التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث: صليت مع رسول الله بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر

          1084- الحديث الثالث: حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن يزيدَ: (صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ...) إلى قوله: (فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ). وأخرجه مسلمٌ أيضًا وأبو داودَ والنَّسائيُّ، وأخرجه النَّسائيُّ من غير ذكر عثمانَ من طريق عَلْقَمةَ عن ابن مَسْعُودٍ.
          إذا عرفت ذلك فالإجماع قائمٌ على أنَّ القصر بمنىً وعرفة حكم الحاجِّ الآفاقي الذي بينه وبينهما مسافة القصر، وعند مالكٍ أنَّ الحاجَ المكِّيَّ يقصُرُ بهما، وكذا أهل عرفة بمكَّة ومنى يقصرون، وحُجَّته التمسُّكُ بأحاديث الباب، ومثله في النَّسائيِّ من حديث أنسٍ، وفي ابن أبي شَيبةَ من حديث ابن عمر وأبي جُحَيْفةَ.
          وعن القاسم وسالمٍ قالا: الصَّلاة بمنىً قصر، وأنَّ ابن عمر كان يتمُّ بمكَّة، فإذا خرج إلى منىً قصر.
          ونقل ابن بطَّالٍ اتفاق العلماء على أنَّ الحاج القادم مكَّة يقصر الصَّلاة بها وبمنى وسائر المشاهد، لأنَّه عندهم في سفرٍ، إذ ليست مكَّة دار إقامة إلَّا لأهلها، أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فُرض عليهم ترك المقام بمكَّة، فلذلك لم ينوِ الشارع الإقامة بمكَّةَ ولا بمنى.
          قال: واختلف الفقهاء في صلاة المكيِّ بمنىً:
          فقال مالكٌ: يتمُّ المكِّيُّ بمكَّة ويقصر بمنىً، وكذا أهل منىً يُتِمُّون بمنىً ويقصرون بمكَّة وعرفات، وجعل هذه المواضع مخصوصة بذلك، لأنه ◙ لَمَّا قَصرَ بعرفة لم يميِّز مَن وراءه، ولا قال: يا أهل مكَّة أتمُّوا _يعني: بعرفاتٍ_ وهذا موضع بيانٍ، وكذا عمر بعده قال لأهل مكَّة: يا أهل مكَّة أتمُّوا فإنَّا قوم سفْرٌ، وكذا قاله الشارع بمكَّة.
          وممَّن رُوي عنه أنَّ المكِّيَّ يقصر بمنىً ابنُ عمر وسالمُ والقاسمُ وطاوسٌ، وبه قال الأوزاعيُّ وإسحاق، وقالوا: إنَّ القصر سُنَّة الموضع، وإنَّما يتمُّ بمنىً وعرفة مَن كان مقيمًا فيهما، واستدلُّوا بحديث حارثة بن وهبٍ المذكور في الكتاب، وكانت دار حارثة بمكَّة، ولو لم يجُز لأهل مكَّة القصر بمنىً لقال حارثة: وأتممنا نحن، أو قال لنا: أتمُّوا لأنَّه ◙ يلزمه البيان لأمَّته، ولأنَّ عمل الحاجِّ لا ينقضي في أقلَّ من يومٍ وليلةٍ مع الانتقال اللازم، والمشي مِن موضعٍ إلى موضعٍ لا يجوز الإخلال به، فجرى ذلك مجرى الشيء اللازم، ولأنَّ مِن مكَّة إلى عرفة ثمَّ إلى مكَّة بمقدار ما يقصر فيه الصَّلاة، ويلزمه بالدخول فيه فلزمهُ القصر، ولا يلزم على هذا مَن يخرج مِن سفرٍ بضعًا وعشرين ميلًا، لأنَّ رجوعه هناك ليس بلازمٍ، ورجوعه إلى مكَّة في الحجِّ لازمٌ، ولأنَّه ◙ عائدٌ إلى الطَّواف، فصار لا بدَّ من نِيَّة الرجوع بخلاف غيره مِن الأسفار، وهذا التعليل والذي قبله يخرج منه العرفيُّ.
