شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع

          ░2▒ بَابُ عَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا قَبْلَ البَيْعِ
          وَقَالَ الحَكَمُ: إِذَا(1) أَذِنَ لَهُ قَبْلَ البَيْعِ فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ.
          وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ، وَهُوَ شَاهِدٌ لاَ يُغَيِّرُهَا، فَلاَ شُفْعَةَ لَهُ.
          فيهِ أَبُو رَافِعٍ، مَوْلَى النَّبيِّ صلعم أنَّه قَالَ لِسَعْدٍ: ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ في دَارِكَ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا، فَقَالَ المِسْوَرُ: وَاللهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ لاَ أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاَفٍ مُنَجَّمَةً، أَوْ مُقَطَّعَةً، فقَالَ أَبُو رَافِعٍ: وَاللهِ(2) لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلاَ أَنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يَقُولُ: (الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ)، مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلاَفٍ وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ(3). [خ¦2258]
          قال المؤلِّف: عرض الشُّفعة على الشَّريك قبل البيع مندوبٌ إليه كما فعل أبو رافعٍ، ألا ترى أنَّه حطَّ مِنْ ثمن البيتين كثيرًا رغبةً في العمل بالسُّنَّة.
          وفيه: ما كانوا عليه مِنَ الحرص على موافقة السُّنن والعمل بها، والسَّماحة بأموالهم في جنب ذلك، فإن عرض عليه الشُّفعة وأذن له الشَّريك في بيع نصيبه، ثمَّ رجع فطالبه بالشُّفعة، فقالت طائفةٌ: لا شفعة له، هذا قول الحَكَمِ والثَّوْرِيِّ وأبي عُبَيْدٍ وطائفةٍ مِنْ أهل الحديث، واحتجُّوا بحديث سُفْيَانَ عن أبي الزُّبَيْرِ عن جابرٍ قال: قال رسول الله صلعم: ((مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيْكٌ في رَبْعَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيْعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيْكَهُ، فِإِنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ)) قالوا: فدلَّ هذا الحديث على أنَّ تركه ترك تنقطع به شفعته، ومحالٌ أن يقول له النَّبيُّ صلعم: (إِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ)، فإذا ترك لا يكون لتركه معنى.
          وقالت طائفةٌ: إن عرض عليه(4) الأخذ بالشُّفعة قبل البيع فأبى أن يأخذ ثمَّ باع، فأراد أن يأخذ بشفعته فذلك له، هذا قول مالكٍ والكوفيَّين، وروايةٌ عن أحمدَ، ويشبه مذهب الشَّافعيِّ، واحتجَّ أحمدُ فقال: لا تجب له الشُّفعة حتَّى يقع البيع، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، وقد احتجَّ بمثله ابن أبي ليلى.
          واختلفوا في المسألة الَّتي ذكرها الشَّعبيُّ في هذا الباب، فقال مالكٌ: إذا باع الشَّريك نصيبه مِنْ أجنبيٍّ وشريكه حاضرٌ يعلم ببيعه، فله المطالبة بالشُّفعة متى شاء، ولا تنقطع شفعته إلَّا بمضيِّ مدَّةٍ يعلم أنَّه في مثلها تاركٌ.
          واختلف في المدَّة، فذكر ابن حارثٍ(5) أنَّ الحدَّ الذي تنقطع إليه الشُّفعة عند مالكٍ مرور السَّنة، وقال ابن القَاسِمِ: وقفت مالكًا على مرور السَّنة فلم يرها كثيرًا، وذلك إذا علم الشَّفيع بشفعته، فإذا لم يعلم فهو على شفعته أبدًا، وإن كان غائبًا فهو على شفعته وإن علم بها.
