التلويح إلى معرفة ما في الجامع الصَّحيح

حديث: يا بني النجار ثامنوني

          1868- قوله: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) هو عبدالله بن عمرو بن ابن الحجَّاج المنقري بكسر الميم وفتح القاف المقعد.
          قوله: (حدَّثنا أبو التياح) هو بمثنَّاة من فوق ثمَّ أخرى من تحت مشدَّدة وحاء مهملة، اسمه: يزيد بن حميد الضبعي تابعي مشهور من أهل البصرة، روى له الجماعة، مات سنة ثمان وعشرين ومائة.
          قوله: (يَا بَنِي النَّجَّارِ) المخاطب بذلك مستحق ذلك منهم، ويقال: كان لسهل وسهيل، وكانا يتيمين في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، فلما بركت ناقة رسول الله صلعم عند موضع المسجد وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين وكان مربدًا لهما دعاهما رسول الله صلعم ، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى ذلك حتَّى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك، وقال ابن هشام: كانا في حجر معاذ بن عفراء، قال ابن الأثير: وليسا بسهل وسهيل ابنا (1) بيضاء كما ظنه ابن منده في كتاب «الصحابة»، فإن ابني بيضاء من بني فهر، وأولئك من الأنصار، وهما سهل بن عمرو الأنصاري النجاري وأخوه سهيل، قال: وذكر ابن عبد البَرِّ: أن المربد كان لسهل وسهيل ابني رافع.
          قوله: (ثَامِنُونِي) أي: قرروا معي ثمنه، يقال: ثامنت الرجل في المبيع أثامنه إذا قاولته في ثمنه وساومته على بيعه واشترائه.
          قوله: (ثُمَّ بِالخِرَبِ، فَسُوِّيَتْ) الخرب بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة مفتوحة جمع خربة كنقمة ونقم، ويجوز أن يكون جمع خربة بكسر الخاء وسكون الراء كنعمة ونعم، ويجوز أن يكون الخرب بفتح الخاء وكسر الراء كنبقة ونبق، ويُروى بالحاء المهملة والثاء المثلَّثة، يريد به: الموضع المحروث للزراعة، قال الخطابي: ولعلها: خرق جمع خرق، وهي الخروق في الأرض، إلا أنهم يقولونها في كلِّ ثقبة مستديرة، قال: ولعلها: جرف، وهي جمع جرفة، قال: وأبين من ذلك أن تكون حدبًا جمع حدبة، وهو ما نتأ من الأرض، وإنَّما يسوى المكان المحدودب، قال القاضي: ولا أدري ما قال، وكما قطع النخل الذي هنالك سوى بقايا الخرب وهدم أطلال الجدران كما فعل بالقبور، والرواية صحيحة المعنى غنية عن تكلف التعيين. انتهى.
          قوله: (فَصَفُّوا النَّخْلَ) أي: جعلوها مصفوفة قبلة المسجد.
          1870- قوله: (مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلَّا كِتَابُ اللهِ وَما في هَذِهِ الصَّحِيفَةُ) قال النَّووي: فيه تصريح منه بإبطَّال ما تفتريه الشيعة وتزعم من أن النَّبي صلعم أوصى إلى علي ☺ بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين، ويكتفى في إبطَّال دعواهم الباطلة واختراعاتهم الفاسدة من أنَّه صلعم خص أهل البيت ممّا لم يطلع عليه غيرهم بقول علي ☺ هذا. و(الصَّحِيفَةُ): هي الرقعة المكتوب فيها: المدينة / حرم ما بين عائر إلى كذا وكذا بذال معجمة بعد الكاف، والمراد به (2): إلى ثور كما في رواية مسلم.
          قوله: (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا) تقدَّم أن المراد بالحدث: الإثم، وقِيلَ: الجنايات في الدين، والعمل بخلاف السنة، وقال النَّووي: الأمر الحادث الذي ليس بمعتاد ولا معروف.
          قوله: (أَوْ آوَى مُحْدِثًا) قال القاضي: آوى وأوى بالقصر والمد في الفعل اللازم والمتعدي جميعًا، لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح، والمد في المتعدي أشهر وأفصح، وبالأفصح جاء القرآن، فقال في اللازم: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ}[الكهف:63]، وقال في المتعدي: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ}[المؤمنون:50].
          والمحدث في قوله: (محدثًا) بكسر الدال المهملة وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر من نصر جانيًا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه، والقبح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضا به والصبر عليه، فإنَّه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها ولم ينكرها؛ فقد آوى فاعلها.
          قوله: (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ) المراد باللعن هنا: العذاب الذي يستحقه على ذنبه، والطرد عن الجنَّة أوَّل الأمر، وليس هو كلعنة الكفار الذين يبعدون من رحمة الله تعالى كل الإبعاد، وهذا اللعن المذكور في الحديث وعيد شديد لمن ارتكب هذا أن الله تعالى يلعنه والملائكة والناس، وهذا غاية في إبعاده عن رحمة الله، فإن اللعنة في اللغة: هي الطرد والإبعاد.
