التلويح شرح الجامع الصحيح

حديث: اجتنبوا السبع الموبقات

          2766- حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: حدَّثني سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم أنه قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا / ، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ» [خ¦2766].
          من الكبائر المذكورة في الصَّحيح أيضًا عقوق الوالدين، وشهادة الزُّور، والنَّميمة، وعدم الاستبراء من البول، واليمين الغموس، واستحلال بيت الله الحرام.
          وقال العلَّامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام في كتاب «القواعد»: إذا أردت معرفة الفرق بين الصَّغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصَّغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أَرْبَتْ عليه فهي من الكبائر.
          فمن شتم الرَّبَّ جلَّ وعلا، أو رسوله صلعم، أو استهان بالرُّسل، أو كذَّب واحدًا منهم صلوات الله عليهم وسلامه، أو ضمَّخ الكعبة المشرَّفة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات فهي من أكبر الكبائر، ولم يُصرِّح الشَّرع بذكرها.
          قال شيخنا القُشَيري: هذا الذي قاله عندي داخلٌ فيما نصَّ عليه الشَّرع بالكفر، إن جعلنا المراد بالإشراك بالله مطلق الكفر.
          قال ابن عبد السَّلام: وكذا لو أمسك امرأة محصنة ليزني بها، أو أمسك مسلمًا لمن يقتله، فلا شكَّ أنَّ مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر، وكذا لو دلَّ الكفار على عورات المسلمين، مع علمه أنهم يستأصِلون بدلالته، ويَسبون ويغنمون، فإنَّ تسبُّبَه إلى هذه المفاسد أعظم من تولِّيه يوم الزَّحف بغير عذر مع أنه من الكبائر. وكذلك لو كذب على إنسان كذبًا يعلم أنه يُقتل بسببه.
          قال: وقد نصَّ الشَّارع على أنَّ شهادة الزُّور، وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في حقير فيجوز أن يُجعلا من الكبائر، فطامًا عن هذه المفاسد، كما جُعِل شرب قطرة من الخمر من الكبائر وإن لم تتحقَّق المفسدة، ويجوز أن يُضبط ذلك بنصاب السَّرقة.
          قال: والحكم بغير الحقِّ كبيرة؛ فإن شاهد الزُّور متسبِّب، والحاكم مباشر، فإذا جُعِلَ التسَبب كبيرة فالمباشرة أولى.
          قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها: كلُّ ذنب قُرن به وعيدٌ، أو حدٌّ، أو لعنٌ.
          فعلى هذا: كل ذنب علم أنَّ مفسدته كمفسدة ما قُرن به الوعيدُ، أو الحدُّ، أو اللعنُ، أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة.
          ثم قال: والأولى أن تضبط الكبيرة / بما يُشعر بتهاون مرتكِبِها في دينه؛ إشعارًا مُصَغِّرًا لكبائر المنصوص عليها.
          وقال العلماء: إنَّ الإصرار على الصَّغيرة يجعلها كبيرة، والإصرار هو أن تتكرَّر منه الصغيرة تكرُّرًا يشعر بغلبة حبٍّ لا يدفعه إشعارُ ارتكاب الكبيرة بذلك، وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع، بحيث يُشعر مجموعها ما يُشعر به أصغر الكبائر.
          وقيل: الإصرار استمرار العزم على المعاودة، أو باستدامة الفعل، بحيث يدخل فيه ذنبه في حيِّز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرًا عظيمًا.
          قال ابن الصَّلاح: وليس لزمان ذلك وعدَدِه حصرٌ، وقد سمعت بعض العلماء يقول: الإصرار هو أن يمضي عليه وقت الصلاة وما استغفر من ذلك الذنب.
          قال القرطبي: (المُوْبِقَاْت)؛ أي: المهلكات، جمع مُوبِقة، من أوبق، ووابقة اسم فاعل من وَبَقَ يَبِقُ وُبُوقًا: إذا هلَكَ، والمَوْبِقُ: مَفْعِلٌ منه، كالمَوْعِد، وفيه لغة ثانية: وَبِقَ، بكسر الباء، يَوْبَقُ بفتحها، وَبَقًا، وفيه لغة ثالثة: وَبِقَ يَبِقُ بالكسر فيهما.