          وروى عيسى عن ابن القاسم في أهل منىً وأهل عرفةَ يفيضون يقصر العَرَفيُّ، ويتمُّ المنَوِيُّ إلى منى، لأنَّه يرجع إلى وطنه بعد أن يفيض في مسافة إتمام، بخلاف العَرَفيِّ، فإنَّه يفيض مِن مكَّة إلى غير وطنه لإتمام حَجِّه، فإذا دفع مِن منىً بعد انقضاء حَجِّهِ لم يقصر إلى عَرَفة لِمَا ذكرناه.
          واختلف قول مالكٍ وابن القاسم في صلاة المكِّيِّ بالمحصَّبِ هل يقصر؟ واختلافهما مبنيٌّ على أنَّ المحصَّبَ هل هو مشروعٌ؟ فمَن قال إنَّهُ مشروعٌ قصرَ، وقال أكثر أهل العلم منهم عطاءُ والزُّهريُّ وهو قول الثوريِّ والكوفيين وأبي حنيفةَ وأصحابِهِ والشافعيِّ وأحمدَ وأبي ثورٍ: لا يقصر الصَّلاة أهل مكَّة بمنىً وعرفاتٍ لانتفاء مسافة القصر.
          قالوا: وفي قول عمر: يا أهل منىً أتمُّوا، وكذا قول الشارع أيضًا ما أغنى أن يقول ذلك بمنىً.
          قال الطَّحاويُّ: وليس الحجُّ موجبًا للقصر، لأنَّ أهل منى وعرفات إذا كانوا حُجَّاجًا أتمُّوا وليس هو متعلِّقًا بالموضع وإنَّما هو متعلِّقٌ بالسَّفر، وأهل مكَّة مقيمون هناك لا يقصرون، ولَمَّا كان المقيم لا يقصُرُ لو خرج إلى منىً كذلك الحاجُّ.
          واختلف العلماء في المسافة التي يقصر فيها، فقال أبو حنيفةَ وأصحابه والكوفيُّون ورُوي عن ابن مَسْعُودٍ: أقلُّها ثلاثة أيام ولياليهنَّ سير الإبل ومشي الأقدام، وقدَّر أبو يوسف بيومين وأكثر.
          الثالث وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، ورواية ابن سَمَاعةَ عن محمَّدٍ، ولم يريدوا به السَّير ليلًا ونهارًا، لأنَّهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة، ولو سلك طريقًا هي مسيرة ثلاثة أيَّامٍ وأمكنه أن يَصِل في يومٍ مِن طريق أخرى قصر، ثمَّ قدَّروا ذلك بالفراسخ فقيل: أحدٌ وعشرون فرسخًا، وقيل: ثمانية عشر وعليه الفتوى، وقيل: خمسةَ عشر ومدَّته ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ وهو مذهب عثمانَ وابن مَسْعُودٍ وحُذيفةَ وسُويدِ بن غَفَلَةَ والشَّعبيِّ والنَّخَعيِّ والثوريِّ والحسنِ بن حيٍّ وأبي قِلابةَ، وشريكِ بن عبد الله وابن جُبَيرٍ وابن سيرينَ ورواية عن ابن عُمَرَ، واحتجَّ لهم بحديث ابن عمر وأبي هريرة الآتي: ((لاَ تُسَافِرِ المَرْأَةُ ثَلاَثًا)).
          وقالوا: لَمَّا اختلفت الآثار والعلماء في المسافة التي تُقصر فيها الصَّلاة، وكان الأصل الإتمام لم يجِب أن ينتقل عنه إلَّا بيقينٍ، واليقين ما لا يُنازع فيه، وذلك ثلاثة أيَّامٍ.
          والجواب أنَّ الشارع قد ذكر اليوم والليلة ونصَّ عليه، فهو أولى مِن ذاك، والدليل إذا اجتمع مع النصِّ قُضي بالنصِّ عليه.
