التوضيح لشرح الجامع البخاري

معلق ابن أبي ذئب: أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما

          5119- الحديث الرَّابع: قَالَ البُخاريُّ: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: حَدَّثنا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم أنَّه قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلاَثُ لَيَالٍ، فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا تَزَايَدَا أَوْ يَتَّارَكَا تَتَارَكَا، فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟).
          هذا التَّعليق أسنده الإسماعيليُّ عن ابن ناجِيَة: حَدَّثنا أبو موسى مُحمَّد بن المثنَّى لفظه، وبُنْدارٌ وحُميد بن زنْجَوَيْهِ قالوا: حَدَّثنا أبو عاصمٍ الضَّحَّاك بن مَخْلَدٍ عن ابن أبي ذئبٍ عن إياسٍ بلفظ: ((أيُّمَا رجلٍ وامرأةٍ أيَّام الحجِّ تراضيا فعِشرةُ ما بينهما ثلاثةُ أيَّامٍ))، وفي رواية أبي العُمَيسِ عن إياسٍ: رخَّص رسول الله صلعم عامَ أَوْطَاسٍ في المتعة ثلاثة أيَّامٍ ثُمَّ نهى عنه، قَالَ البَيْهَقيُّ: فإن زعم زاعمٌ أنَّه نُهي _بضمِّ النُّون وكسر الهاء_ يريد بالنَّاهي عمر بن الخطَّاب، قيل له: المحفوظ: نهى، بفتح النُّون والهاء، ورأيته في كتاب بعضهم: نَهَى _بالألف_ عَلَى أنَّه وإنْ كانت الرِّواية كما قَالَ بضمِّ النُّون، فيحتمل أن يكون المرادُ الشَّارعَ ويحتمل عمر.
          ورواية الرَّبيع بن سَبْرة عن أبيه مِنْ عند مسلمٍ: تمتَّعتُ ثلاثًا، ثُمَّ إنَّ رسول الله صلعم قَالَ: ((مَنْ كان عندَه شيءٌ مِنْ هذِه النِّساء الَّتي يتمتَّع بها فليخلِّ سبيلها))، وفي روايةٍ: وذلك في فتح مكَّة، أُذن لنا في متعة النِّساء، فلم نخرج حتَّى حرَّمها رسول الله صلعم، فقَالَ: ((يا أيُّها النَّاس، إنِّي كنت قد أذِنْتُ لكم في الاستمتاع مِنَ النِّساء، وإنَّ الله ╡ قد حرَّم ذَلِكَ إلى يوم القيامة))، قاطعةٌ بأنَّ النَّاهي في هذا إنَّما هو الشَّارع، فيكون أولى مِنْ رواية مَنْ أبهمه. قَالَ البَيْهَقيُّ: وإنَّما لم يخرِّجه البُخاريُّ لاختلافٍ وقع عليه في «تاريخه»، وعند أحمد: وذلك في حجَّة الوداع.
          وذهب أبو داود إلى أنَّه أصحُّ ما رُوي في هذا، ورجَّحه ابن عبد البرِّ وغيره، وهو قوله: وذلك في حجَّة الوداع، وخالف ذَلِكَ البَيْهَقيُّ فَقَالَ: الفتح أكثر، وذُكر في كتاب «ما أغرب به شعبة عن سفيان بن سعيدٍ»: أنَّ الأجل كان بينهما عشرة أيَّامٍ، وعند ابن شاهينٍ: قبل يوم التَّروية كان الإذن، وفي يوم التَّروية كان المنع، وفي لفظٍ: في عشرةٍ الإذن، وفي لفظٍ: وذلك عمرة.
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَدْ بَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صلعم أنَّهُ مَنْسُوْخٌ) وهو كما قَالَ، وقد أسنده في «صحيحه» [خ¦6961] أوَّلًا لأنَّ عليًّا ☺ قَالَ لابن عبَّاسٍ: أما علمت أنَّ رسول الله صلعم نهى عن نكاح المتعة يوم خَيبرَ؟ وللنَّسائيِّ: وقال مُحمَّد بن مثنًّى: يوم حنين، وقال: هكذا حَدَّثنا عبد الوهَّاب الثَّقفيُّ مِنْ كتابه عن يحيى بن سعيدٍ عن مالكٍ.