          قال: وقوله: (اجْتَنِبُوْا السَّبْعَ) ليس فيها ما يدل على عدم اجتناب غيرها، ويحتمل أن يكون سيِّدنا رسول الله صلعم أُعْلِمَ بها في ذلك الوقت، ثم أُوحِي إليه بعد ذلك غيرُها، أو تكون (السَّبْع) هي التي دعت إليها الحاجة ذلك الوقت، وكذلك القول في كلِّ حديث خصَّ عددًا من الكبائر.
          واختلف العلماء في الفرق بينها وبين الصَّغائر، وعن ابن مسعود: الكبائر جميع ما نهى الله جلَّ وعزَّ عنه من أول سورة النساء إلى قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ }[النساء:31].
          وعن الحسن: هي كلُّ ذنب ختمه الله تعالى بنارٍ، أو لعنةٍ، أو غضبٍ. وعن ابن عبَّاس: كلُّ ما نهى الله عنه فهي كبيرة، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وغيره.
          وعن عِياض: هذا مذهب المحقِّقين؛ لأنَّ كلَّ مخالفة فهي بالنِّسبة إلى جلال الله جلَّ وعزَّ كبيرة. قال القرطبي: وما أظنه صحيحًا عنه _يعني ابن عبَّاس من عدم التَّفرقة بين المنهيَّات_ فإنَّه قد فَرَّق بينهما في قوله جلَّ وعزَّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء:31]، وقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ}[النجم:32]، فجعل من المنهيَّات كبائر وصغائر، وفرَّق بينهما في الحكم لَمَّا جعل / تكفير السَّيِّئات في الآية مشروطًا باجتناب الكبائر، واستثنى اللَّمَم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفى مثل هذا الفرق على حَبْر القرآن؟ فدلَّ أنَّ الرواية عنه بذلك لا تصح، أو هي ضعيفة، وكذلك أكثر ما رُوِيَ عنه، فقد كُذب عليه كثيرًا.
          والصَّحيح إن شاء الله أنَّ كلَّ ذنب أَطلق الشَّرع عليه كبيرًا أو عظيمًا، أو أخبر بشدَّة العقاب عليه، أو علَّق عليه حدًّا، أو شدَّد النَّكير عليه وغلَّظه، وشهد بذلك كتابُ الله، أو سنَّةٌ، أو إجماعٌ، فهو كبيرة.
          وفي كتاب «البسيط» للغزالي: إنكار الفروق بين الصَّغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه.
          والسِّحْرُ: فعلُه، أو تعلُّمه، أو تعليمه من الكبائر، وقال بعض أصحاب الشَّافعي: تعلُّمُه ليس بحرام، بل يجوز؛ ليُعرفَ ويُردَّ على فاعله، ويُميزه عن الكرامة للأولياء. وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث على فعل السِّحْر.
          وفي «الموطَّأ»: مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن أسعد ابن زُرارة، أنَّه بلغه أنَّ حفصةَ زوجَ النَّبيِّ صلعم قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دَبَّرَتها، فأمرت بها فقُتِلت.
          قال مالك: السَّاحر الذي يعمل السِّحر، ولم يعمل ذلك له غيرُه، هو مثل الذي قال الله جلَّ وعزَّ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }[البقرة:102] فأرى أن يُقتلَ إذا عمل ذلك هو نفسه.
          قال أبو عمر: قد رُوِيَ هذا الحديث عن نافع، عن حفصة، وعن نافع، عن ابن عمر. قال ابن عيينة: أخبرني مَن سمع نافعًا يُحدِّثه عن حفصة: أنَّها قتلت جارية لها سحرتها.
          وذكر عبد الرزَّاق قال: أخبرنا عبد الله أو عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: «أنَّ جَارِيةً لحَفْصَةَ سَحَرَتْهَا، واعْتَرَفَت بِذَلكَ، فَأَمَرَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ الخَطَّابِ فَقَتَلَهَا، فَأْنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَاْ عُثْمَاْن» فقلت: «أَتُنْكِرُ عَلَىْ أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ مِن امْرَأَةٍ سَحَرَتْهَا وَاعْتَرَفَتْ» فَسَكَت.