          وقال ابن المَاجِشُونِ: لا ينقطع(6) حقُّ الشَّفيع(7) إلَّا الطُّول، وقد سمعت مالكًا يقول: خمسة(8) أعوامٍ ليس بكثيرٍ، وقال أَصْبغُ: السَّنتان والثَّلاث قليلٌ لا(9) ينقطع معه الشُّفعة، وقال أبو حنيفةَ: إذا وقع البيع فعلم الشَّفيع به، فأشهد مكانه أنَّه على شفعته، وإلَّا بطلت شفعته، وبه قال الشَّافعيُّ وقال(10): إلَّا أن يكون له عذرٌ مانعٌ مِنْ طلبها مِنْ حبسٍ أو غيره، فهو على شفعته. واحتجَّ الكوفيُّون فقالوا: إذا سكت عن المطالبة بالشُّفعة على الفور، كان ذلك رضًى منه بتقرير النَّبيِّ ◙ ملك(11) المشتري، قياسًا على خيار البكر أنَّه على الفور. والحجَّة لمالكٍ في أنَّه على شفعته إلَّا أن يطول زمانه، فلأنَّ الشُّفعة حقٌّ للشَّفيع، فهو واجبٌ(12) له حتَّى يُعلم أنَّه قد تركها، وذلك بمنزلة الأَمَة(13) إذا أعتقت(14) تحت العبد، أنَّ لها أن تختار نفسها أبدًا ما لم يُعلم تركها / للخيار، وذلك بأن تختار زوجها، أو يطأها بعد علمها بالعتق وهي طائعةٌ، وكذلك المشتري للسِّلعة المعيبة، له ردُّها إلَّا إن يرضى بالعيب، أو يستخدم العبد أو الأَمَة، أو يستعمل(15) ما اشتراه وبه عيبٌ بعد أن يعلم به، فليس له الردُّ لأنَّ استعماله ذلك دليلٌ على رضاه، وقبل أن يعلم رضاه بقوله أو دلالة الحال، فله الردُّ بالعيب، وكذلك(16) الشَّفيع قبل أن يعلم ترك شفعته بالقول أو دلالة الحال، فله الأخذ بالشُّفعة.
          واستدلَّ أهل العراق على وجوب الشُّفعة للجار بقوله ◙: ((الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ))، غير أنَّهم جعلوا الشَّريك في المنزل أحقَّ بالشُّفعة مِنَ الجار، فإن سلَّم الشُّفعة الشَّريك في الدَّار، فالجار الملاصق أحقُّ بالشُّفعة مِنْ غيره، فإن كان بينهما طريقٌ واحدةٌ(17) فلا حقَّ له في الشُّفعة، هذا قول أبي حنيفةَ وأصحابه، فتعلَّقوا بلفظة ((الجَارِ)) في قوله(18) ◙: ((الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ)) وقالوا: لا يُراد بهذا الحديث الشَّريك لأنَّ الجار لا يقع إلَّا على غير الشَّريك، وزعموا أنَّه لا يوجد في اللُّغة أنَّ الشَّريك يُسمَّى جارًا، فخالفوا نصَّ الحديث، وتركوا أوَّله لتأويلٍ تأوَّلوه في آخره، فأمَّا خلافهم لنصِّه، فهو أنَّ أبا رافعٍ كان شريك سعدٍ بالبيتين في داره، ولذلك دعاه إلى الشِّراء بأقلَّ ممَّا أعطاه غيره ممَّن ليس بشريكٍ(19) له(20)، وفيه: أنَّ أبا رافعٍ سمَّى شريكه جارًا حين صرف معنى قوله ◙: ((الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ)) إلى شريكه، وهو روى الحديث وعلم معناه، ولو كان المراد بقوله: (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ)(21) الجار غير الشَّريك كما زعم أهل العراق ما سلَّم سعدٌ لأبي رافعٍ احتجاجه بالحديث ولا استدلاله به، ولقال له سعدٌ: ليس معنى الحديث كما تأوَّلتَه، وإنَّما الجار المراد به غير الشَّريك. فلمَّا لم يردَّ عليه تأويله، ولا أنكره المسور، وهم الفصحاء أهل اللِّسان المرجوع إليهم(22) [عُلِمَ أنَّ معنى الحديث ما تأوَّله أبو رافعٍ، وأنَّ الجار فيه يُراد به الشَّريك، وأمَّا بيع أبي رافعٍ البيتين(23) مِنْ سَعْدٍ بأقلَّ ممَّا أعطاه غيره، فإنَّما كان على وجه الطَّوع(24) منه، لأنَّه لا خلاف بين العلماء أنَّه لا يجب على الشَّريك أن يعطي شريكه الشِّقص الَّذي يُريد بيعه بأقلَّ مِنْ ثمنه، وكلُّ مَنْ قارب بدنه بدن صاحبه قيل له: جارٌ في لسان العرب، ولذلك قالوا لامرأة الرَّجل: جارةٌ، لما بينهما مِنَ الاختلاط بالزَّوجيَّة، وقد جاء في حديث دية الجنين: ((أَنَّ حَمْلَ بنَ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي)) يُريد امرأتيه، ومنه قول الأَعْشَى لامرأته:
أَجَارَتَنَا بِيْنِي فَإِنَّكِ طَالِقَةْ
          فكذلك الشَّريك يُسمَّى جارًا لما بينهما مِنَ الاختلاط بالشَّركة، وتأويل قوله ◙: ((الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ)) عند أهل الحجاز على وجهين:
          أحدهما: أن يُراد به الشَّريك، ويكون حقُّه الأخذ بالشُّفعة دون غيره، وهو أولى الوجهين لما تقدَّم مِنَ الدَّلائل.