          وللبَيْهَقيِّ مِنْ حديث ابن لهيعة عن موسى بن أيُّوب عن إياس بن عامرٍ عن عَليٍّ: نهى رسول الله صلعم عن المتعة، قَالَ: وإنَّما كانت فيمن لم يجد، فلمَّا أُنزل النِّكاح والطَّلاق والعدَّة والميراث بين الزَّوج والمرأة نُسخت، وهو معنى ما أخرجه ابن حبَّان في «صحيحه» مِنْ حديث المَقْبُريِّ، عن أبي هريرة ☺: أنَّه ◙ لمَّا خرج نزل بثنيَّة الوداع فرأى مصابيح وسمع نساءً يبكين، فقال: / ((مَا هَذَا؟)) قالوا: نساءٌ كانوا تمتَّع منهنَّ أزواجهنَّ، فقال صلعم: ((هَدَمَ _أو قَالَ: حَرَّم_ المُتعةَ النِّكاحُ والطَّلاقُ والعدَّةُ والميراثُ))، وللبَيْهَقيِّ فيه: خرجنا مع رسول الله صلعم في غزوة تبوكَ فنزلنا ثنيَّةَ الوداع، قَالَ: وكذلك رواه إسحاق بن إبراهيم وجماعةٌ عن المؤمِّل عن عِكرمة عن المَقْبُريِّ.
          وللحازميِّ مِنْ حديث ابن عَقيلٍ عن جابرٍ:خرجنا مع رسول الله صلعم إلى غزوة تبوكَ، حتَّى إذا كنَّا عند العقبة ممَّا يلي الشَّام، فرأى صلعم نسوةً يَطُفنَ في رحالنا، فقال: ((مَنْ هؤلاء؟)) فقلنا: يا رسول الله، نسوةٌ تمتَّعنا منهنَّ، فغضب حتَّى احمرَّت وجنتاه واشتدَّ غضبه، ثُمَّ قام خطيبًا، فنهى عن المتعة فتواعدنا يومئذٍ الرِّجال والنِّساء فلم نعد، ولا نعود لها أبدًا فبها يومئذٍ سُمِّيت ثنيَّة الوداع.
          وعند ابن عبد البرَّ مِنْ حديث إسحاق بن راشدٍ عن الزُّهْريِّ _ولم يتابع عليه_ عن عبد الله بن مُحمَّد بن عليٍّ عن أبيه عن عليٍّ ☺: نهى النَّبِيُّ صلعم في غزوة تبوكَ عن نكاح المتعة.
          فصلٌ: ذكر الطَّحَاويُّ عن عليٍّ وابن عمر ♥ أنَّ النَّهي عنها كان يوم خيبرَ، ورواه مالكٌ ومَعْمرٌ ويونس عن ابن شِهابٍ في هذا الحديث كذلك، وقد رُويت آثارٌ أنَّ نهيَه عنها كان في غير يوم خيبرَ، فروى أبو العُمَيس عن إياس بن سَلَمة عن أبيه أنَّه صلعم أذن فيها عام أَوْطاسٍ ثُمَّ نهى عنها، وروى عكرمة بن عمَّارٍ عن سعيدٍ المَقْبُريِّ أنَّه حرَّمها في غزوة تبوكَ، وقد سلف أيضًا، وقال عمرٌو عن الحسن: ما حلَّت قطُّ إلَّا ثلاثًا في عُمْرة القضاء، ما حلَّت قبلها ولا بعدها، وحديث سَبْرَة السَّالف كان عام الفتح، وعنه أنَّه كان في حجَّة الوداع.
          قَالَ الطَّحَاويُّ: فكلُّ هؤلاء الَّذين روَوا عن رسول الله صلعم إطلاقَها أخبروا أنَّها كانت في سفرٍ، وأنَّ النَّهي لحقها في ذَلِكَ السَّفر بعد ذلك فمنع منها، وليس أحدٌ منهم يخبر أنَّها كانت في حضرٍ، وحديث ابن مسعودٍ السَّالف في البُخاريِّ أنَّه كان في الغزو، وحديث سَبْرَة خارجٌ عنه، وحديث سَلَمة في غزوة أَوْطاسٍ وهو وقت ضرورةٍ، قَالَ: وأخلق بحديث سَبْرَةَ أن يكون خطأً لزوال الضَّرورة.