          وعند مالك: عن أبي الرِّجال، عن أمِّه عَمْرة، عن عائشة: أنَّها أَعْتَقَتْ جَاْرِيَةً لَهَاْ عَنْ دُبُرٍ مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ عَائِشَةَ مَرِضَت بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا سَيِّدِي، فَقَالَ: إِنَّكِ مَطبُوبَةٌ، قَالَتْ: ومَنْ طَبَّنِي؟ فقَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ نَعْتِهَا كَذَا وَكَذَا، فِي حِجْرِهَا صَبِيٌّ قَدْ بَالَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ادْعُ لِي فُلانَةً، لِجَارِيَةً لَهَا تَخْدُمُهَا، فَوَجَدُوهَا فِي بَيْتِ جِيرَانٍ لَهَا، فِي حِجْرِهَا صَبِيٌّ قَدْ بَاْلَ، فَقَالَتْ: حَتَّى أَغْسِلَ بَوْلَ الصَّبِيِّ، فَغَسَلَتْهُ، ثُمَّ جَاءَتْ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: سَحَرْتِينِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَتْ: أَحْبَبْتُ العِتْقَ، فقَالَتْ عَائِشَةُ: فَوَاللهِ لا / تُعْتَقِينَ أَبَدًا، فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ ابْنَ أُخْيهَا أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ يُسِيءُ مَلْكَتَهَا مِنَ الأَعْرَابِ.
          قال أبو عمر: هذا الحديث رواه مالك في موطَّئه، فليس عند يحيى وطائفة معه من رواة الموطأ، وأثبت حديث حفصة؛ لأنَّه هو الذي يُذهَب إليه من قَتْل السَّاحر، وهو مذهب عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وقيس بن سعد، وجندب رجل من الصحابة.
          وفي «الأقضية» لابن الطَّلَّاع: قتلت عائشة مُدَبَّرة تسحرها فيما يذكر، ولم يثبُت، وإنَّما ثبت أنها باعتها.
          قال أبو عمر: روى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن أبي الجعد، أن قيس بن سعد إذ كان على مصر كان سِرُّه يفشو، فشقَّ ذلك عليه. فقيل له: إنَّ هنا رجلًا ساحرًا فبعث إليه، فسأله، فقال: إنَّا لا نعلم ما في الكتاب حتى يُفتح، فإذا فُتِح علمنا ما فيه، فأمر به قيس فقُتِل.
          وعن سفيان، عن عمَّار الدُّهْنِي: أنَّ ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة، يمشي على الحَبْل، ويدخل في اسْتِ حمارٍ، ويخرج من فمه، فاشتمل جندبُ على سيفه فقتله.
          ورُوِيَ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَربَةٌ بِالسَّيفِ». رواه التِّرمذي بسند فيه إسماعيل بن مسلم المكي، وفيه ضعف، ولمَّا سأل محمدًا عنه قال: هذا لا شيء ، وقال ابن المنذر: وفي سنده مقال.
          قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابي، عن الحسن بن محمد الزَّعفراني: حدَّثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمع بُجَالة قال: كنت كاتبًا لجَزْء بن معاوية، عمِّ الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة أن: اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سَواحر.
          وعند أبي نعيم، عن عبد الله بن عصام الأشعري يرفعه: لعن عشرة، المعاضة والمُعتَضِهة، _يعني الساحرة_ والواشِرة والموتَشِرة. الحديث.
          قال ابن قتيبة في كتاب «المختلف»: قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا                     ت في عقد المعاضه المعضه
          قال أبو عمر: قد قال جماعة من فقهاء الأمصار: يقتل الساحر اتِّباعًا _والله أعلم_ لمن ذكرنا من الصَّحابة، وبنحو ما نزع به مالك، وأبت من ذلك طائفة، منهم الشافعي وداود فقالا: يقتل الساحر إذا تبيَّن أنَّه من عمله مات المسحور، فإن كان هلك قتل به قَوْدًا.
          قال الشَّافعي: وإن قال: إنَّ عملي هذا قد أُخطِئ به القتل وأصيب، وقد مات من عملي قوم، كانت عليه الدِّية في ماله، فإن قال: مرض من سحري ولم يمت، فأقسم أولياؤه إذا مات، وكانت فيه الدِّية.
