التلويح شرح الجامع الصحيح

حديث ابن عباس: إن ناسًا يزعمون أن هذه الآية نسخت

          2759- حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ: حدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلَا وَاللهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا يتَهَاوَنَ النَّاسُ، هُمَا وَالِيَانِ، وَالٍ يَرِثُ وَذَلكَ الَّذِي يَرْزُقُ، وَوَالٍ لَا يَرِثُ، فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ بِالمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ» [خ¦2759].
          هذا الأثر مما تفرَّد به البخاري، وذكره في التَّفسير من حديث عكرمة، ثم قال: تابعه سعيد، عن ابن عباس. يعني: هذا بزيادة، قال: هي محكمة وليست بمنسوخة.
          في تفسير أبي محمد بن أبي حاتم: وممن قال بذلك وأنَّها محكمة: عبد الرحمن بن أبي بكر، وأبو العالية، والحسن، ومحمد بن سيرين، والشَّعْبي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، والزُّهري، والنَّخَعي، وعطاء، ويحيى بن يَعْمر، قال: وفد حدَّثنا الحسن بن محمَّد بن الصَّبَّاح: حدَّثنا حجَّاجُ، عن ابن جُريج وعثمانَ بنِ عَطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبَّاس في قوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية. نسختها آية المواريث، فجعل لكلِّ إنسان نصيبه مما ترك، مما قلَّ منه أو كثر.
          وروينا في كتاب «النَّاسخ» لأبي داود، نبيِّن أنَّ حجَّاجًا هذا هو ابن محمد، وذكر نسخها أيضًا عن سعيد بن المسيب، والضَّحَّاك.
          قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة، وأبي الشعثاء، وأبي صالح، والقاسم بن محمد، وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وزيد بن أسلم، وربيعة، ومقاتل نحو ذاك.
          وقال أبو مسعود في «الأطراف» هذا الحديث عند الناس مرسل. انتهى.
          كأنه يريد: مرسل صحابي، وليس بجيِّد، إنَّما هو موقوف على صحابي، لا مرسل؛ لأنَّ الإرسال لا بد فيه من ذكر سيدنا رسول الله صلعم.
          وزعم النَّحَّاس أنَّ الذين قالوا: إنها محكمة _وَتُؤُوِّلَ قوله على الندب_: عُبيدة، وعُروة، وسَعيد بن جُبير، ومجاهد، وعطاء، والزُّهري، والحسن، والشَّعْبي، ويحيى بن يَعْمر، وهو مروي عن ابن عبَّاس.
          قال أبو جعفر: وهذا أحسن ما قيل في الآية، أن تكون على الندب والترغيب في فعل الخير، وزعم بعض / أهل النَّظر أنَّه لا يجوز أن يكون هنا نسخ؛ لأنَّ الذي يقول: إنَّها منسوخة لا يخلو أمره من إحدى جهتين:
          إمَّا أن تكون كانت ندبًا ثم نُسخت، وهذا محال؛ لأنَّ النَّدب إلى الخير لا يُنسخ؛ لأنَّ نسخه بأن يقول: لا تفعلوا الخير، وهذا محال.
          وإمَّا أن تكون كانت واجبة فنُسخت، وهذا أيضًا لا يكون؛ لأنَّ قائله يقول: إنَّه كان إذا حضر أولوا القُربى واليتامى والمساكين، ولم يُعطوا العصبة، فنُسخ ذلك بالفرض، وهذا لم يُعرف قطُّ في جاهلية ولا إسلام، وأيضًا فإنَّ الآية إذا ثبتت فلا يقال فيها: إنَّها منسوخة، إلا أن يُنفى حكمها، على أنه قد رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: هذا مخاطبة للموصي نفسه، وكذا قال ابن زيد: قيل للموصي: أوصِ لذوي القربى واليتامى والمساكين، واسْتَدلَّ على هذا بأنَّ بعده: {وَقُولُوْا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوْفًا}[النساء:5]، أي: إن لم توصوا لهم فقولوا لهم خيرًا.
          وهذا القول اختيار محمد بن جرير.
          وفي «المُحَلَّى»: فرض على الورثة البالغين، وعلى وصيِّ الصِّغار، ووكيل الغائب: أن يُعْطُوا حين القسمة ما طابت به أنفسهم مما لا يُجحف بالورثة، ويجبرهم الحاكم على ذلك إن أَبَوا. وتلا الآية الكريمة، وذكر ما رُوِيَ عن ابن عباس وأبي موسى: وقسم لحِطَّان بقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} قال: وصحَّ أيضًا عن عُروة، وابن سِيرين، وحميد بن عبد الرَّحمن الحِميري، ويحيى بن يَعْمر، والشَّعْبي، والنَّخَعي، والزُّهري، والحسن، وأبي العَالية، والعلاء بن بدر، وسعيد بن جُبير، ومُجاهد، ورُوي عن عطاء، وهو قول أبي سليمان.
          قال: ورُوِيَ أنها ليست بواجبة عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وأبي مالك، وزيد بن أَسْلم، وبه يقول أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
          قال ابن حزم: ولا نعلم لأهل هذا القول حجة أصلًا. انتهى.
          إن أراد أصحابَ المذاهب فغير جيِّد؛ لأنَّه هو ذكر حجَّتهم، وإن كان أراد ابن عبَّاس، ومن بعده من التابعين، فليس بقول العاقلين.
          وذكر ابن الجوزي: أكثر المفسرين، قالوا: المراد بأُولي القربى هنا: من لا يرث، وفسَّروا قوله: {فَارزُقُوْهُم} فقال قوم: أعطوهم من المال، وقال آخرون: أطعموهم، وذلك على سبيل الاستحباب، وذهب قوم إلى أنَّ ذلك واجب في المال، فإن كان الورثة كبارًا تولَّوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارًا تولى ذلك وليُّهم.
