التلقيح لفهم قارئ الصحيح

حديث: انطلق النبي في طائفة من أصحابه عامدين

          773- قوله: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ): تقدَّم أنَّه الوضَّاح بن عبد الله اليشكريُّ، وتقدَّم بعضُ ترجمتِه قبل ذلك [خ¦58].
          قوله: (عَنْ أَبِي بِشْرٍ): هو بكسر المُوَحَّدة، وبالشين المعجمة، واسمه جعفر بن أبي وحشيَّة إياسٍ، اليشكريُّ البصريُّ، ثمَّ الواسطيُّ، عن سعيدِ بن جبير وعامرٍ الشعبيِّ، ولقي من الصَّحابة عبَّادَ بنَ شُرَحبيل، وعنه: شعبة وهُشَيم، صدوقٌ، تُوُفِّيَ سنة ░125هـ▒، أخرج له الجماعة، وله ترجمةٌ في «الميزان»، وصحَّح عليه.
          قوله: (انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلعم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ): وهذا في «البخاريِّ»، و«مسلم»، و«التِّرمذيِّ»، و«النَّسائيِّ»، وفي «السيرة» لابن سيِّد النَّاس قال(1): (وفي انصراف رسول الله صلعم من الطائف راجعًا إلى مكَّة حين يئس من خير ثقيف مرَّ به النَّفرُ من الجنِّ وهو بنخلةَ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهم _فيما / ذكر ابن إسحاق_ سبعة من جنِّ نصيبين، وكان رسول الله صلعم قد قام من اللَّيل يصلِّي...) إلى آخره، فالذي في «السيرة»: أنَّه اجتمع بهم في رجوعه من الطائف، ولم يكن معه إذ ذاك في رجوعه من الطائف إلَّا زيد، فإنَّه كان معه في الطائف، وفي كونه معه خلاف(2)، والذي في «الصحيح» وغيره: أنَّه اجتمع بهم(3) وهو خارج من مكَّة عامدين إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه، وفي «الصحيح»: أنَّه كان يصلِّي بهم صلاة الفجر، وفي «السيرة»: أنَّه قام يصلِّي من جوف اللَّيل، وعن «طبقات ابن سعد»: (أنَّه كان معه زيد بن حارثة، فاستمع له _أي: للنَّبيِّ صلعم_ الجنُّ وهو يقرأ سورة الجنِّ)، وهذا يخالف ما تقدَّم في «الصحيح»، فإنَّ فيه التصريحَ بأنَّ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ}[الجنِّ:1] نزلت بعد استماعهم، فلعلَّهما قضيتان، فإن لم يمكن التعدُّد؛ فالصحيح قول «الصحيح» ومن معه، والله أعلم.
          قوله: (إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ): هذه السُّوق معروفةٌ بقرب مكَّة، و(عُكَاظ): بضمِّ العين المهملة، ثمَّ كاف مخفَّفة، وفي آخره ظاء معجمة، وهي غيرُ مصروفة؛ للعلميَّة والتَّأنيث، ويجوز صرفُها أيضًا، فعن «المحكَم» عن اللِّحيانيِّ: (أهل الحجاز تصرفها، وبنو تميم لا تصرفها).
          قوله: (وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ): في(4) هذا الحديث(5): أنَّ رميَ الشُّهُب إنَّما وقع في أوَّل الإسلام من أجل استراق الشياطين السمعَ، وفي «مسلم» ما يعارضه، ولاختلاف الأحاديث؛ اختلف الناس على قولين، والأحسن التوُّسط، فيقال: إنَّها كانت تُرْمَى بها قبل المولد، ثمَّ إنَّه استمر ذلك وكثر حتَّى مُنعوا بالكُلِّيَّة، وفيه جمع بين الأحاديث.
          قوله: (نَحْوَ تِهَامَةَ): هو كلُّ ما نزل عن نَجْدٍ من بلاد الحجاز، سُمِّي بذلك؛ لتغيُّر هوائها، يقال: (أتْهَمَ الدُّهْن)؛ إذا تغيَّر ريحُه، ومكَّة من تِهامة معدودة.