          وقال داود: لو قال الساحر أنا أتكلم بكلام أَقتُل به، لم يجب قتله؛ لأنَّ الكلام لا يَقتُل به أحدٌ أحدًا، وقد جاء محال خارج عن العادات.
          وقد قيل: إن السِّحر لا حقيقة في شيء منه / وإنَّما هو تخيُّل، يُتخيَّل للإنسان الشَّيء على غير ما هو به، احتجاجًا بقوله جلَّ وعزَّ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }[طه:66] وبقول عائشة لما سُحر النَّبيُّ صلعم: «كَانَ يُخيَّلُ إِلَيهِ أَنَّه يَأِتي النِّسَاء».
          قال أبو عمر: والقول الأوَّل أعلى من جهة الاتِّباع، وأنَّه لا مخالف فيه من الصَّحابة، إلا عن عائشة، ومن زعم أنَّ السَّاحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة، ويقدر على نقل الأجسام، وهلاكها، وتبديلها، كما حكى الطَّبري في تفسيره، من حديث ابن أبي الزِّناد، عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: أَنَّ امْرَأَةً ذَكَرَت لَهَا أَنَّهَا صارت إِلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَأَنَّهَا زَرَعَت، فطَلَعَ، وَيَبِسَ، وطَحَنَتهُ، وَعَجَنَتهُ، وخَبَزَتهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
          قال أبو عمر: فهذا يرى قتل السَّاحر؛ لأنه كَفَرَ بالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه؛ لادعائه مثل آياتهم ومعجزاتهم، وأما من زعم أنَّ السِّحر مخاريق، وتمويهات، وتخيُّلات، فلا يجب على أصله، إلا أن يَقتل بفعله أحدًا فيُقتل به.
          وذكر ابن القصَّار أنَّ مالكًا، وأبا حنيفة، والشَّافعي، ذهبوا إلى أنَّ للسِّحر حقيقة.
          وفي «المبسوط» عن مالك في المرأة تُقِرُّ أنَّها عَقَدَت زوجها عن نفسها، أو عن غيرها من النِّساء، قال: تُنَكَّل ولا تُقتل. قال: ولو سَحَرَ نفسه لم يُقتل كذلك.
          وقال الباجي في «المنتقى»: قال القاضي أبو بكر، والقاضي أبو محمد في «المعونة»: إنَّ للسِّحر حقيقة، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}[البقرة:102] فجعلهم كفَّارًا بتعليمه، فثبت أنَّ له حقيقة.
          وقال الماوَردي: جمهور أهل السُّنَّة وعلماء الأمَّة على إثبات السِّحر، وأنَّ له حقيقة كحقيقة غيره. وقال أصبغ: لا يُقتل حتَّى يتبيَّن أنَّ ما فعله من السِّحر كفرٌ، يَكشف عن ذلك مَن يعرف حقيقته، ويُثبِت ذلك عند الإمام؛ لأنَّه معنى يجب به القتل، فلا يحكم به إلا بعد ثبوته وتحقيقه، كسائر ما يجب به القتل.
          وقال هو وابن عبد الحكم: إن كان لسحره مُظهِرًا، وقُتل، لم يُصلَّ عليه، وماله في بيت المال، وإن كان مستترًا به فماله بعد القتل لورثته من المسلمين، ولا نأمرهم بالصلاة عليه، فإن فعلوا فهم أعلم.
          وإن كان الساحر ذميًّا، فقال مالك: لا يقتل إلا أن يُدخِل بسحره ضررًا على المسلمين، فيكون ناقضًا للعهد فيُقتل، ولا يُقبل منه توبة غير الإسلام، وأمَّا إن كان لا يسحر / إلا أهل ملَّته فلا يقتل، إلا إذا قتل أحدًا منهم.
          قال ابن بطَّال: وعن مالك: لا يُقتل ساحر أهل الكتاب، لقول ابن شهاب، ولكن يُعاقب، إلا أن يَقتُلَ فيُقْتَلَ، وهو قول أبي حنيفة، والشَّافعي.
          وقال القرطبي: هو عند مالك كالزِّنديق؛ لأنَّ العمل بالسِّحر عنده كفر.
