاستعارة / وهذا التَّعارف إلهام يقذفه الله في قلوب العباد من غير إشعار منهم بالسَّابقة، ولا يمنع من هذا التَّعارف وصلة الأباعد والأجانب، ولا تضمُّه شجنة الأرحام والأواصر، قال:
كانت مودَّة سلمان لنا نسبًا                     ولم يكن بين نوح وابنه رحم
          ولم يحظ آل قصي وحظيت أم معبد، قال:
فيا لقصي ما زوى الله عنكم به                     من فعال لا تجاري وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم                     ومقعدها للمؤمنين بمرصد
          ولا يدفعه بعد الدَّار ولا يجمعه قربها، قال:
مناسبة الأرواح بيني وبينها                     وإلَّا فأين الترك من ساكني نجد
          قال الحكيم: أقرب القرب مودَّة القلوب وإن تباعدت الأجسام.وأبعد البعد تنافر التَّداني.
          قلت: أنشدني بعض الإخوان:
إنَّ النُّفوس لأجناد مجنَّدة لله                     في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها متَّفق                     وما تناكر منها فهو مختلف
          وأنشدني الشَّيخ الصَّالح عبد الله البسطامي نزيل بيت المقدس حين قدم علينا دمشق وسلَّمت عليه فأقبل عليَّ وقال:
بيني وبينك نسبة معلومة                     مخبوءة عن كلِّ هذا العالم
نحن الذين تعارفت أرواحنا                     من قبل خلق الله طينة آدم
          قوله: (وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا) ساق الإسماعيليُّ حديث يحيى بن أيُّوب من حديث سعيد بن الحكم بن أبي مَرْيَمَ، قال: حدَّثنا يحيى فذكره قال: كانت امرأة مزَّاحة بمكَّة فقدمت المدينة فنزلت على امرأة مثلها مزَّاحة فبلغ ذلك عائشة فقالت: صدقت حتى سمعته صلعم يقول: ((الْأَرْوَاحُ جُنُوْدٌ مُجَنَّدَةٌ)) الحديث.
          قال الإسماعيليُّ: أبو صالح ليس من شرط الكتاب، وكذا يحيى بن أيُّوب المصريُّ هو عنده ممَّن لا يخرج له في هذا الكتاب رواية إلَّا استشهادًا، ثمَّ جاء بهذا الحديث وهما روياه مرسلًا، وبنحوه ذكره أبو نُعَيْم، ثمَّ قال: كلتا الرِّوايتين ذكرهما مُرسلًا بلا رواة.وأراد كان عنده عن أبي صالح عن اللَّيث فكفَّ عن ذكره.ورواه مسلم في «صحيحه» من حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا.


[1] صورتها في الأصل:((اشتياق)) والمثبت هو الصَّواب.