التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث: إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج

          ثمَّ سَاقَ البُخَارِيُّ الحديثَ الأوَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا فَقَالَ:
          294- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللهِ _وهُوَ ابنُ المَدِينيِّ_ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ _هو ابنُ عُيَيْنَةَ_ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ القَاسِمِ سَمِعْتُ القَاسِمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: (خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلعم وَأَنَا أَبْكِي، فقَالَ: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالبَيْتِ، قَالَتْ: وَضَحَّى / رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ نِسَائِهِ بِالبَقَرِ).
          والكلامُ عليهِ مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديثُ أخرجَه البخاريُّ أيضًا في الحجِّ [خ¦1516] والأضاحي [خ¦5548]، وأخرجَه مسلمٌ أيضًا في الحجِّ.
          ثانيها: قولها: (لَا نَرَى إِلَّا الحَجَّ) أي: لا نعتقدُ أنَّا نُحْرِمُ إلَّا بِهِ؛ لأنَّا كنَّا نظنُّ امتناع العمرةِ في أشهرِ الحجِّ، فأخبرت عَنِ اعتقادِها، أو عَنِ الغالبِ مِنْ حالِ النَّاسِ، أو مِنْ حالِ الشَّارعِ، أمَّا هي فقد قالت أنَّها لم تُحْرِمْ إلَّا بعمرةٍ.
          ثالثها: (سَرِفٌ) _بفتحِ السِّينِ المهملةِ وكسرِ الرَّاءِ ثمَّ فاءٌ_ موضعٌ قريبٌ مِنْ مَكَّةَ على أميالٍ منها، قيل: سِتَّةٌ، أو سبعةٌ، أو تسعةٌ، أو عشرةٌ، أو اثنا عشر.
          رابعها: قوله: (أَنُفِسْتِ؟) يصحُّ بكسرِ الفاءِ وفتحِ النُّونِ وضمِّها لغتانِ مشهورتانِ أفصحهما الفتحُ أي: حِضْتِ، ويُقَالُ في النِّفَاسِ الَّذي هو الولادةُ: نُفِسَتْ، بضمِّ النُّون وفتحها أيضًا، ونَفَى الثَّاني النَّوَوِيُّ فقال: إنَّه بالضمِّ لا غير، وليسَ كما قالَ، فقد حكاهما فيه «صاحبُ الأفعالِ»، واقتَصَرَ الخَطَّابِيُّ على الفتحِ في الحيضِ، والضَّمِّ في النِّفَاسِ، وهو المشهورُ فيهما، وقيلَ بالوجهينِ في النِّفَاسِ، وفي الحيضِ بالفتح لا غير، ومَشَى عليه ابنُ الأَثِيرِ.
          خامسها: قوله: (إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ) أي: قَضَى به عليهنَّ، وهذا تسليةٌ وتأنيسٌ لها وتخفيفٌ لهمِّها، ومعناه: إنَّك لَسْتِ مختصَّةً به.
          سادسها: قوله: (فَاقْضِي مَا يَقْضِي الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالبَيْتِ) معنى: اقْضِي افعلي، وهو دالٌّ على أنَّ الحائضَ _ومثلُها النُّفَسَاءُ_ والجُنُبَ والمُحْدِثَ يَصِحُّ منهم جميعُ أفعالِ الحجِّ وأقوالِه وهيئاتِه إلَّا الطَّوَاف، فإنَّه يُشتَرَطُ فيه الطَّهَارَةُ، وهذا مذهبُ الجمهورِ، وصَحَّحَه أبو حنيفةَ ودَاوُدُ، واختُلِفَ عن أحمدَ في طوافِ المُحْدِثِ والنَّجِسِ، فرُوِيَ عنه عَدَمُ الصِّحَّةِ، والصِّحَّة مع لزومُ دمٍ كقولِ أبي حنيفةَ، حكاه ابنُ الجَوْزِيِّ.
          واعتذُروا عن الحديثِ بأنَّ أمرَه لها باجتنابِ الطَّوافِ لأجلِ المسجدِ واللُّبثِ فيه، وجوابُه أنَّه لو أرادَ ذلكَ لقالَ لها: لا تدخلي المسجدَ، ولمَّا قالَ لها: (لَا تَطُوفِي) كانَ ذلكَ دليلًا على المنعِ في حقِّ الطَّوَافِ نفسِه، كيفَ وقد قالَ ◙: ((الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلَاةٌ))، والصَّلَاةُ الطَّهَارَةُ شرطٌ فيها، بدليلِ قولِه ◙: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ)).
          سابعها: قولها: (وَضَحَّى عَنْ نِسَائِهِ بِالبَقَرِ) هو محمولٌ على استئذانِه لهنَّ في ذلكَ، فإنَّ التَّضحِيَةَ عَنِ الغيرِ لا تجوزُ إلَّا بإذنِه، وفي روايةٍ أخرى: ((وَأَهْدَى عَنْ نِسَائِهِ البَقَرَ))، وهي دَالَّةٌ على أنَّ البقرَ ممَّا يُهْدَى، وأنَّه يجوزُ إهداءُ الرَّجُلِ عن غيرِه، وإنْ لم يُعْلِمْهُ ولا أَذِنَ له، وكانَ هذا الهدي _والله أعلم_ تَطَوُّعًا.
          واستدلَّ به مالكٌ على أنَّ التَّضحِيَةَ بالبقرِ أفضلُ مِنَ البُدْنِ، ولا دلالةَ فيه، لأنَّها قَضِيَّةُ عينٍ محتملةٌ، ولا حُجَّةَ فيها، والشَّافعيُّ والأكثرونَ ذَهَبُوا إلى أنَّ التَّضحِيَةَ بالبُدْنِ أفضلُ مِنَ البقرِ؛ لتقديمِ البَدَنَةِ على البقرةِ في حديثِ ساعةِ الجمعةِ.