شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من استعار من الناس الفرس

          ░33▒ بَابُ مَنِ اسْتَعَارَ مِنَ النَّاسِ الفَرَسَ وَالدَّابَّةَ وَغَيْرَهما(1)
          فيهِ أَنَسٌ: (كَانَ فَزَعٌ بِالمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلعم فَرَسًا مِنْ أَبي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ: المَنْدُوبُ، فَرَكِبَ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: مَا رَأَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا). [خ¦2627]
          اختلفَ العلماءُ في عاريَّة الحيوان والعقار وما لا يُعاب عليه، فروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ أنَّ مَن استعار حيوانًا أو غيره مِمَّا لا يُعابُ عليه فتلف عنده، فهو مصدَّقٌ في تلفه، ولا يضمنه إلَّا بالتَّعدِّي، وهو قول الكوفيِّين والأوزاعيِّ.
          وقال عَطَاءٌ: العاريَّة مضمونةٌ على كلِّ حالٍ، كانت مِمَّا لا يُعابُ عليه أم لا، وسواءٌ تعدَّى فيها أو لم يتعدَّ، وبه قال الشَّافعيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ، واحتجُّوا بما رواه إِسْمَاعِيْلُ بنُ عَيَّاشٍ / عن شُرَحْبِيْلَ بنِ مسلمٍ الخَوْلَانِيِّ قال: سمعت أبا أُمَامَةَ البَاهِلِيَّ: ((أَنَّه سَمِعَ النَّبِيَّ صلعم في حَجَّةِ الوَدَاعِ يَقُولُ: العَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ، والزَّعِيْمُ غَارِمٌ)).
          ورُوِيَ أنَّ ابنَ عبَّاسٍ وأبا هريرةَ ضمَّنا العاريَّة.
          والحجَّة للقول الأوَّل أنَّ معنى قوله ◙: ((العَارِيَّةُ مُؤَدَاةٌ))، هو كمعنى قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النِّساء:58]، فإذا تُلِفَتِ الأمانةُ لم يلزم المؤتمن غرمها(2)، فكذلك العاريَّة إذا علم أنَّها قد تُلِفَتْ؛ لأنَّه لم يأخذها على الضَّمان، ولا هو متعدٍّ بالأخذ(3)، فهي أمانةٌ عند المستعير، فإذا تلفت بتعدِّيه عليها، لزمه قيمتها بجنايته عليها، بمنزلة ما لو تعدَّى عليها وهي في يدِ ربِّها، فعليه قيمتها، ورُوِيَ عن عليٍّ وابنِ مَسْعُودٍ أنَّه قال:(4) ليس على مؤتمنٍ ضمانٌ.
          ومِمَّن كانَ لا يضمن المستعير الحَسَنُ والنَّخَعِيُّ، وقال شُرَيْحٌ: ليس على المستعير غير المغلِّ ضمانٌ، ولا على المستودع غير المغلِّ ضمانٌ، وكتب عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ في العاريَّة: لا يضمن صاحبها إلَّا أنْ يطَّلعَ منه على خيانةٍ.


[1] في (ز): ((وغيرها)).
[2] في المطبوع: ((عزمها)).
[3] في (ص): ((متعدِّيًا لأخذ)).
[4] قوله: ((قال)) ليس في (ز).