          قوله: (فَانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ): هؤلاء الجماعة الجنُّ المشار إليهم من جنِّ نَصِيبِين، وسمعت عن بعض مشايخي الحلبيِّين ولم أسمعه منه: (أنَّ نصيبين هذه من اليمن)، ويردُّ عليه قولَه ما في «مسلم»: (أنَّهم من جنِّ الجزيرة)، فتعيَّن أن تكون نَصِيبِينُ الجزيرةَ، وفي كلام شيخنا الشَّارح(6) عن «تفسير عبد بن حميد»: (أنَّهم من نينوى، وافَوه بنخلةَ، وقيل: بشعب الحجون)، انتهى.
          قوله: (وَهُوَ بِنَخْلَةَ): هو موضعٌ قريبٌ من مكَّة، وعند «مسلم»: (بنَخْلٍ)، وفيه نظرٌ.
          قوله: (وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ): سيأتي الكلام على هؤلاء الجنِّ، وقوله: (أُوحي إليه): مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، و(قولُ): مَرْفوعٌ قائم مقام الفاعل.
          فائدة: هؤلاء كانوا سبعة، ونقل شيخنا عن ابن التِّين: (أنَّهم كانوا تسعة) انتهى، وقد رأيت هذا في «المستدرك» في (سورة الأحقاف)، وقد ذُكِروا بأسمائهم في التفاسير والمُسنَدَات: (شاصر، وماصر، ومَنْشي، وماشي، والأحقب)، وهؤلاء الخمسة ذكرهم ابن دُريد، وذُكِر فيهم: (سُرَّق)، ذكره أبو عليٍّ الغسَّانيُّ في مناقب عمر بن عبد العزيز، انتهى.
          وعمرو بن جابر، وقد ذكر الذَّهبيُّ في «الصَّحابة»: (عمرو بن جابر) فقط، قال الذَّهبيُّ في «تجريده»: (عمرو بن جابر: هو الحيَّة التي كفَّنها ودفنها صفوان بن المعطَّل بالعرج)، انتهى، وقصَّته في «المسند» لأحمد من حديث صفوان بن المعطَّل، والظاهر من القصَّة أنَّ الذي كفَّنها غير صفوان، انتهى.
          وقد ذكر الذَّهبيُّ في «تجريده» في (الصَّحابة) من الجنِّ: (عَمرًا الجنِّيَّ، قيل: إنَّه عمرو بن طارق، روى عنه عثمان بن صالح المصريُّ، أوردناه اقتداء بأبي موسى، ذُكِر في ليلة الجنِّ في حديث ابن مسعود، «س»)؛ يعني: ذكره أبو موسى، والظاهر أنَّ هذا يكون من الذين استمعوا القرآن.
          وقد ذكر الذَّهبيُّ في «تجريده» شخصًا(7) آخر اسمه: (مالك بن مالك، من(8) هواتف الجنِّ، الذي ارتجز في ظهور النَّبيِّ صلعم، إن صحَّ سنده، «س»)؛ يعني: ذكره أبو موسى.
          وذكر الذَّهبيُّ أيضًا: زوبعة من الذين استمعوا، إن صحَّ، فعلى تقدير صحَّته يكون زوبعة لقبًا لواحد منهم، أو اسمًا له والمذكور فيهم لقب له.
          وقد رأيت في «الغيلانيَّات» في أوائل الجزء السابع منها حديثًا: (عن مَنُوسَ، عن سمحج)، وهو من الجنِّ الذين وفدوا على رسول الله صلعم، وسمَّاه رسولُ الله صلعم عبدَ الله.