          وعن مالكٍ: لا يقصر في أقلَّ من ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشميِّ وهو ستَّة عشر فرسخًا وهو قول أحمد، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستَّة آلاف ذراع، والذِّراع أربع وعشرون أصبعًا معترضة معتدلة، والأصبع ستُّ شعيراتٍ / معترضات معتدلات، وذلك يومان، وهي أربعةُ بُردٍ، وهذا هو المشهور عنه، وعن مالكٍ أيضًا خمسة وأربعون ميلًا، وعنه: اثنان وأربعون، وأربعون، وستَّة وثلاثون ميلًا، عزاها ابن حَزْمٍ إلى رواية إسماعيل القاضي في «مبسوطه»، قال: وذا لأهل مكَّة خاصَّةً، ويقصر إلى منىً فما فوقها، وهي أربعة أميال.
          وقال ابن بطَّالٍ: كان مالكٌ يقول: يقصر في مسيرة يومٍ وليلةٍ ثمَّ رجع فقال: يقصر في أربعة بُردٍ كقول ابن عمر وابن عبَّاسٍ وبه قال الليثُ والشافعيُّ في أحد أقواله، وهو قول أحمد وإسحاق.
          وروى أشهبُ عن مالكٍ فيمن خرج إلى ضيعته وهي رأس خمسة وأربعين ميلًا أنَّه يقصر.
          وعن ابن القاسم فيمَن قصر في ستَّةٍ وثلاثين ميلًا لا يُعيد، وقال يحيى بن يَعْمَر: يعيد أبدًا، وقال ابن عبد الحكم: يعيد في الوقت، وقال ابن حبيبٍ: يقصر في أربعين ميلًا، وهي قريب مِن أربعة بُردٍ.
          وقال الأوزاعيُّ: عامَّةُ العلماء يقولون: مسيرة يومٍ تامٍّ وبه نأخذ، ونُقل عنه: اثنا عشر يومًا فما زاد. وقالت طائفةٌ: يقصر في يومين، رُويَ عن ابن عُمَرَ والحسنِ البصريِّ والزُّهريِّ، وحُكيَ مثله عن الشافعيِّ، وقال الأوزاعيُّ: كان أنسٌ يقصر في خمسة فراسخ، وذلك خمسة عشر ميلًا، وللشافعيِّ سبعة نصوص في مسافة القصر: ثمانية وأربعون ميلًا، ستة وأربعون ميلًا، أكثر مِن أربعين، أربعون، يومان، ليلة، يوم وليلة.
          قلتُ: الليلة بلا يوم، وحُملت على شيءٍ واحدٍ، والأوَّل هو الأصحُّ.
          وعن داود: يقصر في طويل السَّفر وقصيره، حكاه في «التمهيد» عنه، قال أبو حامد: حتَّى لو خرج إلى بستانٍ له خارج البلد قصر.
          وذكر ابن حَزْمٍ في «محلَّاه» أنَّه لا يقصُرُ في أقلَّ مِن ميلٍ عند الظاهريَّةِ، قال: ولا يجوز لنا أن نُوقع اسم سفرٍ وحكم سفرٍ إلَّا على مَا سمَّاه مَن هو حُجَّة في اللُّغة سفرًا، فلم يحدَّ ذلك في أقلَّ مِن ميلٍ، وقد رُوِّينا الميل عن ابن عمر، فإنَّهُ قال: لو خرجتُ ميلًا لقصرتُ الصَّلاة، ورُوي عن ابن عمر خلاف ذلك، والمسألة محلُّ بسطها الخلافيات، وقد عقد لها البخاريُّ بابًا ستمرُّ به قريبًا _إن شاء الله_ واحتجُّوا بحديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ أنَّه ◙ سافر فرسخًا فقصر، ولا دلالة فيه لأنَّه ليس فيه أنَّ سفره كان فرسخًا، ويجوز أن يكون فعل إشارةً إلى أنَّه لا يفتقر القصر إلى قطع جميع المسافة، بل بالشروع فيها.
          وعبارة ابن بطَّالٍ: حكى مَن لا يُعتدُّ بخلافه مِن أهل الظاهر أنَّه يجوز القصر في قليل السفر وكثيره إذا جاوز البنيان ولو قصد إلى بستانه، وحكوه عن عليٍّ.