          وقد اعتبرنا هذا الخبر فلم نجده إلَّا في رواية عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز خاصَّةً، فأمَّا عبد العزيز بن الرَّبيع بن سَبْرَة فرواه عن أبيه وذكر أنَّه عام الفتح، وقد رواه إسماعيل بن عيَّاشٍ عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، فذكر أنَّ ذَلِكَ كان في الفتح، وأنَّهم شكَوا العزبة فرخَّص لهم فيها، ومحالٌ أن يشكوها في حجَّة الوداع لأنَّهم حجُّوا بالنِّساء، فلمَّا اختلفت المواطن المذكورة فيها الإباحة في حديث سَبْرَة بقي النَّهي المطلق فقط.
          فالحاصل سبع رواياتٍ: خيبر، حنين، الفتح، أوطاس، تبوك، عمرة القضاء، حجَّة الوداع، وهو هنا، ولمَّا أسلفناه عن الحسن والجمعُ متعيِّنٌ فيكون مرَّاتٍ، ثُمَّ استقرَّ النَّهي.
          فصلٌ: روى البَيْهَقيُّ مِنْ حديث الحكم بن عُتَيبة عن أصحاب عبد الله بن مسعودٍ أنَّه قَالَ: المتعة منسوخةٌ، نسخها الطَّلاق والعدَّة والصَّداق والميراث، وفي «صحيح الإسماعيليِّ»: ففعلناها ثُمَّ تُرك ذَلِكَ، وفي لفظٍ: ثُمَّ جاء تحريمها بعدُ. ولابن شاهينٍ مِنْ حديث أبي حنيفة عن حمَّادٍ عن إبراهيم عنه: أُحلَّت للصَّحابة ثلاثة أيَّامٍ في غزاةٍ شكونا إلى رسول الله صلعم العزوبة، ثُمَّ نسختها آية النِّكاح.
          وحديث ابن مسعودٍ السَّالف في النِّكاح لم يذكر فيه إلَّا الإباحة، وتلا قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة:87]، قَالَ الشَّافعيُّ فيما حكاه عنه الحاكم: ذكر ابن مسعودٍ الإرخاص فيها، ولم يؤقِّت شيئًا يدلُّ أهو قبل خيبرَ أو بعدها؟ فأشبه حديث عليٍّ في النَّهي عنها أن يكون _والله أعلم_ ناسخًا له فلا يجوز بحالٍ.
          قَالَ البَيْهَقيُّ: ورُوِّينا في حديث ابن مسعودٍ أنَّه قَالَ: كنَّا ونحن شبابٌ، فأخبر أنَّهم كانوا يفعلون ذَلِكَ وهم شبابٌ لأنَّ ابن مسعودٍ توفِّي سنة اثنتين وثلاثين، وله بضعٌ وستُّون سنةً، وكان فتح خيبر سنة سبعٍ، وفتح مكَّة سنة ثمانٍ، فكان سنِّه عام الفتح يقرب مِنْ أربعين سنةً، والشَّباب قبل ذَلِكَ، فأشبه حديث عليٍّ أن يكون ناسخًا له، وهو كما قَالَ البَيْهَقيُّ، فمَنْ تأمَّله وجد كلامه في غاية المتانة.
          وذكر أبو عبد الرَّحْمَن العُتَقِيُّ في «تاريخه» أنَّ مولد ابن مسعودٍ سنة ثلاثٍ وعشرين مِنْ مولد سيِّدنا رسول الله صلعم، فحضوره كان أيضًا فوق الثَّلاثين، وقد ذكر نسخها كما سلف.
          وقد رواه أيضًا عنه عبد الرَّزَّاق عن مَعمرٍ عن إسماعيل عن قيسٍ عنه فوافق عليًّا في النَّسخ، والظَّاهر أنَّ حديثه: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ)) السَّالف بعدَ ذَلِكَ، وقد سلفتْ روايته في البُخاريِّ [خ¦5065]: قَالَ لنا النَّبِيُّ صلعم ذَلِكَ، ولا تنافيه رواية الفِرْيابيِّ في كتاب النِّكاح: ((خَرَج عَلَى فتيةٍ عزَّابٍ فقال: يا معشر الشَّباب)).