          وفي «موضوعات» ابن الجوزيِّ في باب تَعَبُّدِ (إبليس) حديث، وفيه امرأة من الجنِّ يقال لها: فارعة، ثمَّ ذكره من طريق آخرَ أنَّ اسمها عفراء بنت الرجل الصالح، وظاهره أنَّها صحابيَّة، ولكنَّ الحديث موضوعٌ، ولو صحَّ؛ لعُدَّت من الصَّحابيَّات، ولم أر أحدًا ذكرها في (فارعة)، ولا في (عفراء)، ثمَّ ذكر الحديث من طريق، وسمَّاها الفارعة بنت المستورد.
          وفي «تجريد» الذَّهبيِّ من الجنِّ شخص يقال له: وردان، ولفظه: (وردان الجنِّيُّ، يروى له ذِكْرٌ في ليلة الجنِّ في حديث ابن مسعود، «س»)؛ أي: ذكره أبو موسى.
          وفي «التجريد» أيضًا: (هامة بن الهيم، وحديثه موضوع)، و(عبد النور الجنِّيُّ، عن النَّبيِّ صلعم، وعنه أقضى القضاة محمود بن مُحَمَّد العدويُّ، روى شيخنا ابن حمُّويه عن رجل عنه، وهذه خُرافة مهتوكة)، قاله الذَّهبيُّ.
          فالذين(9) وقفت عليهم أنَّهم(10) عُدُّوا من الجنِّ غير السِّتَّة المذكورين أوَّلًا أوَّلهم: (شاصر): عمرو بن طارق، وعمرو بن جابر، ووردان، وسمحج، وهامة بن الهيم، وعبد النور، ومالك بن مالك، وزوبعة(11)، والمرأة الفارعة(12).
          فائدة: الجنُّ أولاد إبليس، والكافر منهم شيطان، ولهم ثواب وعقاب، واختُلِف في دخولهم الجنَّة، والعُمومات تقتضيه، وبه قال الشَّافعيُّ وغيره، وأمَّا أبو حنيفة؛ فعنه روايتان؛ الأولى: التردُّد، وقال: لا أدري أين مصيرهم؟ الثانية: يصيرون يوم القيامة ترابًا.
          وقيل: ليسوا بشياطين، ومنهم كافر ومؤمن، ويموتون، والشياطين ليسوا بمؤمنين، ولا يموتون إلَّا مع إبليس، ويروى عن وهب بن منبِّه أنَّه قال: (الجنُّ أجناس؛ فخالص الجنِّ لا يأكلون، ولا يشربون، ولا يتناكحون، ومنهم من يأكل، ويشرب، وينكح، ويُولد له، ومن هذا الغِيلان، والسعالي، والقطاربة)، ذكر ذلك المُحبُّ الطَّبريُّ عن وهب، انتهى.
          وقد اختُلِف في أنَّهم يأكلون حقيقة أم لا؟ فزعم بعضهم: أنَّهم يتغذَّون بالشَّمِّ، ويردُّ هذا ما في الحديث: «تصير العظم كأوفر ما كان لحمًا، والروث لدوابِّهم»، ولا تصير كذلك إلَّا للآكل حقيقة، وهو المرجَّح عند جماعة العلماء، ومنهم من قال: هم طائفتان: طائفة تشمُّ، وطائفة تأكل.
          فائدة: سمعت من شيخنا شيخ الإسلام البلقينيِّ سراج الدين نَقَل عن الحارث بن أسد المحاسبيِّ _بعد أن رجَّح(13) شيخنا أنَّهم يدخلون الجنَّة_ قال: (إنَّهم يكونون في أسفل الجنَّة ونراهم ولا يرونا، عكس الدُّنيا) انتهى، [وسيأتي(14) في (ذكر الجنِّ) في (بدء الخلق) أنَّ هذا في «معجم الطَّبرانيِّ»](15) [خ¦59/12-5087]، وفي «التذكرة» للقرطبيِّ في (باب ما جاء أنَّ للجنَّة رُبُضًا ورحابًا وكلامًا): (عن الزُّهريِّ والكلبيِّ ومجاهد: أنَّ مؤمني الجنِّ حول الجنَّة في رُبُض ورحاب وليسوا فيها(16))، انتهى.