          وقال الثَّوري: عمله حرام بالإجماع، وأنَّه قد يكون كفرًا، وقد لا يكون كفرًا، وتعلُّمُه وتعليمه حرام، فإن تضمَّن ما يقتضي الكفر كفر، وإلا عُزِّر واستتيب، ولا يُقتل.
          قال عِياض: وبقول مالك قال أحمد، وهو مروي عن جماعة من الصَّحابة والتَّابعين.
          قال: وقال أصحابنا: إذا قَتَل بسحره، واعترف أنَّه مات بسحره، وأنَّه يقتل غالبًا لَزِمه القصاص، وإن قال: مات، ولكنه قد يقتل وقد لا، فلا قصاص، وتجب الدِّية والكفَّارة في ماله، لا على عاقلته؛ ولا يُتَصَوَّرُ القتلُ بالبيِّنة، إنَّما يكون باعتراف السَّاحر.
          وفي «المُحلَّى»: وبقتل السَّاحر قال أبو حنيفة، وفي «الفتاوى الصُّغرى» لأبي يعقوب يوسف الخاني: السَّاحر لا يُستتاب في قول أبي حنيفة ومحمد، خلافًا لأبي يوسف، والزِّنديق يُستتاب عند أبي يوسف ومحمد، وعن أبي حنيفة روايتان.
          قال ابن حزم: ورأى سالم صبيًا قطع خيطًا، ثم تفل فيه، فإذا هو صحيح.
          قال العطاف بن خالد المخزومي: سمعت سالمًا يقول: لو كان لي من الأمر شيء لصلبته.
          وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنَّ خالد بنَ المهاجر بنِ خالد ابنِ الوليد قتل قِبطيًّا سَحَرَ.
          وعن يحيى بن أبي كثير قال: إنَّ غلامًا لعمر بن عبد العزيز أخذ ساحرة، فألقاها في الماء، فَطَفَت، فكتب إليه عمر: إنَّ الله لم يأمر أن تلقيها في الماء، إن اعترفت فاقتلها.
          وعن ابن شهاب قال: يُقتل ساحِرُ المسلمين، ولا يُقتل ساحرُ أهل الكتاب؛ لأن لَبِيدًا لم يقتله النبي صلعم.
          قال أبو محمد: وقال به عبد الله بن عمر، وعثمان، وخالد بن المهاجر، وعبد الرحمن [بن] زيد بن الخطاب.
          وعن عبد الرزاق، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صفوان ابن سليم، قال رسول الله صلعم: «مَنْ تَعَلَّمَ من السِّحْرَ قَلِيلًا أَو كَثِيرًا كَان آخِرَ عَهدِهِ مِنَ اللهِ ╡».
          قال عبد الرزاق: حدثنا عبد الرحمن، عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أَنَّ عُمرَ أَخَذَ ساحرًا فَدَفَنَه إِلَى صَدرِهِ، ثُمَّ تَرَكَه حَتَّى مَاتَ.
          قال ابن حزم: وفي حديث أبي هريرة بيان أنَّ السِّحر ليس / من الشِّرك، ولكنَّه معصية موبقة كقتل النَّفس.
          وفي «مختلف الحديث» لابن قتيبة: عن ابن عبَّاس، أنَّ سليمان صلعم كانت الشياطين دفنت في خزانته ومواضع مصلاه سحرًا ونيرنجات، فلمَّا مات جاءت الشَّياطين إلى النَّاس، فقالوا: ألا ندلُّكم على الأمر الذي سُخِّرت لسليمان به الجنُّ والرِّيح؟ فاستخرجوه لهم، فقال علماء بني إسرائيل: ما هذا دين الله جلَّ وعزَّ، وقال السَّفلة: سليمان كان أعلم بها، فنعمل بهذا كما عمله، فقال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } الآية[البقرة:102].
          وفي «تفسير محمد بن حزم»: قال قائلون: إنَّ الله جلَّ وعزَّ أنزل السِّحر على هاروت وماروت، قالوا: فإن قال لنا قائل: وهل يجوز أن يُنزل الله تعالى السَّحر؟ أم هل يجوز للملائكة أن تعلِّمه النَّاس؟ قالوا: قلنا: إنَّ الله جلَّ وعلا قد أنزل الخير والشرَّ كلَّه، وبيَّن جميع ذلك لعباده، وأوحاه إلى رسله، وأمرهم بتعليم خلقه، ما يحلُّ لهم، ونهاهم عما يحرم عليهم، كسائر المعاصي؛ من زنا، وسرقة، وشبههما، عرَّفهم إياها، ونهاهم عن ركوبها، فالسِّحر أحد تلك المعاني التي أخبرهم بها، ونهاهم عن العمل بها.