          قوله: (لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ) الصرف بفتح الصاد المهملة: الفريضة، والعدل بفتح العين المهملة: النافلة، قاله الأصمعي، قال القاضي: وقِيلَ: الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، وقِيلَ: الصرف النافلة، والعدل الفريضة. وقِيلَ: الصرف في الأفعال، وقِيلَ: الصرف الحيلة. انتهى. وعن الأصمعي: إن الصرف التوبة، والعدل الفدية، وروي ذلك مرفوعًا، وقال الطبري: الصرف مصدر من قوله: صرفت نفسي عن الشيء أصرفها صرفًا، وإنَّما عنى به في هذا الموضع صرف مرتكب الذنب وهو المحدث في الحرم حدثًا من سفك دم أو استحلال محرم عن أن تقبل توبته، والعدل: ما يعدله من الفدية والبدل، وكل ما عادل الشيء من غير جنسه، وكان له مثلًا من وجه الجزاء لا من وجه المشابهة في الصورة والخلقة؛ فهو له عدل بفتح العين، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}[الأنعام:70] بمعنى: وإن تفد كل فدية، وأمَّا العدل بكسر العين؛ فهو مثل الحمل المحمول على الظهر، يقال: عندي غلام عدل غلامك، وشاه عدل شاتك بكسر العين إذا كان يعدله، وذلك في كلِّ شيء مثل الشيء من جنسه، فإذا أراد أن عنده قيمته من غير جنسه فتح العين، فيقول: عندي عدل شاتك من الدراهم، وذكر عن بعض العرب: أنهم يكسرون العين من العدل الذي هو الفدية، وذلك لتقارب معنى العدل عندهم، وفي «المحكم»: الصرف الوزن، والعدل الكيل، وقِيلَ: الصرف القيمة، والعدل / الاستقامة، قال عياض: فقيل في معنى ذلك: أي: لا يقبل منه فريضة ولا نافلة قبول رضى، وإن قبلت قبول جزاء. وقِيلَ: القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بها، قال: وقد يكون بمعنى الفدية هنا أنَّه لا يجد في القيمة قدرًا يفتدي به، بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله تعالى على من يشاء منهم بأن يفديه من النار يهودي أو نصراني كما ثبت في الصَّحيح. قال ابن التين: فتحصلنا على ستة أقوال في الصرف: الحيلة، النافلة، التوبة، الفريضة، الاكتساب، الوزن، وفي العدل على أربعة أقوال: النافلة، الفدية، الفريضة كما قاله البخاري وغيره، الكفل، قاله القزاز عن غيره، وقال ابن فارس: العدل: الفداء.
          قوله: (ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ) الذمة: العهد، سمي بها؛ لأنَّها تذم متعاطيها على إضاعتها، أي: ذمة واحدة، سواء صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا آمن أحد من المسلمين كافرًا، وأعطاه ذمته؛ لم يكن لأحد نقضه، وهو يدل على صحة أمان المرأة والعبد، ويصححه قوله صلعم في الحديث: ((يسعى بها أدناهم))، فإذا آمن أحدهما حربيًا؛ فهو آمن، وهو مذهب مالك والشافعي، ومنع من ذلك أبو حنيفة، فقال: إلا أن يكون سيده قد أذن له في القتال.
          قوله: (فَمَنْ أَخْفَرَ) هو بخاء معجمة وفاء، أي: نقض عهده وذمته، قال الخليل: أخفرت الرجل إذا لم تف بذمته، والاسم: الخفور، وقال ابن فارس: أخفر عهده: نقضه، وخفره بغير ألف إذا آمنه، وأخفرته: جعلت منه خفيرًا، والهمزة في أخفرته للإزالة، أي: أزلت خفارته، كأشكيته إذا أزلت شكواه.
          قوله: (وَمَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) أراد: ولاء العتق، أي: من اتخذهم أولياء له، وقال ابن الملقِّن: يحتمل تولي غير مواليه الحلف والموالاة، وظاهر قوله: (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) إنَّ ذلك شرط، وليس بشرط؛ لأنَّه لا يجوز له إذا أذنوا له أن يوالي غيرهم؛ لأنَّ الولاء كالنسب، فلا يزال بالإزالة، وإنَّما هو بمعنى التوكيد لتحريمه، والتنبيه على بطلانه، والإشارة إلى السبب فيه؛ لأنَّه إذا استأذن أولياءه في موالاة غيرهم، فمنعوه، فيمتنع، والمعنى: إن سولت له نفسه ذلك؛ فليستأذنهم، فإنهم يمنعونه، وحديث: «من تولى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله» يبين أن قوله: (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) إنَّما ذكره لتأكيد التحريم.
          تنبيه: إن قيل: ما وجه إدخال حديث أنس في بناء المسجد في باب حرم المدينة. فجوابه كما قال المهلَّب: تعريفك أن قطع النخل كان ليسوى للمسلمين مسجدًا. وفيه من الفقه: أن (3) من أراد أن يتخذ جنانًا في حرم المدينة ليعمرها ويغرس فيها النخل ويزرع فيها الحبوب لا يتوجه إليه النهي عن قطع شجرها، ولا يمنع من قطع ما فيه من شجر الشعراء وشوكها؛ لأنَّه ينبغي (4) للصلاح والتأسيس للسكنى وموضع القارة، فهذا يبين وجه النهي / أنَّه موقوف على المفسد لبهجة المدينة ونضرتها وخضرتها بعين المهاجر إليها حتَّى تبتهج نفسه بنضرتها وترتاح، وإن كان ابتهاجه بمسجدها الذي هو بيت الله تعالى ومنزل ملائكته ومحل وحيه أعظم، والسرور به أشد. وقِيلَ: قطعه للنخيل يدل على أن النهي يتوجه إلى ما لم ينبته الآدميون من الشجر دون ما أنبتوه كالنخيل ونحوها.


[1] صورتها في الأصل ابنى فتحتمل ابنى أو ابني.
[2] في الأصل كأنه شطب على((به)) تراجع.
[3] في الأصل كرر((أن)) مرتين.
[4] كذا صورتها في الأصل.