          والوجه الثَّاني: يحتمل أن يُراد به الجار غير الشَّريك، ويكون حقُّه غير الشُّفعة، فيكون جار الرحبة يُريد الارتفاق بها، ويُريد مثل ذلك غير الجار، فيكون الجار أحقُّ بصقبه، فإن لم يكن هذا فيكون ذلك فيما يجب للجيران بعضهم على بعضٍ مِنْ حقِّ الجوار وما للأجنبيين مِن الكرامة والبرِّ وسائر الحقوق الَّذي إذا اجتمع فيها الجار ومَنْ ليس بجارٍ، وجب إيثار الجار على مَنْ ليس بجارٍ مِنْ طريق مكارم الأخلاق وحسن الجوار، لا مِنْ طريق الفرض اللَّازم، فقد(25) أوصى الله تعالى بالجار فقال: {وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ}[النِّساء:36]وقال ◙: ((مَا زَالَ جِبْرِيْلُ يُوْصِيْنِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)) ذكره ابن المُنْذِرِ عن الشَّافعيِّ. وإذا احتمل هذا كلُّه الحديث المجمل، ثمَّ فسَّره حديثٌ آخر بقوله: (فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ) كان المفسَّر أَولَى مِنَ المجمل.
          والصَّقَبُ: القُرب، يقالُ: قد أصقبَ فلانٌ فلانًا، إذا قرَّبه منه، فهو يصقبه،]
(26) / وقد تصاقبا: إذا تقاربا.


[1] في (ز): ((إن)).
[2] قوله: ((والله)) ليس في (ز).
[3] قوله: ((وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ)) ليس في (ز).
[4] في (ز): ((له)).
[5] كذا في (ز) وغير واضحة في (ص).
[6] في (ز): ((لا يقطع)).
[7] في المطبوع: ((الشُّفعة))، وغير واضحة في (ص).
[8] في المطبوع: ((الخمس))، وغير واضحة في (ص).
[9] في (ز): ((لا)).
[10] في (ز): ((قال)).
[11] في (ز): ((بتقرير الشَّيء على ملك)).
[12] في (ز): ((فهي واجبة)).
[13] في (ز): ((بمنزلة الخيار للأَمَة)).
[14] في (ز): ((عتقت)).
[15] في (ز): ((ويستعمل)).
[16] في (ز): ((فكذلك)).
[17] في (ز): ((نافذة)).
[18] في (ص): ((الجار، وقوله)).
[19] في المطبوع: ((شريك)).
[20] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[21] قوله: ((إلى شريكه))، وهو روى الحديث وعلم معناه، ولو كان المراد بقوله: (الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ) ليس في (ز).
[22] قوله: ((المرجوع إليهم)) ليس في (ز).
[23] في المطبوع: ((للبيتين)).
[24] في المطبوع: ((التَّطوُّع)).
[25] في (ز): ((وقد)).
[26] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).