          قال الطَّبري: قال بعضهم: ليس لوليِّ المال أن يقسم لهم من ماله، لأنه لا يملك من / المال شيئًا، ولكنَّه يقول لهم قولًا معروفًا، قاله ابن جبير، والحسن، وابن عباس.
          وقول عائشة: (أَنَّ رَجُلًا قَاْلَ لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ أُمِّيْ افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاْهَاْ لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَاْلَ: نَعَمْ تَصَدَّق عَنْهَا. [خ¦2760]).
          (افتُلِتَتْ): أي: ماتت فجأة، وكلُّ شيءٍ عُوجِل مبادرةً فهو فلتة.
          قال ابن قُرْقُول: كذا ضبطنا (نَفْسَها) بالفتح على المفعول به الثَّاني، وبضمِّها على الأوَّل، والنَّفْس مؤنَّثة وهي هنا: الرُّوح، وقد تكون النَّفس بمعنى الذات.
          و(أُرَاْهَا) بضمِّ الهمزة: أي: أظنُّها.
          وفيه جواز صدقة التَّطوُّع عن الموتى، ومثله حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «إِذَاْ مَاْتَ الِإنْسَاْنُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ؛ صَدَقَةٍ جَاْرِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِه، أَوْ وَلَدٍ صَاْلِحٍ يَدْعُوْ لَهْ».
          قال ابن المُنذر: وأما العِتق _يعني عن الميِّت_ فلا أعلم فيه خبرًا يثبت عن سيِّدنا رسول الله صلعم، وقد ثبت عن عائشة أنَّها أعتقت عبدًا عن أخيها عبد الرحمن، وكان مات ولم يُوصِ، وأجاز ذلك الشَّافعي، قال بعض أصحابه: لما جاز أن يُتَطوَّع بالصَّدقة، وهي مال، جاز أن يُتطوَّع بالعتق؛ لأنَّه مال.
          وفرَّق غيره بينهما، وقال: إنَّما أجزنا الصَّدقة بالمال بالأخبار الثَّابتة، والعِتْق لا خبر فيه، بل في قوله صلعم: «الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَق» دليل على منعه؛ لأنَّ الحيَّ هو المُعْتِق بغير أمر الميِّت، فله الولاء، فإذا ثبت له الولاء، فليس للميت منه شيء. انتهى.
          قد ثبت في حديث سعد بن عبادة: «فَهَلْ يَنْفَعُهَا أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَاْ؟ فَقَاْلَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم: نَعَمْ».
          وقد اختلفت الآثار في النَّذر الذي كان على أم سعد؛ فقيل: إنَّه كان عتقًا، وذكره البخاري في مواضع منها: «باب إذا وقف أرضًا ولم يبين الحدود فهو جائز وكذلك الصَّدقة».
          قال المهلب: إذا لم يبيِّن الحدود في الوقف، إنما يجوز إذا كانت الأرض معلومة يقع عليها، ويتعين به، كما كان بئر حَاْ وكالمِخْراف معيَّنًا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تَصِحُّ التَّرجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معيَّنًا، وكانت له مخاريف وأموال كثيرة فلا يجوز الوقف إلا بالتَّحديد والتَّعيين، ولا خلاف في هذا.
          وقال ابن المنيِّر: الوقف لازم بالبينة واللفظ المُشار به إلى المقصود، فقد يَتَلفَّظ باسمه العَلم وتحديدِه، وقد يَتَلفَّظ باسمه المتواطئ خاصة، وقد يَذكر العَلَم ولا يَذكر المحدود به.
          و(المِخْرَاْفُ) / : الحائط. وقد ذكره منكَّرًا متواطئًا، لكنه قصد مكانًا أشار إليه بلفظه مطابقًا لنيَّته، وكلاهما لازم، وترجمة البخاري مطابقة، ووهم المهلَّب في قوله: لا خلاف في هذا، بل لا خلاف فيما أورده البخاري؛ لأنَّه إنَّما تعرَّض لجواز الوقف. وقد ثبت أنَّ الوقف على هذه الصُّورة لازم له.
          قال ابن بطَّال: فيه أنَّ لفظ الصَّدقة يُخرج الشيء المتصَّدق به عن ملك الذي يملكه قبل أن يتصدَّق به، ولا رجوع له فيه، وهو حجَّة لمالك في إجازته للموقوف له فيه، وللمُتَصَدَّقِ عليه المطالبة بالصَّدقة وإن لم يَحُزها حتى يحوزَها، وتصحُّ له ما دام المُتصدِّق والواهب حيًّا، بخلاف ما ذهب إليه الكوفيُّون والشَّافعي: أنَّ اللَّفظ بالصَّدقة والهبة لا يوجب شيئًا لمعيَّن وغيره حتى تُقبض.
          وفي الحديث: أنَّ من تصدَّق بشيء من ماله بعينه، أنَّ ذلك يلزمه، وإن كان أكثر من ثلث ماله.
          قال ابن المنذر: وفي ترك سيدنا رسول الله صلعم إنكار فعل المرأة التي افتُلتَت نفسُها ولم توصِ، دليل أنَّ تارك الوصيَّة غير عاصٍ؛ إذ لو كان فرضًا لكان عِصيانًا، ولكان صلعم يخبِرُ به، وأمَّا قضاء الدَّيْن على الميِّت فلا خلاف في قضائه، وإنَّما الخلاف في قضاء النَّذْر عنه.