التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعى

          ░6▒ (بَابُ إِذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ، فَالْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ)
          2514- ذكر فيْه حديث ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى ابن عبَّاسٍ فَكَتَبَ إِلَيَّ (إِنَّ النَّبيَّ صلعم قَضَى أَنَّ اليَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ).
          وأخرجَه مسلمٌ أيضًا، وفي إسنادِه نافع بن عمرَ الحافظ المكِّيُّ الثِّقة، مات سنة تسعٍ وستين ومئةٍ.
          و(ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) اسمُه عبدُ الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مُلَيكةَ زهير بن عبد الله بن جُدعانَ المكفوف القاضي، مات سنة سبعَ عشرةَ ومئةٍ.
          وفي التِّرمِذيِّ مضعَّفًا مِنْ حديث عبد الله بن عمرٍو مرفوعًا: ((الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلِيهِ)).
          2515- 2516- وذكر فيْه حديثَ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: (مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:77] فَقَرَأَ إِلَى {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77]، ثُمَّ إِنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ) وساق الحديث وقد سلف [خ¦2356]، والتَّبويب يدلُّ عَلَى أنَّ مذهبَه أنَّ الرَّهن لا يكون عليْه شاهدٌ، كما نبَّه عليْه ابن التِّينِ.
          وإذا اختَلف الرَّاهنُ والمرتهِنُ في مقدارِ الدَّيْنِ والرَّهنُ قائمٌ، فقال الرَّاهن: رهنتك بعشرة دنانير، وقال المرتهن: بعشرين، فقال أبو حنيفة وأصحابُه والشَّافعيُّ والثَّوْريُّ وأحمد وإسحاق وأبو ثَورٍ: القول قول الرَّاهن مع يمينِه. وقالوا: المرتهِن مُدَّعٍ، فإذا لم يكن لَه بيِّنةٌ حلفَ الرَّاهنُ، لأنه مُدَّعًى عليْه عَلَى ظاهر السُّنَّة في الدَّعوى لو لم يكن ثَمَّ رهنٌ، ولا يلزم الرَّاهنَ مِنَ الدَّيْن إلَّا ما أقرَّ بِه أو قامت عليْه بيِّنةٌ.
          وفيْه قولٌ ثانٍ: وهو أنَّ القول قولُ المرتهِن ما لم يجاوزْ دَينُه قيمةَ رهنِه، رُوي هذا عن الحسن وقَتادة ونحوِه.
          قال مالكٌ: مع يمينِه بما بَينَه وبَين قيمة الرَّهن لأنَّ الرَّهن كشاهدٍ للمرتهِن إذا حازَه، وإذا ادَّعى أكثرَ مِنْ قيمة الرَّهن لم يُصدَّق في الزِّيادة، ويكون القولُ قولَ الرَّاهن مع يمينِه، ويبرأُ مِنَ الزِّيادة عَلَى قيمتِه ويؤدِّي قيمتَه.
          وحُجَّتهُ أنَّ الرَّاهن مدَّعٍ لاستحقاق أخذِ الرَّهْن وإخراجِه عن يد المرتهِن، والمرتهِنُ منكرٌ أن يكونَ الرَّاهن مُسْتَحِقًّا لذلك بما ذكرَه، في اليمين عَلَى المرتهن لأنَّ الرَّاهن مُعْترفٌ بكونِه رهنًا في يد المرتهِن، والرَّهن وثيقةٌ بالحقِّ وشاهدٌ لَه كالشَّهادة أنَّها وثيقةٌ بالحقِّ ومصدِّقٌ لَه فأشبهَ اليد، فصار القولُ قولَ مَنْ في يده الرَّهْنُ إلى مقدار قيمتِه، وإنَّما كان القولُ قولَ المرتهِن فيما زاد عَلَى قيمة الرَّهْن لأنَّ المرتهِن مُدَّعٍ جملةَ ما يذكره مِنَ الحقِّ، فعليْه أن يحلفَ عَلَى جملة ذلك، ثُمَّ لَه ممَّا حلفَه عليْه قَدْرُ ما شهد الرَّهنُ لَه مِنْ قيمتِه، فيكون كالشَّاهد واليمين لأنَّ المرتهِن لا شهادة لَه فيما يذكرُه فيما زاد عَلَى قيمة الرَّهن فصار مُدَّعيًا لذلك والرَّاهنُ مُدَّعًى عليْه، فكان حُكْمُ ذلك حُكمَ المدَّعِي والمدَّعَى عليْه، فإمَّا بيِّنةُ المُدَّعِي أو يمينُ المدَّعَى عليْه.
          وقولُه: (فـكَتَبْتُ إِلَى ابن عبَّاسٍ) فيْه العملُ بالكتابة كالإجازة.
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: والحديث خرج مَخرج العموم وأُريد بِه الخصوصُ، قال ابن التِّينِ: والأَولى أن يُقَال: إنَّها نازلةٌ في عينٍ والأفعالُ لا عموم لَها كالأقوال عَلَى الأصحِّ، وقد جاء في حديث: ((إلَّا في القَسَامةِ)) أي: فإنَّها عَلَى المدَّعِي إذا قال: دمي عند فلانٍ، وادَّعى ابن التِّينِ أنَّ الشَّافعيَّ وأبا حنيفة وجماعةً مِنْ متأخِّري المالكيَّة أبَوْا ذلك، ثُمَّ قال: وقيل: يحلف المدَّعِي وإن لم يقل الميِّت: دمي عند فلانٍ، وهو قولٌ شاذٌّ لم يقلْه أحدٌ مِنْ فقهاء الأمصار. وقالت فرقةٌ: لا يجبُ القتل إلَّا ببيِّنةٍ أو اعتراف القاتل وإلاَّ أُخِّرت أيمانُ المظلومين. قال: ويؤيِّد ما ذكروْه ما رواه مالكٌ والبخاريُّ وغيرُهما أنَّهُ ◙ قال: ((لو يُعْطَى النَّاس بِدَعْوَاهُم لادَّعَى نَاسٌ دماءَ قومٍ وأموالهَم، لكنِ البَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى واليَمينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ)).
          قلت: هذا _أعني قوله ((واليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ))_ ليس في صحيح البخاريِّ ولا في «الموطَّأ» فيما أعلم، وقد أسلفناها بإسنادٍ ضعيفٍ وانفصل عنْه بعضُ مَنْ قال بالأوَّل بحملِه عَلَى ما في حديث حُوَيِّصَة ومُحَيِّصَة مِنْ إظهار العداوة بين المسلمين واليهود.