          فصلٌ: روى النَّهيَ أيضًا جماعاتٌ منهم عمرُ بن الخطَّاب، أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ: أنَّه صلعم أذن لنا في المتعة ثلاثة أيَّامٍ ثُمَّ حرَّمها، واللهِ لا أعلم أحدًا تمتَّع وهو محصَنٌ إلَّا رجمتُه، إلَّا أن يأتيني بأربعةٍ يشهدون أنَّه ◙ أحلَّها بعد إذ حرَّمها، وعند ابن الطَّلَّاع: قَالَ أبو عُبيدٍ في حديثه: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: ((مَا أَحسِبُ رجلًا منكم يخلو بامرأةٍ ثلاثًا إلَّا ولَّاها الدُّبرَ))، والدَّارَقُطْنيُّ: عن ابن عبَّاسٍ أنَّ عمر نهى عن المتعة الَّتي للنِّساء وقال: إنَّما أحلَّ الله ذَلِكَ للنَّاس عَلَى عهد رسول الله صلعم، والنِّساء يومئذٍ قليلٌ، ثُمَّ حرَّمها عليهم بعدُ. وفي «المصنَّف» قَالَ ابن المُسَيِّب: يرحم الله عمرَ، لولا أنَّه نهى عنها صار الزِّنا جهارًا. وله أنَّ ابنَ عمر سئل عنها فقال: حرامٌ، قيل له: إنَّ ابن عبَّاسٍ يفتي بها، قَالَ: فهلَّا تَزَمْزَمَ بها أيَّام عمرَ، زاد البَيْهَقيُّ: والله لقد علم أنَّ رسول الله صلعم حرَّمها يوم خيبر وما كنَّا مسافحين.
          ومنهم أبو هريرة ☺، أخرجه ابن شاهينٍ بإسنادٍ جيِّدٍ عنه: تمتَّعنا مع رسول الله صلعم بمكَّة مِنَ النِّساء، ثُمَّ قَالَ لنا: ((إنَّ جبريلَ أتاني وأخبرني أنَّ اللهَ قد حرَّمَها))، وله مِنْ حديث ابن خالدٍ الجُهَنيِّ وكعب بن مالكٍ وأنسٍ.
          وفي البَيْهَقيِّ عن أبي ذرٍّ: إنَّما أُحلَّت لنا _أصحابَ رسول الله صلعم_ متعةُ النِّساء ثلاثة أيَّامٍ، ثُمَّ نهى عنها رسول الله صلعم، وفي مسلمٍ: لا تَصلُح المتعتان إلَّا لنا خاصَّةً، يعني: متعة النِّساء، ومتعة الحجّ.
          فصلٌ: لمَّا حرَّمها صلعم في حجَّة الوداع تأبَّدَ النَّهيُ، فلم يبقَ اليومَ فيه خلافٌ بين فقهاء الأمصار وأئمَّة الأُمَّة، قَالَ الحازميُّ الأستاذ: ذهب إليه بعض الشِّيعة، ورُوي عن ابن جُرَيْجٍ أيضًا جوازه، قلت: قد ذكروا عنه رجوعَه، قَالَ أبو طالبٍ: قَالَ أبو عبد الله أحمد: قَالَ ابن جُرَيْجٍ بالبصرة: اشهدوا أنِّي قد رجعت / عن المتعة بعد بضعةَ عشرَ حديثًا أرويه فيها.
          وأمَّا ابن حَزْمٍ توسَّع، قَالَ: إنَّ جماعةً مِنَ السَّلف ثبتت عَلَى تحليلها بعد رسول الله صلعم، منهم مِنَ الصَّحابة: أسماء بنت الصِّدِّيق وجابر بن عبد الله وابن عبَّاسٍ وابن مسعودٍ ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن حُريث وأبو سعيدٍ الخُدْريُّ وسَلَمة ومَعْبد ابنا أُميَّة بن خلفٍ، ورواه جابرٌ عن جمعٍ مِنَ الصَّحابة مدَّة رسول الله ومدَّة أبي بكرٍ وعمرَ إلى قرب آخر خلافته.