          وحُجَّة مالكٍ حديث: ((لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ)) فجعل لليوم والليلة حكمًا خلاف حكم الحَضَر، فعلمنا أنَّه الزمن الفاصل بين الَّسفر الذي يجوز فيه القصر، وبين ما لا يجوز. ونقل القاضي أبو محمَّدٍ وغيره إجماع الصَّحابة على اعتبار مسافة، وإن اختلفوا في مقدارها، فمَن لم يعتبرها خرقَ الإجماع، والميل ونحوه لا مشقَّة في قطعه فصار كالحَضَر.
          واختلف العلماء سلفًا وخلفًا في إتمام الصَّلاة في السفر، فذهبت طائفةٌ إلى أنَّ ذلك سُنَّةٌ، رُويَ عن عائشة وسعد بن أبي وقَّاصٍ أنَّهما كانا يُتمَّان فيه، ذكره عطاء بن أبي رَبَاحٍ عنهما، وعن حُذيفةَ مثله، ورُويَ مثله عن الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وعبد الرحمن بن الأسود وعن سعيد بن المسيِّب وأبي قِلابة.
          وروى أبو مصعبٍ عن مالكٍ قال: قَصْر الصَّلاة في السفر سُنَّةٌ، وهو قول الشافعيِّ إذا بلغ سفره ثلاث مراحل وأبي ثورٍ، وعن الشافعيِّ قولٌ أنَّه مخيَّرٌ بينهما غير أنَّ الإتمام أفضل، وذهب بعض أصحابه إلى أنَّه مخيَّرٌ والقصر أفضل.
          قال ابن القصَّار: وهذا اختيار الأبهريِّ واختياري.
          وذهبت طائفة إلى أنَّ الواجب على المسافر ركعتان، رُوي ذلك عن عمر وابنه وابن عبَّاسٍ، وهو قول الكوفيين ومحمَّد بن سُحنُون واختاره إسماعيل بن إسحاقَ من أصحاب مالكٍ.
          واحتجَّ الكوفيُّون بحديث عائشة: ((فُرِضَتِ الصَّلاةُ رَكْعَتَينِ في الحَضَر والسَّفَرِ)). وقد سلف في أوَّلِ كتاب الصَّلاة شيءٌ مِن معنى ذلك، ولا شكَّ أنَّ الفرض يأتي بمعنىً لغير الإيجاب كما تقول: فَرَض القاضي النفقةَ، إذا قدَّرها وبيَّنها، ومنه قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] أي بيَّن لكم كيف تكفِّرون عنها في قول بعض المفسِّرين.
          وقال الطَّبريُّ: يحتمل قول عائشةَ: فُرضَت ركعتين في السَّفر، يعني: إن اختار المسافر ذلك، وإن اختار أربعًا. ونظير هذا التخيير النفر الأوَّل مِن منىً فإنه مخيَّر فيه، ولو كان فرض المسافر ركعتين فقط لَمَا جاز له جعلها أربعًا بوجهٍ مِن الوجوه، كما ليس للمقيم أن يجعل صلاته مثنىً وصلاة الفجر أربعًا.
          وقد اتَّفَقَ فقهاء الأمصار على أنَّ المسافر إذا ائتمَّ بمقيمٍ في جزءٍ مِن صلاته أنَّه يلزمه الإتمام، فهذا يدلُّ على أنَّه ليس فرضه ركعتين إلَّا على التخيير، وبان أنَّ / مَن أتمَّ مِن المسافرين فالفرضَ اختار، وأنَّ مَن قصر فهو تمام فرضه.
          واختلف الناس في وجه إتمام عُثمانَ على أقوال:
          أحدها: أنَّه أمير المؤمنين، فحيث كان في بلدٍ فهو عمله قاله أبو الجَهْم، ووجهه أنَّ للإمام تأثيرًا في حكم الإتمام كما له تأثير في إقامة الجمعة إذا مرَّ بقوم أنَّه يُجَمِّع بهم الجمعة، غير أنَّ عثمان سار مع الشارع إلى مكَّة وغيرها، وكان مع ذلك يقصر، ويخدش في ذلك أنَّ الشارع كان أولى بذلك، ومع ذلك لم يفعله، نعم صحَّ عنه أنَّه كان يُصلِّي في السَّفر ركعتين إلى أن قبضه الله كما ستعلمه.
