عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

ذكر معناه
  
              

          ذِكْرُ معناهُ:
          قوله: (إِذا جامَعَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ) ويروى: <امرأته>.
          قوله: (ما مَسَّ المَرْأَةَ مِنْهُ) وفي (مسَّ) ضميرٌ، وهو فاعله، يرجع إلى كلمة (ما) ومحلُّها النَّصب على أنَّها مفعولٌ لقوله: (يغسِل) أي: يغسلُ الرَّجلُ المذكورُ العضوَ الذي مسَّ فرجَ المرأة مِن أعضائه، قال الكَرْمانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: المقصودُ منه بيانُ ما أصابه مِن رطوبة فرجِ المرأة، فكيف يدلُّ عليه وظاهرٌ أنَّ ما مسَّ المرأةَ مطلقًا مِن يدٍ ورجلٍ ونحوه؛ لا يجب غَسلُه؟ قُلْت: فيه إمَّا إضمارٌ أو كنايةٌ؛ لأنَّ تقديرَه: يغسل عضوًا مسَّ فرجَ المرأة، أو هو مِن إطلاق اسمِ اللَّازم _وهو مسُّ المرأة_ وإرادةِ الملزوم؛ وهو إصابة رطوبة فرجِها.
          قوله: (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ) صريحٌ بتأخير الوضوء عن غَسْلِ ما يُصيبُه منها، وزاد عبد الرَّزَّاق عن الثَّوْريِّ عن هشام فيه: (وضوءه للصَّلاة).
          قوله: (وَيُصَلِّي) هو تصريحٌ في الدَّلالة على ترك الغَسْلِ مِن الحديث الذي قبله.
          (ص) قالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الغَسْلُ أَحْوَطُ، وَذَلِكَ الأَخِيرُ إِنَّما بَيَّنَّا؛ لاِخْتِلافِهِمْ.
          (ش) فاعل (قالَ) محذوفٌ، وهو الراوي عن البُخاريِّ، و(أَبُو عَبْدِ اللهِ) هو كنية البُخاريِّ، وقوله: (الغَسْلُ أَحْوَطُ) مقولُ القول؛ أي: الاغتسالُ مِن الجماع بغيرِ إنزالٍ أحوطُ؛ أي: أكثر احتياطًا في أمر الدين، وأشار بقوله: (وَذَلِكَ الأَخِيرُ) إلى أنَّ هذا الحديثَ الذي في الباب غيرُ منسوخٍ؛ أي: آخرَ الأمرَين مِن الشَّارع، وقوله: (الأَخِيرُ) على وزن (فَعِيل)، هو رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <وذلك الآخَرُ> بالمدِّ بغير ياء، وقال ابن التِّين: ضبطناه بفتح الخاء.
          قوله: (إِنَّما بَيَّنَّا؛ لاِخْتِلافِهِمْ) وفي رواية كريمة: <إِنَّما بيَّنا اختلافَهم>، وفي رواية الأصيليِّ: <إِنَّما بيَّناهُ / لاختلافِهم> أي: لأجل اختلافِ الصحابة في الوجوب وعدمه، أو لاختلاف المُحدِّثين في صحَّته وعدمِها، وقد حَطَّ ابن العربِّي على البُخاريِّ؛ لمخالفته في هذا الجمهور، فإنَّ إيجابَ الغُسلِ أطبقَ عليه الصَّحابة ومَن بعدهم، وما خالف إلَّا داود، ولا عبرةَ بخلافه، وكيف يحكم باستحباب الغُسلِ وهو أحد أئِمَّة الدين، ومن أجلَّة علماء المسلمين؟! ثُمَّ قال: [ويحتمل أن يكونَ مراده بقوله: (الغسل أحوط) أي: في الدين، وهو بابٌ مشهورٌ في أصول الدين، ثُمَّ قال]: وهو الأشبه بإمامته وعلمه.