          واختُلف في إباحتها عن ابن الزُّبَير وعليٌّ، وعن عمر فيها توقُّف أنَّه إنَّما أنكرَها إذ لم يشهد عليها عدلان، وأباحها بشهادة عدلين، ومِنَ التَّابعين: طاوسٌ وعطاءٌ وسعيدٌ وسائر فقهاء مكَّة، قلت: ولهذا _والله أعلم_ قَالَ الأوزاعيُّ فيما ذكره الحاكم في «علومه»: يُترك مِنْ قول أهل الحجاز خمسٌ: منها المتعة بالنِّساء، وقال ابن عبد البرِّ في «جامع العلم»: أطلق ابن شِهابٍ عَلَى أهل مكَّة زمانَه أنَّهم ينقضون عُرا الإسلام، ما استثنى منهم أحدًا، وأظنُّ ذَلِكَ لما رُوي عنهم في الصَّرف ومتعة النِّساء. ونقل ابن بَطَّالٍ عن بعضهم: روى أهل مكَّة واليمن عن ابن عبَّاسٍ تحليلَها، ورُوي عنه أنَّه رجع عنها بأسانيد ضعيفةٍ، وإِجازةُ المتعة عنه أصحُّ، وهو مذهب الشِّيعة، لكنَّ الَّذي اتَّفق عليه أهل الأمصار مِنْ أهل الرَّأي والأثر تحريمُها.
          قَالَ ابن عبد البرِّ: اتَّفق أئمَّة الأمصار مالكٌ وأصحابه وسفيان وأبو حنيفة والشَّافعيُّ ومَنْ سلك سبيلهما مِنْ أهل الحديث والفقه والنَّظر، واللَّيثُ بن سعدٍ في أهل مصر والمغرب، والأوزاعيُّ في أهل الشَّام، وأحمد وإسحاق وأبو ثَوْرٍ وأبو عُبيدٍ وداود ومُحمَّد بن جريرٍ عَلَى تحريمها لصحَّة النَّهي عندَهم.
          واختلفوا في معنًى منها، وهو: الرَّجل يتزوَّج المرأة عشرة أيَّامٍ أو شهرًا أو أيَّامًا معلومةً وأجلًا معلومًا، فقال مالكٌ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ والأوزاعيُّ: هذا نكاح المتعة، وهو باطلٌ، يفسخ قبل الدُّخول وبعده، وقال زُفَرُ: إن تزوَّجها عشرة أيَّامٍ أو نحوها أو شهرًا، فالنِّكاح ثابتٌ، والشَّرط باطلٌ، وهو شاذٌّ، وقالوا كلُّهم إلَّا الأوزاعيَّ: إذا نكح المرأة نكاحًا صحيحًا ولكنَّه نوى في حين عقده عليها ألَّا يمكث معها إلَّا شهرًا أو مدَّةً معلومةً، فإنَّه لا بأس به ولا تضرُّ في ذَلِكَ نيَّته إذا لم يشترط ذَلِكَ في نكاحه، قَالَ مالكٌ: وليس عَلَى الرَّجل إذا نكح أن ينوي إذا لم توافقه امرأته أن يطلِّقها. وقال الأوزاعيُّ: ولو تزوَّجها بغير شرطٍ، ولكنَّه نوى ألَّا يحبسها إلَّا شهرًا أو نحوه ويطلِّقها، فهي متعةٌ، ولا خير فيه.
          قَالَ أبو عمرَ: في حديث ابن مسعودٍ بيان أنَّ المتعة نكاحٌ إلى أجلٍ، وهذا يقتضي الشَّرط الظَّاهر فإذا سلم العقد منه صحَّ، قَالَ: وقد رُوي عن ابن عبَّاسٍ أنَّه انصرف عن المتعة، والصَّرْفُ أنَّه قَالَ: نسخ المتعة {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، ورُوي عنه أنَّه قَالَ: الاستمتاع هو النِّكاح، وهي كلُّها آثارٌ ضعيفةٌ، لم ينقلها أحدٌ يُحتجُّ به، والآثار عنه بإجازة المتعة أصحُّ، ولكنَّ العلماء خالفوه فيها قديمًا وحديثًا، حتَّى قَالَ ابن الزُّبَير: لو تمتَّع ابن عبَّاسٍ لرجمتُه، وقد ذهب الشَّافعيُّ وغيرُه إلى أنَّه لا يُحدُّ فاعلُه، فيُحمل قول هذين عَلَى التَّغليظ، قَالَ مالكٌ عند ابن حَبيبٍ: ولا يبلغ به الحدُّ كنكاح السِّرِّ، وقال ابن نافعٍ: يُحدُّ بخلاف السِّرِّ.