          ثانيها: أنَّه اتَّخذ منىً مسكنًا فلذلك أتمَّ، روى مَعْمَرٌ عن الزُّهريِّ قال: إنَّما فعل ذلك لأنَّه أزمع على المُقام بعد الحجِّ ذكره أبو داودَ.
          وروى عبد الله بن الحارث بن أبي ذئابٍ عن أبيه _وقد عمل الحارث لعمر بن الخطَّاب_ قال: صلَّى بنا عثمان أربعًا، فلمَّا سلَّم أقبلَ على النَّاس فقال: إنِّي تأهَّلْتُ بمكَّة، وقد سمعتُ رسول الله صلعم يقول ((مَن تأهَّلَ ببلدةٍ فهو مِن أَهْلِها فَلْيُصَلِّ أربعًا)) وعزاه ابن التِّين إلى رواية ابن سَنْجَرَ: أنَّ عثمان صلَّى بمنىً أربعًا فأنكروا عليه فقال: يا أيُّها النَّاس إني لمَّا قدمت تأهَّلت بها، إنِّي سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((إذا تَأهَّلَ الرَّجُلُ ببلدٍ، فَلْيُصَلِّ بهم صَلَاةَ المقِيمِ)) وهذا منقطعٌ، أخرجه البيهقيُّ مِن حديث عِكرمة بن إبراهيمَ وهو ضعيفٌ عن ابن أبي ذئابٍ عن أبيه قال: صلَّى عثمانُ.
          وقال ابن حَزْمٍ: رُوِّينا مِن طريق عبد الرزَّاق عن الزُّهريِّ قال: بلغني أنَّ عثمانَ إنَّما صلَّى أربعًا _يعني: بمنىً_ لأنَّه أزمعَ أن يقيمَ بعد الحجِّ، وهذا يردُّه أنَّ المقام بمكَّة للمهاجر أكثر مِن ثلاثٍ لا يجوز.
          وقال ابن التِّين: لا يمنع ذلك إذ عَرَض له أمر أوجب مقامه أربعة أيَّامٍ لضرورةٍ.
          وقد قال مالكٌ في «العتبية» فيمن يقيم بمنىً ليخفَّ الناس: يتمُّ، في أحد قوليه، ومثل هذا الجواب أنَّ أهلَه كانوا معه بمكَّة، ويردُّه أنَّ الشارع كان يسافر بزوجاته وكنَّ معه بمكَّة ومع ذلك يقصر، ومثله إنَّما أتمَّ لأنَّه أقام بمكَّة قبل مخرجه إلى منىً مدَّةً توجب الإتمام، واعتقد أنَّ مسافة الخروج إلى عرفة إذا انفصلت ممَّا قبلها مِن السَّفر لا تُوجِب القصر.
          ولا شكَّ أنَّ عثمان لا يتعمَّد مخالفة الشارع لغير معنى، ومثله أنَّهُ كان له بمنىً أرضٌ فكأنَّهُ كالمقيم، وهذا فيه بُعدٌ، إذ لم يقل أحدٌ: إنَّ المسافر إذا مرَّ بما يملكه مِن الأرض ولم يكن له فيها أهلٌ أنَّ حُكمه حُكم المقيم.
          ثالثها: ما رواه أيُّوبُ عن الزُّهريِّ أنَّ الأعراب كثُروا في ذلك العام فأحبَّ أن يخبرهم أنَّ الصَّلاة أربعٌ، ذكره أبو داودَ، وقال البيهقيُّ في «المعرفة»: قد رُوِّينا بإسناد حسنٍ، عن عبد الرحمن بن حُمَيدٍ عن أبيه عن عثمان أنَّه أتمَّ الصَّلاة بمنىً ثمَّ خطب النَّاس فقال: أيُّها النَّاسُ، إنَّ القصر سُنَّة رسول الله صلعم وسُنَّة صاحبيه، ولكنَّه حدَثَ فِئامٌ مِن الناس فخفتُ أن يستنُّوا.
