عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

بيان المعاني
  
              

          بيانُ المعانِي:
          قولُهُ: (يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ) كانَتْ وفاتُهُ سنةَ خمسينَ مِنَ الهِجْرَةِ، وكانَ واليًا على الكوفَةِ في خلافَةِ مُعاويَةَ، واستنابَ عند موتِهِ ابنَه عروة، وقيلَ: استنابَ جَريرًا المذكور؛ ولهذا خَطَبَ الخُطبَةَ المذكورَةَ.
          قوله: (فَحَمِدَ اللهَ) أي: أثْنَى عَلَيهِ بالجميلِ، و(أَثْنَى عَلَيهِ) أي: ذَكَرَهُ بالخَيرِ، ويحْتَمِلُ أَنْ يُراد بـ(الحمد) وصفُه مُتحلِّيًا بالكمالاتِ، وبالثَّناءِ وَصفُهُ مُتخلِّيًا عنِ النَّقائِص، فالأوَّل إشارَةٌ إلى الصفاتِ الوجوديَّة، والثَّاني: إلى الصِّفَات العَدميَّة؛ أي: التَّنْزِيهات.
          قوله: (حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ) أي: بدَل هذا الأمير الذي ماتَ؛ وهو المغيرةُ.
          فإنْ قُلتَ: لِمَ نَصَحَهُم بالحلْمِ والسكونِ؟ قلتُ: لأنَّ الغالِبَ أنَّ وفاةَ الأمراء تؤدِّي إلى الفِتْنَةِ والاضطرابِ بين النَّاسِ، والهَرْجِ والمَرج، وأمَّا ذكره (الاتَّقاءَ) ؛ فلأنَّهُ ملاكُ الأمرِ، ورأسُ كلِّ خَيرٍ، وأشارَ بهِ إلى ما يتعلَّقُ بِمصالِح الدِّين، [وبالوقارِ والسَّكينَةِ إلى ما يتعلَّقُ بمصالِح الدُّنْيا].
          قَولُهُ: (فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الْآنَ) إمَّا أَنْ يُرادَ بِهِ حَقيقتُهُ، فيكونُ ذلك الأميرُ جَريرًا بِنَفْسِهِ؛ لما روي أنَّ المغيرَةَ استخلَفَ جَريرًا على الكوفَةِ عند موتِهِ، على ما ذكرنا، أو يريدُ بهِ المدَّةَ القريبةَ مِنَ الآنَ؛ فَيكونُ ذلك الأميرُ زِيادًا؛ إذ ولَّاهُ مُعاويَةُ بعد وفاةِ المغيرةِ الكُوفَةَ.
          قولُهُ: (اسْتَعْفُوا) أي: اسألوا اللهَ لأميرِكُم العفوَ؛ فإنَّهُ كانَ يُحبُّ العَفوَ عن ذُنوبِ النَّاسِ؛ إذ يعامِل بالشَّخص كما هو يُعامَل بالنَّاسِ، وفي المثلِ السائِر: (كما تَدينُ تُدانُ)، وقيلَ: كما تَكِيلُ تُكالُ، وقال ابن بَطَّالٍ: جعلَ الوسيلَةَ إلى عَفوِ اللهِ بالدُّعاء بأغلبِ خلال الخَيرِ عليه، وما كانَ يُحبُّهُ في حياتِهِ، وكذلك يُجزى كلُّ أحدٍ يومَ القيامة بأحسنِ أخلاقِهِ وأعمالِهِ.
          قوله: (وَرَبِّ هَذَا المَسْجِدِ) يُشعِرُ بأنَّ خُطبتَهُ كانَتْ في المسجدِ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ إشارةً إلى جهةِ المسجدِ الحرام، ويَدلُّ عليه روايةُ الطبرانِيِّ بلفظ (وربِّ الكعبَةِ)، ذكرَ ذلك؛ للتنبيهِ على شرفِ المُقسَمِ بِهِ؛ ليكونَ أَدْعى للقبولِ.
          قوله: (إِنِّي لَنَاصِحٌ) فيه إشارَةٌ إلى أنَّهُ وَفَّى بما بايَعَ النَّبِيَّ صلعم ، وأنَّ كلامَهُ صادِقٌ خالِصٌ عنِ الأغراضِ الفاسِدَةِ.
          فإنْ قُلتَ: النُّصْحُ للكافِرِ يَصحُّ بأنْ يُدعى إلى الإسلام، ويُشار عليه بالصَّوابِ إذا استشارَ؛ فَلِمَ قَيَّدَهُ بقولِهِ: (لِكُلِّ مُسْلِمٍ) وبقولِهِ: (لَكُمْ) ؟
          قلتُ: هذا التَّقييدُ مِن حيثُ الأغلبُ فَقَطْ؛ فافهم.