          قال بعضهم: قُلْتُ: وهذا هو الظاهر مِن تصرُّفه، فَإِنَّهُ لم يترجم بجواز تركِ الغُسْلِ، وإِنَّما ترجم ببعض ما يُستفاد مِن الحديث بغير هذه المسألةِ.
          قُلْت: مِن ترجمتِه يُفهَمُ جوازُ تركِ الغُسلِ؛ لأنَّه اقتصر على غَسْلِ ما يصيب الرجلَ مِن المرأة، وأنَّه هو الواجب، والغُسلُ غيرُ واجبٍ، ولكنَّه مُستحَبٌّ؛ للاحتياط.
          وأَمَّا قول ابن العربيِّ: (أطبق عليه الصحابة) ففيه نظرٌ؛ فإنَّ الخلافَ مشهورٌ في الصحابة، ثبتَ عن جماعة منهم، كذا قال بعضهم.
          قُلْت: لقائل أن يقولَ: انعقد الإجماع عليه، فارتفع الخلاف، بيانه ما رواه الطَّحاويُّ: حَدَّثَنا رَوْح بن الفرج قال: حدَّثني يحيى بن عبد الله بن بكيرٍ قال: حدَّثني اللَّيث قال: حدَّثني مَعْمَر بن أبي حُيَيَّة؛ [بِضَمِّ الحاء المُهْمَلة، وفتح الياء آخر الحروف المكرَّرة، فهي حُيَيَّة بنت مُرَّةَ بن عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن شُعَيْبٍ، قاله الزُّبَير، وقال ابن ماكولا: ومَن قال فيه: ابن أبي حبيبة]؛ فقد غلط، و(مَعمَرٌ) هذا يروي عن عُبيد الله بن عَدِيِّ بن الخِيارِ، قال: تذاكر أصحابُ رسولِ الله صلعم عند عُمَر بن الخَطَّاب ☺ الغُسلَ من الجنابة، فقال بعضهم: إذا جاوزَ الختانُ الختانَ؛ فقد وجبَ الغُسلُ، وقال بعضهم: الماء من الماء، فقال عمر ☺ : قد اختلفتم وأنتم أهل بدرٍ الأخيارُ، فكيفَ بالنَّاس بعدكم؟! فقال عليُّ بن أبي طالب ☺ : يا أمير المؤمنين؛ إن أردت أن تعلم ذلك؛ فأرسِلْ إلى أزواج النَّبِيِّ صلعم ، فسلْهُنَّ عن ذلك، فأرسلَ إلى عائشةَ ♦، فقالت: إذا جاوز الختانُ الختانَ؛ فقد وجب الغسلُ، فقال عمرُ ☺ عند ذلك: لا أسمعُ أحدًا يقول: الماءُ منَ الماء إلَّا جعلته نكالًا، قال الطَّحاويُّ ☼ : فهذا عمرُ ☺ قد حمل النَّاسَ على هذا بحضرة أصحابِ رسول الله صلعم ، فلم يُنكِرْ ذلك عليه مُنكِرٌ.
          وادَّعى ابن القصَّار أنَّ الخلافَ ارتفع بين التَّابِعينَ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الخَطَّابيَّ قال: قال به مِن الصحابة جماعةٌ، فسمَّى بعضهم، ومن التَّابِعينَ الأَعْمَشُ، وتبعه القاضي عياضٌ، ولكنَّه قال: لم يقل به أحدٌ بعدَ الصحابة غيره، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه قد ثبت ذلك عن أبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحْمَن، [وهو في «سنن أبي داود» بإسنادٍ صحيحٍ: حَدَّثَنا أحمد بن صالح قال: حَدَّثَنا ابن وهبٍ قال: أخبرني عَمْرٌو عن ابن شهاب، عن أبي سَلَمَةَ بن عبد الرَّحْمَن]، عن أبي سعيد الخُدْريِّ: أنَّ رسول الله صلعم قال: «الماء مِنَ الماء»، وكان أبو سَلَمَةَ يفعل ذلك، وعن هشام بن عروة عند عبد الرَّزَّاق، وعنده أيضًا عن أبي جُرَيج عن عطاء أنَّهُ قال: لا تطيب نفسي حَتَّى أغتسلَ؛ مِن أجل اختلاف الناس؛ لآخذَ بالعُروة الوُثقى.