          قالوا: وليس في العلم بالسِّحر إثم، كما لا إثم في العلم بصنعة نحت الطنابير والملاعب وشِبههما، وإنَّما الإثم في العمل به، أو أن يضرَّ به من لا يحل ضَرُّه.
          قالوا: وليس في تعليم الملكين من علَّماه من الناس إثم، إذ كان تعليمهما من علَّما ذلك بإذن الله لهما بتعليمه، بعد أن يخبراه أنَّهما فتنة، وينهياه عن السحر والعمل به والكفر، وإنَّما الإثم شرعًا لمن يتعلَّمُه منهما ويعمل به؛ إذ كان الله جلَّ وعزَّ ذِكْرُهُ قد نهى عن تعلُّمه والعمل به.
          قيل لهم: لو كان الله قد أباح أن يتعلَّموا ذلك لم يكن من تعلمه منهما حَرجًا، كما لم يكونا حَرِجين بعلمهما به، إذا كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما.
          وفي «المعاني» للزَّجَّاج: وزعم أنَّه أشبه بالتَّأويل، أن يكون الله جلَّ وعزَّ امتحن بالملكين النَّاسَ في ذلك الوقت، فجعل المحنة في الكفر والإيمان، وتعلم السِّحر وتركه، فتاركُه مؤمن ومتعلِّمُه كافر.
          قال المازِري: قال بعضهم: لا يزيد تأثير السَّاحر على قدر التَّفرقة بين المرء وزوجه، ومذهب الأشعريَّة أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهو الصَّحيح عقلًا، فإن قيل: إذا جوَّزت الأشعريَّة خرق العادة / على يد السَّاحر، فبماذا يتميَّز عن النَّبيِّ؟
          فالجواب: أنَّ العادة تنخرق على يد النَّبيِّ صلعم، والوليِّ، والسَّاحر، لكنَّ النَّبيَّ يتحدَّى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها، ويخبر عن الله بخرق العادة، فلو كان كاذبًا لم تنخرق العادة على يديه، ولو خرقها على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء، وأما الوليُّ والسَّاحر فلا يتحديَّان الخلق، ولا يستدلَّان على نبوة، ولو ادَّعيا شيئًا من ذلك لم تنخرق العادة لهما.
          وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين:
           المشهور: الإجماع على أنّ السِّحر لا يُعْلَمُ إلا على ما سبق، بخلاف الكرامة، وهذا جزم إمام الحرمين والمتولي وغيرُهما.
          الثاني: أنَّ السَّحر قد يكون بأشياء يفعلها، ويمزجها، ومعاناة، وعلاج بخلاف الكرامة. ذكر النووي.
          وقال القرطبي: إن أراد أنَّ الذي وقع في الوجود خارق للعادة فباطل، وسيأتي طرف من هذا في تفسير المعوَّذتين.
          وأمَّا التَّولِّي يوم الزَّحف فمذهب العلماء أنَّه كبيرة، وحُكي عن الحسن بن أبي الحسن أنَّه ليس من الكبائر، قال: والآية الكريمة الواردة في ذلك إنَّما وردت في أهل بدر خاصَّة.
          قال القرطبي: وأصل الزَّحف: المشي المتثاقل، كالصبي يزحف قبل أن يمشي، وسُمِّي الجيش زحفًا؛ لأنَّه يزحف فيه، وإنَّما يكون الفرار كبيرة إذا فرَّ إلى غير فئة، وإذا كان العدوُّ ضِعْفي المسلمين.
          و(المُحْصَنَات) بكسر الصَّاد وفتحها، العفيفات الغافلات عن الفواحش، وقد ورد الإحصان في الشَّرع على خمسة أقسام؛ الإسلام، والعفَّة، والتَّزويج، والحرِّيَّة، والنِّكاح.
          وقال أصحاب الشَّافعي: أكبر الكبائر بعد الإشراك القتل.