          وقال ابن جُرَيجٍ: إنَّ أعرابيًا ناداه في منىً فقال: يا أمير المؤمنين مازلت أُصلِّيها منذ رأيتكَ عام الأوَّل صلَّيتها ركعتين، فخشيَ عثمان أن يظنَّ جهَّال النَّاس أنَّ الصَّلاة ركعتان، وهذا يردُّه أنَّ الشارع كان أولى بذلك ولم يفعله.
          رابعها: أنَّه تأوَّلَ أنَّ القصر رخصةٌ غير واجبٍ، وأخذ بالأكمل الأتمِّ، وتأوَّل أنَّ الشارع قصد بقصره التخفيف كالفطر ويؤيِّده ما رواه الطَّحاويُّ عن عائشةَ: ((قَصَر النَّبِيُّ صلعم وَأَتَمَّ في السَّفَرِ)) وكان سعدٌ وعبدُ الرحمن بن عوفٍ وحُذَيفةُ وعائشةُ وعثمانُ يتمُّون، وكذا تأوَّلت عائشة.
          قال القُرطبيُّ: وهذا هو الوجه وفيه نظرٌ، فحديث البخاريِّ الآتي عن ابن عمر في باب: مَن لم يتطوَّع في السفر: (صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم فَكَانَ لاَ يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ). ورواه مسلمٌ بلفظ: ((صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ)). فهذا دالٌّ على أنَّ عثمان صلَّى ركعتين إلى أن قُبض إلَّا أن يؤوَّل في أواخر أمره، أو المراد: صحبه في سائر أسفاره غير منىً، لأنَّ إتمامه إنَّما كان بها على ما فسَّره عِمْرَان بن حُصَيْنٍ.
          وفي «الموطَّأ» عن ابن عمر أنَّه كان يُصلِّي وراء الإمامِ بمنىً أربعًا، والإمام ذُكر أنَّه عثمان، فتأوَّلَ ابن عُمر أنَّ عثمان لم يره مُقامًا يبيح القصر على ما تقدَّم.
          وروى أبو داودَ مِن حديث معاويةَ بن قرَّةَ عن أشياخه أنَّ عبد الله صلَّى أربعًا، قال: فقيل له: عِبْتَ على عثمانَ ثمَّ صلَّيت أربعًا؟ قال: الخلاف شرٌّ.
          وذكر أبو داود عن الزُّهريِّ قال: لَمَّا اتَّخذ عثمان الأموال بالطَّائف وأراد أن يقيم بها صلَّى أربعًا. واسترجاعُ ابن مَسْعُودٍ لَمَّا رأى عثمان أتمَّ خلافَ ما عَهِدَ مِن الشَّارع وصاحبَيه دليلٌ على إنكاره في خلاف الأفضل فقط، إذ لو اعتقد أنَّ فرضه القصر لم يصحَّ أن يُصلِّيها خلفه ولم يجُز له أن يتمَّ، ولا سكتت الصَّحابة مِن غير نكيرٍ.
          وزعم الدَّاوديُّ أنَّ ابن مَسْعُود كان يرى القَصر فرضًا.
          قال أبو سُليمان: مِن أجل الأُسوة، يريد إذا لم يتأسَّ بفعله ◙ وصاحبيه، فلأجل ذلك استرجع، وهذا يردُّ ما أوَّله أنَّهُ صلَّى أربعًا، وقال: الخلاف شرٌّ، فلو كان يعتقد القصر فرضًا لكان الخلاف شرًّا لا خيرًا، والظاهر في ذلك إنَّما قال ذلك لأنَّه رأى أنَّ الخلاف على الإمام فيما سبيله التخيير والإباحة شرٌّ، وهو ما أبداه ابن بطَّالٍ.
          وقد روى ابن أبي شَيبةَ عن ميمونِ بن مِهْرانَ أنَّه سأل سعيد بن المسيِّب عن الصَّلاة في السَّفر، فقال: إنْ شئت ركعتين وإنْ شئت أربعًا. وذكر عن أبي قِلابةَ أنَّه قال: إن صلَّيتَ في السفر ركعتين فالسُّنَّة وإن صلَّيتَ أربعًا فالسُّنَّة.