          فائدة: ذكر بعضهم في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}[الأنعام:130] أنَّ ظاهرها أنَّ من الجنِّ رسلًا، وهذه المسألة فيها خلاف(17):
          قيل: بعث الله رسولًا واحدًا من الجنِّ إليهم، اسمه يوسف.
          وقيل: رسل الجنِّ هم رسل الإنس، فهم رسل الله بواسطة، إذ هم رسل رسله، ويؤيِّده: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}[الأحقاف:29]، قاله ابن عبَّاس والضَّحَّاك، وروي: أنَّ قومًا من الجنِّ استمعوا إلى الأنبياء، ثمَّ عادوا إلى قومهم فأخبروهم، كما جرى لهم مع نبيِّنا صلعم، فيقال لهم: رسل الله وإن لم يكونوا رسله حقيقة.
          وعلى هذين القولين: يكون الضمير عائدًا إلى الجنِّ والإنس.
          وقد تعلَّق قومٌ بهذا الظاهر، فقالوا: بعث الله إلى الجنِّ رسلًا، ولم يفرِّقوا بين مكلَّفين ومكلَّفين أن يُبْعَث إليهم رسولٌ من جنسهم؛ لأنَّهم به آنس وآلف، وقال مجاهد والضَّحَّاك وابن جريج والجمهور: من الإنس دون الجنِّ، ولكن لمَّا كان النداء لهما والتوبيخ / معًا؛ جرى الخطاب على سبيل التجوُّز المعهود في كلام العرب؛ تغليبًا للإنس؛ لشرفهم، وتأوَّله الفراء على حذف مضاف، أي: من أحدكم، كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرَّحمن:22]؛ أي: من أحدهما، وهو الملح، وكقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}؛ أي: في إحداهنَّ، وهي سماء الدُّنيا، {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}[الحجِّ:28]: أراد بالذِّكر: التكبير، والأيَّام المعلومات: العشر؛ أي: في أحد أيَّام العشر، وهو يوم النحر، وقال الكلبيُّ: كانت الرسل يُبْعَثون إلى الإنس، وبُعِث مُحَمَّد صلعم إلى الجنِّ والإنس، وروي هذا أيضًا عن ابن عبَّاس.
          وقال بعض المفسِّرين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ}: (إنَّه يوسف هذا الذي بعثه الله إلى الجنِّ، وقيل: إنَّه غيره)، والله أعلم، وللبزَّار في «مسنده»: «كان النَّبيُّ(18) يُبْعَث إلى قومه، وبُعِثْتُ إلى الجنِّ والإنس»، وقد أطلنا الكلام في ذلك، ولكن ذكرناه جملة؛ لنحيل عليه ما يأتي من ذلك.


[1] (قال): سقط من (ب).
[2] (وفي كونه معه خلاف): سقط من (ج)، قال ابن إسحاق: (خرج إليهم وحده)؛ كما في «سيرة ابن هشام» ░2/32▒، وسيأتي في كلام المؤلِّف قول ابن سعد: إنَّه خرج معه زيد.
[3] زيد في (ج): (رجوعه)، وهو سبق نظر.
[4] في (ب): (ففي).
[5] (في هذا الحديث): سقط من (ج).
[6] (الشارح): سقط من (ج).
[7] في (ب): (نجيبًا)، بدون نقط.
[8] (من): سقط من (ب).
[9] في (ب): (والذين).
[10] في غير (ب): (أنَّه).
[11] في (ج): (رويعة)، وهو تحريف.
[12] في (ب): (القارعة)، انظر الكلام بتمامه في «نور النبراس» تحقيق: إيناس المنيس (ص457-460▒.
[13] (رجح): سقط من (ج).
[14] (في): سقط من (ب).
[15] ما بين معقوفين سقط من (ج).
[16] في (ب): (فيه).
[17] في (ج): (اختلاف).
[18] بعدها في (أ): (◙)، وفي (ب): (صلعم).