          قَالَ أبو عمرَ: ولم يختلف العلماء أنَّ المتعة نكاحٌ إلى أجلٍ، لا ميراثَ فيه، والفرقة تقع إلى انقضاء الأجل مِنْ غير طلاقٍ، وليس هذا حُكمَ الزَّوجية عند أحدٍ مِنَ المسلمين، وقد حرَّم الله الفروج إلَّا بنكاحٍ صحيحٍ أو ملك يمينٍ، وقد نزعت عائشة ♦ والقاسم بن مُحمَّدٍ وغيرهما في تحريمها ونسخها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية [المؤمنون:5]، ونقله التِّرْمِذيُّ أيضًا عن ابن عبَّاسٍ، وقد رُوي عن عليٍّ وابن مسعودٍ في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} قالا: فنَسخَ الطَّلاقُ والعدَّةُ والميراثُ المتعةَ.
          وما ذكره الشِّيعة خالفوا فيه قواعدَهم إذْ عُمدتُهم الرُّجوع إلى قول عليٍّ وأولاده، وقد أسلفنا عن عليٍّ نسخه، وأنكر عَلَى ابن عبَّاسٍ اعتقادَ أنَّها غير منسوخةٍ، وكذا رُوي عن جعفر بن مُحمَّدٍ الصَّادق، روى البَيْهَقيُّ مِنْ حديث بسَّامٍ الصَّيْرَفيِّ قَالَ: سألت جعفر بن مُحمَّدٍ عن المتعة فوصفها له فقال: في ذَلِكَ الزِّنا.
          قَالَ الخَطَّابيُّ: وتحريمها كالإجماع بين المسلمين، وقال ابن التِّينِ: ثبت عن ابن عبَّاسٍ رجوعه عنها.
          تذنيب: قد أسلفنا قولَ ابنِ عمر وغيرِه فيها، وقال هو وابن الزُّبَير: هي السِّفاح، وكذا قَالَ عروة: هو الزِّنا صُراحٌ، وقيل: ليس بزنًا، وما أحلَّ الشَّارع الزِّنا بحالٍ، وقال نافعٌ عنه: متعتان كانتا عَلَى عهد رسول الله صلعم إنَّما أنهى عنهما، وأعاقب عليهما: متعة النِّساء، ومتعة الحجِّ، فهذا عمر ☺ نهى عنها بحضرة الصَّحابة، فلم ينكر ذَلِكَ عليه منكرٌ، وفيه دليلٌ على متابعتهم له عَلَى ما نهى عنه، وهو دالٌّ عَلَى النَّسخ، وابن عبَّاسٍ يقول: إنَّما أُبيحت والنِّساء قليلٌ، فلمَّا كثرت ارتفع المعنى الَّذي مِنْ أجله أُبيحت.
          وحكمة تكرارها النَّهي حتَّى في حَجَّة الوداع أنَّ مِنْ عادته تكرير مثل هذا في مغازيه، وفي المواضع الجامعة ومِنْ جملتها حَجَّة الوداع ليُنقَل لِمَنْ لم يسمع، فأكَّده حتَّى لا يُبقي شُبهةً لأحدٍ يدَّعي تحليلَها، ولأنَّ أهلَ مكَّة كانوا يستعملونها كثيرًا، وحديثُ سَبْرة دالٌّ عَلَى إبطال قول زُفَر، وأنَّ العقد لا يوجب دوامه، ولو أوجب الدَّوام لكان بفسخ الشَّرط الَّذي تعاقدا عليه، ولا يفسخ النِّكاح إذا كان ثبت عَلَى صحَّته وجوازه قبل النَّهي، ففي أمرِه بالمفارقة دليلٌ أنَّ مثل هذا العقد لا يجب به ملك بضعٍ.