          ولَمَّا ذكر ابن بطَّالٍ مقالة الزُّهريِّ وابن جُرَيجٍ ومَعْمَرٍ، وما رواه عبد الله بن الحارث قال: هذه الوجوه كلُّها ليست بشيءٍ.
          قال الطَّحاويُّ: وذلك لأنَّ الأعراب كانوا بأحكام الصَّلاة / أجهل في زمن الشَّارع فلم يُتِمَّ بهم لتلك العلَّة، ولم يكن عثمان ليخاف عليهم ما لم يخفهُ الشارع، لأنَّه بهم رؤوفٌ رحيمٌ.
          قال غيره: أَلَا ترى أنَّ الجمعة لَمَّا كان فرضها ركعتين لم يُعدل عنها، وكان يحضرها الغوغاء والوفود، وقد يجوِّزوا أنَّ صلاة الجمعة في كلِّ يومٍ ركعتان.
          وأمَّا ما ذُكر عنه أنَّه أزمع على المقام بعد الحجِّ فليس بشيء، لأنَّ المهاجرين فُرض عليهم ترك المقام بمكَّة وهذا أسلفتُه، وصحَّ عن عثمان أنَّه كان لا يُودِّع النِّساء إلَّا على ظهر راحلته، ويسرع الخروج مِن مكَّة خشية أن يرجع في هجرته التي هاجرها لله.
          وما ذُكر عنه أنَّه اتَّخذ أهلًا بمكَّة، فالشارع كان في غزواته وحَجِّه وأسفاره كلِّها يسافر بأهله بعد أن يقرع بينهنَّ، وكان أولى أن يتأوَّل ذلك ويفعله، فلم يفعله وقصَر، وكذا ما تأوَّلوا في إتمام عائشة أنَّها كانت أمَّ المؤمنين فحيث ما حلَّت فهو بيتها، وهذا في الضعف مثل الأوَّل، أَلَا ترى أنَّه ◙ كان أبًا للمؤمنين، وهو أولى بهم مِن عائشة، ولم يتأوَّل ذلك.
          قال ابن بطَّالٍ: والوجه الصحيح في ذلك _والله أعلم_ أنَّ عثمان وعائشة إنَّما أتمَّا في السفر، لأنَّهما اعتقدا في قصره ◙ أنَّه لَمَّا خُيِّر بين القصر والإتمام اختار الأيسر مِن ذلك على أُمَّتِهِ، وقد قالت عائشة: ((ما خُيِّر رسولُ اللهِ صلعم في أمرينِ إلَّا اختارَ أيسرَهُما، ما لم يَكُنْ إثمًا)) فأخذت هي وعثمان في أنفسهما بالشدَّة وتركا الرُّخصة، إذ كان ذاك مباحًا لهما في حكم التخيير فيما أذن الله فيه، ويدلُّ على ذلك إنكار ابن مَسْعُودٍ الإتمام على عثمان، ثمَّ صلَّى خلفَه وأتمَّ، فكُلِّم في ذلك، فقال: الخلاف شرٌّ، وسلف ما فيه ووجهه.
          فصل: وقول حَارِثةَ بن وَهْبٍ: (صَلَّى بِنَا رَسُوْلُ اللهِ صلعم آمَنَ مَا كَانَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ) يريد أنَّهُ قصر مِن غير خوفٍ كما هو مذهب الجمهور، وكما هو ثابتٌ في «صحيح مسلمٍ» مِن حديث يعلى عن عُمَرَ.
          وعن عائشةَ ♦ أنَّها كانت تقول في السفر: فأتمُّوا، فقالوا: إنَّ رسول الله صلعم كان يُصلِّي ركعتينِ، فقالت: إنَّه كان في خوفٍ، فهل تخافون أنتم؟ وحديث حارثةَ يردُّه.
          وقوله: (فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ) يريد: إنِّي صلَّيت أربعًا وتكلَّفتها، فليتها تُتقبَّل كما تُتقبَّل الركعتان، هذا تأويل أبي عبد الملك وقال الدَّاوديُّ نحوه، قال: إنَّما خشي ابن مَسْعُودٍ أن لا تجزئ الأربع فاعلها، وفعلها مع عثمان كراهية الخلاف كما سبق، ومخبرٌ بما في نفسه.