عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

ذكر معناه
  
              

          ذِكْرُ معناهُ:
          قوله: (إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ) أي: العَشْر الآخِر، وصَرَّح به في حديث عليٍّ عند ابنِ أبي شَيْبَةَ.
          قوله: (شَدَّ مِئْزَرَهُ) أي: إزاره؛ كقولهم: مِلحَفة ولِحاف، وهو كنايةٌ إمَّا عن ترك الجِمَاع، وإمَّا عنِ الاستعداد للعبادة والاجتهادُ لها زائدٌ على ما هو عادته صلعم ، وإمَّا عنهما كليهما معًا، ولا ينافي إرادة الحقيقة أيضًا بأنَّ شدُّ مئزره ظاهرًا أيضًا، وجزم عبد الرَّزَّاق عَنِ الثَّوْريِّ أنَّ المرادَ به الاعتزالُ مِنَ النساء، واستشهد بقول الشاعر:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُم                     عَنِ النِّسَاءِ وَلَو بَاتَتْ بِأَطْهَارِ
          وذكر ابنُ أبي شَيْبَةَ عن أبي بَكْر بن عَيَّاش نحوَه، وفي «التلويح»: المئزر والإزار: ما يأتزر به الرجلُ مِن أسفله، وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث، وهو كنايةٌ عَنِ الجدِّ والتشمير في العبادة، وعَنِ الثَّوْريِّ أنَّهُ مِن ألطف الكنايات عَنِ اعتزال النساء، وقال القُرطبيُّ: وقد ذهب بعضُ أئمَّتِنا إلى أنَّهُ عبارةٌ عَنِ الاعتكاف، قال: وفيه بُعْدٌ، لقوله: «أَيْقَظَ أَهْلَهُ»، وهذا / يدلُّ على أنَّهُ كان معهم في البيت، وهو كان في حال اعتكافه في المسجد، وما كان يخرج منه إلَّا لحاجة الإنسان، على أنَّهُ يصحُّ أن يوقِظَهنَّ مِن موضعه من باب الخوخة التي كانت له إلى بيته في المسجد، وقال صاحب «التلويح»: يحتمل أيضًا أن يكون قولُه: (يُوقِظُ أَهْلَهُ) ؛ أي: المعتكِفَة معه في المسجد، أو يحتمل أن يوقِظَهنَّ إذا دخل البيتَ لحاجته.
          قوله: (وَأَحْيَا لَيْلَهُ) يعني: باجتهاده في العَشْر الأخير مِن رمضان، لاحتمال أن يكون الشهر إمَّا تامًّا وإمَّا ناقصًا، فإذا أحيا لياليَ العشر كلَّها؛ لم يَفُتْه منها شَفْعٌ ولا وترٌ، وقيل: لأنَّ العَشْرَ آخِرُ العملِ، فينبغي أن يحرص على تجويد الخاتمة، ونسبةُ الإحياء إلى الليل مجازٌ، فإذا سهر فيه بالطاعة فكأنَّه أحياه؛ لأنَّ النومَ أخو الموت، ومنه قوله: «لا تجعلوا بيوتَكم قُبُورًا» أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات، فتكون بيوتُكم كالقبور، قال شيخُنا: وفي حديث عائشةَ في «الصحيح»: أحيا الليلَ كلَّه، والظاهرُ _والله أعلم_ معظم الليل؛ بدليل قولها في الحديث الصَّحيح: ما علمتُه قام ليلةً حَتَّى الصباح، وقال النَّوَوِيُّ: وقولها: «أَحْيَا اللَّيْلَ» أي: استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرِها، قال: وفيه استحبابُ إحياء لياليه بالعبادات، قال: وأَمَّا قولُ أصحابنا: يُكرَه قيام الليل؛ فمعناه الدوام عليه، ولم يقولوا بكراهة ليلةٍ وليلَتين والعشر، ولهذا اتَّفقوا على استحباب إحياء ليلَتَي العيدين وغيرِ ذلك.
          قوله: (وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ) أي: للصلاة والعبادة، وروى التِّرْمِذيُّ مِن حديث عليٍّ ☺ : أنَّ النَّبِيَّ صلعم كان يوقظ أهلَه في العَشْرِ الأواخر مِن رمضان، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وروى أيضًا مِن حديث عائشةَ ♦ قالت: كان رسولُ الله صلعم يجتهد في العَشْرِ الأواخِر ما لا يجتهد في غيرها، وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وروى مُحَمَّد بن نَصْرٍ من حديث زينبَ بنتِ [أمِّ] سَلَمة: لم يكن النَّبِيُّ صلعم إذا بَقِيَ مِن رمضان عشرةُ أيَّام يَدَعُ أحدًا مِن أهله يطيق القيام إلَّا أقامه.