عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

ذكر ما يستفاد منه
  
              

          ذِكْرُ ما يُستفاد منه:
          فيه: أنَّ صلاة التطوُّع فِعلُها في البيوت أفضلُ مِن فعلها في المساجد ولو كانت في المساجد الفاضلة التي تُضعَّف فيها الصلاة على غيرها، وقد ورد التَّصريح بذلك في إحدى روايتي أبي داود لحديث زيد بن ثابت، فقال فيها: «صلاة المرء في بيته أفضل مِن صلاته في مسجدي هذا إلَّا المكتوبة»، وإسنادها صحيح، فعلى هذا لو صلَّى نافلةً في مسجد المدينة؛ كانت بألف صلاة، على القول بدخول النوافل في عموم الحديث، وإذا صلَّاها في بيته؛ كانت أفضل من ألف صلاة، وهكذا حكم مسجد مكَّة وبيت المقدس إلَّا أنَّ التضعيف بِمَكَّةَ يحصل في جميع مكَّة، بل صحَّح النَّوَوِيُّ: أنَّ التَّضعيف يحصل في جميع الحرم.
          واستثني مِن عموم الحديث جملةٌ مِن النوافل، ففِعلُها في غير البيت أفضلُ؛ وهي: ما تُشرَع فيها الجماعة؛ كالعيدين والاستسقاء والكسوف، وقالت الشَّافِعِيَّة: وكذلك: تحيَّة المسجد، وركعتا الطواف، وركعتا الإحرام إن كان عند الميقات مسجدٌ؛ كذي الحليفة، وكذلك التنفُّل يوم الجمعة قبل الزوال وبعده.
          وفيه: حجَّة على مِن استحبَّ النوافل في المسجد، ليليَّة كانت أو نهاريَّة، حكاه القاضي عياض والنَّوَوِيُّ عن جماعةٍ من السلف، وعلى مَن استحبَّ نوافل النهار في المسجد دون نوافل الليل، وحُكي ذلك عن سفيان الثَّوْريِّ ومالك.
          وفيه: ما يدلُّ على أصل التراويح؛ لأنَّه صلعم صلَّاها في رمضان بعض اللَّيالي، ثُمَّ تركها؛ خشية أن تُكتَب علينا، ثُمَّ اختلف العلماء في كونها سنَّةً أو تطوُّعًا مبتدأً، فقال الإمام حَمِيد الدين الضَّرير: نفس التراويح سنَّةٌ، أَمَّا [أداؤها بالجماعة؛ فمستحبٌّ، وروى الحسن عن أبي حنيفة]: أنَّ التراويح سنَّةٌ لا يجوز تركها، وقال الشهيد: هو الصحيح، وفي «جوامع الفقه»: التراويح سنَّة مؤكَّدةٌ، والجماعة فيها واجبةٌ، وفي «الروضة» لأصحابنا: أنَّ الجماعة فضيلةٌ، وفي «الذخيرة» لأصحابنا عن أكثر المشايخ: أنَّ إقامتها بالجماعة سنَّةٌ على الكفاية، ومَن صلَّى في البيت؛ فقد ترك فضيلة المسجد، وفي «المبسوط»: لو صلَّى إنسان في بيته؛ لا يأثم، فعلها ابن عمر والقاسم وسالم ونافع وإبراهيم، ثُمَّ إِنَّها عشرون ركعة، وبه قال الشَّافِعِيُّ وأحمد، ونقله القاضي عن جمهور العلماء، وحُكي أنَّ الأسود بن يزيدَ كان يقوم بأربعين ركعةً، ويوتر بسبع، وعند مالك: تسع ترويحاتٍ بستٍّ وثلاثين / رَكْعةً غير الوتر، واحتجَّ على ذلك بعمل أهل المدينة، واحتجَّ أصحابنا والشَّافِعِيَّة والحنابلة بما رواه البَيْهَقيُّ بإسنادٍ صحيحٍ عن السائب بن يزيدَ الصحابيِّ قال: كانوا يقومون على عهد عمر ☺ بعشرين ركعةً، وعلى عهد عثمان وعليٍّ ☻ مثلَه.
          فَإِنْ قُلْتَ: قال في «الموطَّأ»: عن يزيد بن رُومان قال: كان النَّاس في زمن عمر ☺ يقومون في رمضانَ بثلاثٍ وعشرين رَكْعة؟
          قُلْت: قال البَيْهَقيُّ: والثَّلاث هو الوتر، ويزيدُ لم يدرك عمرَ، وفيه انقطاعٌ.
          فائدةٌ: استثناءُ المكتوبة مِمَّا يُصلَّى في البيوت هو في حقِّ الرجال دون النساء، فإنَّ صلاتهنَّ في البيوت أفضلُ وإن أُذِن لهنَّ في حضور بعض الجماعات، وقد قال صلعم في الحديث الصحيح: «إذا استأذنكم نساؤكم باللَّيل إلى المسجد؛ فائذَنوا لهنَّ وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ».
          أخرى: قوله: (فِي بُيُوتِكُم) يحتمل أن يكون المراد بذلك إخراجَ بيوت الله؛ وهي المساجد، فيدخل فيه بيت المصلِّي وبيت غيره؛ كمَن يريد أن يزور قومًا في بيوتهم، ونحو ذلك، ويحتمل أن يريد بيت المصلِّي دون بيت غيره، وهو ظاهر قوله في الرواية الأخرى: «أفضل صلاة المرء في بيته»، فيخرج بذلك أيضًا بيتُ غيرِ المصلِّي.
          أخرى: اختلف في المراد بقوله في حديث ابن عمر: (صلُّوا في بيوتكم)، فقال الجمهور فيما حكاه القاضي عنهم: إنَّ المراد في صلاة النافلة استحبابُ إخفائها، قال: وقيل هذا في الفريضة، ومعناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم؛ ليقتدي بكم مَن لا يخرج إلى المسجد مِن نسوةٍ وعبيدٍ ومريض ونحوهم، قال النَّوَوِيُّ: والصواب: أنَّ المراد النافلةُ، قال: ولا يجوز حمله على الفريضة.
          أخرى: إِنَّما حُثَّ على النوافل في البيوت؛ لكونها أخفى وأبعد مِن الرياء، وأصونَ من المحبطات، وليَتبرَّك البيت بذلك، وتنزِلَ فيه الرحمة والملائكة، وينفرَ منه الشيطان. /